‫نفحات الولایه (شرح عصری جامع لنهج البلاغه) المجلد 2

اشارة

عنوان و نام پدیدآور: ‫نفحات الولایه : شرح عصری جامع لنهج البلاغه ‫ المجلد 2/ ناصرمکارم شیرازی ، بمساعده مجموعه من الفضلاء ‫؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی .

مشخصات نشر: ‫قم ‫: مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع ) ‫، 1426ق .- ‫= 1384.

مشخصات ظاهری:10 ‫ج.

شابک: ‫30000 ریال ‫ ‫: دوره ‫ ‫ 964-813-958-X: ؛ ‫ ج . 1 ‫ ‫ 964-813-907-5 : ؛ ‫ج . 2 ‫ ‫ 964-813-908-3 : ؛ ‫ج . 3 ‫ ‫ 964-813-917-2 : ؛ ‫ج . 4 ‫ ‫ 964-813-918-0 : ؛ ‫ج.5 ‫ : 964-813-941-5 ؛ ‫70000 ریال ‫: ‫ج. 6 ‫ ‮ 978-964-533-120-5 : ؛ ‫70000 ریال ‫: ‫ج. 7 ‫ ‮ 978-964-533-121-2 : ؛ ‫70000 ریال ‫: ج. 8 ‫ ‮ 978-964-533-122-9 : ؛ ‫70000 ریال ‫: ج. 9 ‫ ‮ 978-964-533-123-6 : ؛ ‫70000 ریال ‫: ‫ج. 10 ‫ ‮ 978-964-533-124-3 :

یادداشت: ‫عربی .

یادداشت: ‫ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).

یادداشت: ‫ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).

یادداشت: ‫کتابنامه .

مندرجات: ‫.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180 ‫.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200 ‫.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241 ‫.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31 ‫.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53

موضوع:علی بن ابی طالب ‫ ‫(ع) ، امام اول، ‫23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها

موضوع:علی بن ابی طالب ‫ ‫(ع) ، امام اول، ‫23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار

موضوع:علی بن ابی طالب ‫ ‫(ع) ، امام اول، ‫23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها

موضوع:علی بن ابی طالب ‫ ‫(ع) ، امام اول، ‫23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر

شناسه افزوده:حمرانی ، عبدالرحیم

شناسه افزوده:علی بن ابی طالب ‫ ‫(ع) ، امام اول، ‫23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح

شناسه افزوده: ‫مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)

رده بندی کنگره: ‫BP38/02 /م7 ‫ ‮ 1384

رده بندی دیویی: ‫ ‮ 297/9515 ‮

شماره کتابشناسی ملی: ‫ م 84-40347

ص :1

اشارة

ص :2

‫نفحات الولایه : شرح عصری جامع لنهج البلاغه ‫ المجلد 2

ناصرمکارم شیرازی ، بمساعده مجموعه من الفضلاء ‫

اعداد عبدالرحیم الحمدانی

ص :3

ص :4

الخطبة الحادی والعشرون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

«وهی کلمة جامعة للعظمة والحکمة»

«فإنّ الغایَةَ أمامَکُم، وإنَّ وَراءَکُم السّاعَةَ تَحْدُوکُم. تَخَفَّفوا تَلحَقُوا، فَإنَّما یُنتَظر بِأَوّلِکُم آخِرُکُم» .

قال السید الشریف الرضی: أقول: إنّ هذا الکلام لو وزن بعد کلام اللّه سبحانه وبعد کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله بکل کلام لمال به راجحاً، وبرَّز علیه سابقاً فأمّا قوله علیه السلام: «تخففوا تلحقوا» فما سمع کلام أقلّ منه مسموعاً ولا أکثر منه محصولاً وما أبعد غورها من کلمة! وأنقع نطفتها من حکمة! وقد نبهنا فی کتاب «الخصائص» علی عظم قدرها وشرف جوهرها.

شرح الخطبة

تخففوا تلحقوا!

ورد هذا الکلام ضمن سیاق الخطبة 167، حیث تضمنت تلک الخطبة مثل هذه العبارات مع بعض الفوارق الطفیفة.

ص:5


1- 1) نقل کتاب مصادر نهج البلاغة هذه الخطبة التی أوردها السید الرضی رضی الله عنه فی الخصائص / 87 وأضاف فی ذیل الخطبة 167 - التی تعد هذه الخطبة جزءاً منها - قائلاً: (رواها «الطبری» فی تأریخه ضمن حوادث سنة 35 ه (مصادر نهج البلاغة 1 / 371 و2 / 403) . [1] ویتبین من الرجوع إلی تأریخ الطبری أنّ الأمّة بایعت علیاً علیه السلام یوم الجمعة لخمس بقین من شهر ذی الحجة وأنّها أول خطبة أوردها علی علیه السلام ضمن خطبته 167. تأریخ الطبری 3 / 457.

والذی یفهم من کلام المرحوم السید الشریف الرضی أنّ الإمام علیه السلام قد ألقی هذه الخطبة أوائل ما آلت إلیه الخلافة، بینما یفهم من کتاب «مطالب السؤل» (1)أنّ هذه الخطبة هی إمتداد للخطبة السابقة وتعرّض لذات المطالب.

وهناک احتمال آخر فی أنَّ الخطب الثلاث قد صدرت معاً عن أمیر المؤمنین علیه السلام فی موضع واحد، ثم صنّفتْ ثلاثة أقسام.

علی کل حال فإنَّ هذا القسم من الخطبة - والذی لا یتجاوز بضعة عبارات - وعلی حد تعبیر السید الرضی لو وزن بعد کلام اللّه وبعد کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله لمال به راجحاً! والحق ان الأمر کذلک حقاً ماهذه الفصاحة والبلاغة فی کلمات قصار تتعرَّض لمثل هذه الحقائق السامیة!

فالإمام ینبِّه أبناء الأُمّة بادئ الأمر إلی مفهوم المعاد ومحکمة العدل الإلهی لیلفت إنتباههم من خلال ذلک إلی عظم المسؤولیات والوظائف التی ینبغی لهم أن ینهضوا بها فی خلافته، ویحذرهم من کافة ألوان النفاق والتشتت والفرقة والنکوص عن إداء الواجبات. وأخیراً یذکرهم بالعاقبة التی تنتظرهم بعد العرض علی اللّه یوم القیامة، فأمّا الجنّة وأمّا النار «فإن الغایة أمامکم، وإن وراءکم الساعة تحدوکم» .

والتعبیر ب «الغایة» (عاقبة الأمر) بشأن القیامة والجنّة والنار لأنّ الحیاة فی الدنیا إنّما هی مقدمة للحیاة الأبدیة فی العالم الآخر.

فقوله علیه السلام: «فان الغایة أمامکم» یعنی عدم وجود الشک والریب فی أن مآل الاُمور هناک ولیس لأحد الفرار عن ذلک المآب.

وأمّا التعبیر ب «الساعة» فقد صرَّح بعض شارحی نهج البلاغة بأنّه إشارة إلی القیامة الصغری؛ أی الموت. فقوله علیه السلام: «وراءکم» یفید أنَّ عوامل الموت إنَّما تکمن وراء الإنسان، فهی تسوق الإنسان من الطفولة إلی الشباب ومن الشباب إلی الکهولة والشیخوخة وأخیراً من الشیخوخة إلی انقطاع الحیاة. فی حین صرَّح البعض الآخر بأنّ المراد ب «الساعة» هو ساعات

ص:6


1- 1) منهاج البراعة 3 / 301.

اللیل والنهار وکأنّها الأمر الصارم الذی کمن خلف الإنسان ویسوقه إلی حتفه. ولیس هناک من فوارق تذکر بین هذین التفسیرین حیث مؤداهما واحد. وبالاستناد إلی أن کلمة «تحدوکم» المشتقة من مادة «حدو» بمعنی «السوق والدفع نحو الشیء» .

فإنَّ الذی یتبادر إلی الذهن هو أن تقلب اللیل والنهار والشهر والسنة رغم تقریبها الإنسان من وصول أجله وانقطاع حیاته، غیر أنّها تشکل عوامل غفلته بفعل اختلاطها بزخارف الدنیا وزبرجها. فالواقع هو أنّ هذه العبارة التی تصدرت الکلام رغم قصرها قد أشارت إلی القیامة الکبری إلی جانب إشارتها إلی القیامة الصغری؛ الأمر الذی یعدّ المستمع للاصغاء إلی المرحلة اللاحقة.

فأورد علیه السلام هذه الجملة المقتضبة العمیقة المعنی: «تخففوا تلحقوا» عادة إذا ما انطلقت قافلة من الناس إلی مکان وواجهت هذه القافلة بعض المنعطفات التی لایمکن اجتیازها بسهولة فإنَّ أولئک الأفراد المثقلین بالأحمال غالباً ما یتخلفون عن القافلة التی لا یسعها الوقوف من أجل فرد أو بضعة أفراد فلا یکون أمامها سوی تجاوز ذلک الفرد ومواصلة السیر والحرکة. أمّا ذلک الفرد الذی تخلف عن القافلة فإنَّه سیکون لقمة سائغة لقطاع الطرق واللصوص وذئاب الصحراء، بینما یشقّ المخفون طریقهم بسرعة تجعلهم یصلون إلی هدفهم أسرع من الجمیع. وهذا هو حال بنی آدم فی هذه الدنیا، فهم مسافرون وقد شدّوا الرحال إلی الحیاة الأبدیة التی تعقّب الموت. فمن ثقل حمله من متاع الدنیا وحطامها کان لقمة سائغة للشیطان، أمّا أهل الورع والزهد والتقوی فإنَّهم سیحثون الخطی سریعاً لینالوا سعادة الآخرة والفوز بالخلود.

وقد أکّد الإمام علیه السلام هذا المعنی - فی الخطبة 204 - حین نادی أصحابه: «تجهَّزوا - رحمکم اللّه - فقد نودی فیکم بالرحیل وأقلّوا العُرجة علی الدنیا. . . فإنَّ أمامکم عقبة کؤودا ومنازل مخوفة مهولة» .

وقد شبه بعض شرّاح النهج الإنسان بالمسافر الذی یجوب البحر وهو یواجه أمواجه العاتیة حیث سیکون الغرق مصیره الحتمی إذا لم یخف مؤونة سفینته.

وقد شبهوا قلب الإنسان بهذه السفینة، التی ستواجه الغرق لا محالة إذا ما أثقل ذلک القلب بحبِّ الدنیا والانغماس فی الشهوات. (1)

ص:7


1- 1) معارج نهج البلاغه، بیهقی / 109.

وأخیراً یختتم الإمام علی علیه السلام خطبته بقوله: «فانما ینتظر بأولکم آخرکم» . وتدل هذه العبارة بوضوح علی أنّ عالم البشریة بحکم القافلة الواحدة التی تشتمل علی المقدمة - التی سبقت بالحرکة - والوسط والمؤخرة؛ وهی تواصل مسیرتها لتلتحق مؤخّرتها بمقدمتها، وبعبارة اُخری فإنّ قانون الموت لا یعرف الحصر والاستثناء وهو المحطة التی سیتوقف عندها الجمیع. وبناءً علی ما تقدّم فإنَّ عاقبة الأولین نذیر مبین للآخرین.

عاقبة المثقلین!

إنَّ أهم عامل یقف وراء خسران طائفة من الناس والذی تضمنته کلمات الإمام علیه السلام فی خطبته إنَّما یکمن فی إثقال کاهلها بالتکالب علی متاع الدنیا الزائد عن حاجتها فی حیاتها الدنیویة المتواضعة.

ولک أن تفرض أنَّ فرداً ینطلق للسفر لیوم واحد وقد حمل مقداراً من الخبز والماء والفاکهة لما یکفیه لذلک الیوم، بینما حمل الآخر عدة حقائب وقد ملأها بمختلف الأطعمة والأشربة والفاکهة وانطلق إلی سفره. فمن البداهة أن ینطلق الأول بکل هدوء وخفة وخطی واثقة وحثیثة دون أن یشعر بالکلل والتعب، فی حین سینقطع نفس الثانی ولا یسعه مواصلة السیر والحرکة. وهذا هو المصیر الذی ینتظر أولئک الأفراد الذین جعلوا همهم فی الدنیا ومتاعها الزائل وجعلوا یفکّرون لیل نهار فی کیفیة حفظ هذه الأموال، حتی أنستهم ذکر اللّه، ولم یکتفوا بذلک ففقدوا حتی السکینة والطمأنینة فی حیاتهم الدنیا.

هذا وقد تطرق بعض شرّاح نهج البلاغة إلی قصة الصحابی الجلیل سلمان الفارسی رضی الله عنه کشاهد حی ونموذج لقول الإمام علی علیه السلام «تخففوا تلحقوا» وذلک حین نصب والیاً علی منطقة المدائن فرکب دابته وانطلق بمفرده إلیها.

فاتصل بالمدائن خبر قدومه، فاستقبله أصناف الناس علی طبقاتهم، فلما رأوه قالوا: أیها الشیخ أین خلّفت أمیرنا؟ قال: ومن أمیرکم؟ قالوا: الأمیر سلمان الفارسی صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله.

قال: لا أعرف الأمیر، وأنا سلمان.

ص:8

فترجلوا له وقادوا الیه المراکب والجنائب. فقال: إنّ حماری هذا خیر لی وأوفق. فلما دخل البلد أرادوا أن ینزلوه دارالامارة قال: ولست بأمیر. فنزل علی حانوت فی السوق وقال إدعوا إلیّ صاحب الحانوت فاستأجر منه. وکان معه وطاء یجلس علیه ومطهرة یتطهّر بها للصلاة وعکازة یعتمد علیها فی المشی. فأتفق أنّ سیلا وقع فی البلد فارتفع صیاح النّاس بالویل والعویل یقولون: وا أهلاه وا ولداه و وا مالاه، فقام سلمان ووضع وطائه فی عاتقه وأخذ مطهرته وعکازته بیده وإرتفع علی صعید وقال: هکذا ینجو المخفّفون یوم القیامة. (1)

والطریف فی الأمر ما ذکره السید الرضی رضی الله عنه من أنّ هذا الکلام لو وزن بعد کلام اللّه سبحانه وبعد کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله بکل کلام لمال به راجحاً. ولاسیما قوله علیه السلام: تخففوا تلحقوا.

فما أبعد غورها وأعظمها من حکمة وموعظة رغم قصرها؛ الأمر الذی دفع بالسید الرضی رضی الله عنه إلی الإسهاب فی الخوض فی تفاصیلها فی کتابة «الخصائص» .

ج ج

ص:9


1- 1) منهاج البراعة 3/ 4 - 3. [1]

ص:10

الخطبة الثانیة و العشرون

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام (1)

حینَ بَلَغهُ خَبَرُ الناکثین بیعَتِه.

وفیها یذمُّ عملَهم ویلزمهم دمَ عثمانَ ویتهدّدهم بالحرب.

القسم الأول: أضواء علی الخطبة

اشارة

«ألا وإنّ الشّیطانَ قَدْ ذَمّر حِزبَهُ وَاستجلَبَ جَلبَهُ لِیَعُودَ الجَورُ إلی أوطانِهِ ویَرجعَ الباطِلُ إلی نِصابِهِ، وَاللّهِ! ما أنکرُوا عَلیَّ مُنکَراً، ولا جعَلُوا بَینِی وَبَینَهم نَصِفاً» .

ج ج

ص:11


1- 1) لقد أورد هذه الخطبة وشرحها کل من المرحوم «الشیخ المفید» فی «الإرشاد» فی الفصل 22 من کلمات الإمام علی علیه السلام، والکلینی فی «الکافی» 5 / 53 کتاب الجهاد إلی جانب بعض الخطب الأخری، والمرحوم العلّامة المجلسی فی بحار الأنوار 32 / 193. [1] کما ذکرها ابن أثیر فی عدة مواضع من کتابه النهایة بتناسب مفردات الخطبة. ویضیف مؤلف مصادر نهج البلاغة قائلاً: لقد أقتبست هذه الخطبة من سائر خطبه علیه السلام، فهو یعتقد بأنّها مرتبطة بالخطبة 26، کما یری بأنّ هذه الخطبة ذات إرتباط بالخطبة 172 - مصادر نهج البلاغة 1 / 373. [2]

وردت هذه الخطبة - کما یفهم من عنوانها - بشأن طلحة والزبیر بعد نقضهما البیعة وما تلاها من أحداث مریرة تمثلت إحداها بمعرکة الجمل، کما تشیر إلی قضیة المطالبة بدم عثمان التی تمسک بها أصحاب الجمل والتی استغلت فیما بعد من قبل أهل الشام.

وأخیراً تتضمن مذمتهم وتقریعهم من جانب الإمام علیه السلام والرد الحاسم علی تهدیداتهم وتخرصاتهم. وتبدو مضامین هذه الخطبة أکثر شبهاً بخطبه 10، 26 و172؛ الأمر الذی جعل من المحتمل أن تکون کل خطبة من هذه الخطب جزءاً من خطبة واحدة وقد قام السید الرضی رضی الله عنه بتجزأتها علی ضوء ما یناسب المقام.

الطریف فی الأمر أنَّ بعض الروایات صرّحت بأنّ عمرو بن العاص قال یوماً لعائشة: «لوددت أنّک قتلت یوم الجمل!» . فردت عائشة متعجبة: «ولم؟ لا أباً لک!» . فأجابها بن العاص: «کنت تموتین بأجلک وتدخلین الجنّة ونجعلک أکبر التشنیع علی علیّ» (1).

یری بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ هذه من الخطب المتعلقة بمعرکة صفّین، وقد عنت عباراتها معاویة (2)، إلّاأنّ الذی یستفاد من عنوان الخطبة الذی اعتمده السید الرضی رضی الله عنه وکلام ابن أبی الحدید (3)وسائر الشرّاح أنّ هذه الخطبة إنّما تتناول ناکثی البیعة من أصحاب الجمل، وإن کانت مضامینها تتناسب وحال الطائفتین؛ الجمل وصفین.

الشرح والتفسیر

وقعة الجمل

أشرنا سابقاً إلی أنّ الخطبة وردت بخصوص أولئک الذین أججوا نیران فتنة الجمل؛ أی طلحة والزبیر ورهطهما. فقد کان کل من طلحة والزبیر یطمع فی الحکومة ولما صرفها الإمام علیه السلام عنهما ولم یکن مستعدّاً لتقلیدهما أیَّة مسؤولیة فی حکومته، ثارت ثائرتهما وقادهما

ص:12


1- 1) بحار الأنوار 32 / 267 ح 206 [1] نقلاً عن الاحتجاج للطبرسی.
2- 2) شرح القطب الراوندی 1 / 188.
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 305.

هوی أنفسهما لنقض البیعة، وأخذا یجیشان الجیوش بما فیها عائشة - زوج النبی صلی الله علیه و آله - ویهیا لقتال علی علیه السلام بذریعة الطلب بدم عثمان (1)، وقد إختارا البصرة - التی کانت ممهدة آنذاک لمثل هذه الفتنة - مرکزاً لمؤامراتهم الدنیئة علی الإمام علیه السلام.

فالإمام علیه السلام یتطرق فی بدایة الخطبة إلی هذه المؤامرة فقال: «ألا وإنّ الشیطان قد ذمر (2)حزبه واستجلب جلبه (3)لیعود الجور إلی أوطانه ویرجع الباطل إلی نصابه» .

فهو یشیر علیه السلام إلی الانحرافات والاضطرابات التی أعقبت قتل عثمان ومبایعة الاُمّة لعلی علیه السلام بالخلافة. والمراد بحزب الشیطان - فی الخطبة - أولئک الذین تسلّطوا علی بیت مال المسلمین أبان حکومة عثمان وتولوا بعض المناصب الخطیرة، کما کانوا یتطلعون للسیطرة علی الخلافة، فالإمام علیه السلام یحذر الاُمّة من هؤلاء الشیاطین الذین یتربصون بها الدوائر وإنَّهم یحیکون المؤامرات من أجل الاستحواذ ثانیة علی بیت المال وممارسة الظلم والجور بحق المسلمین والحیلولة دون قیام الإمام علیه السلام بوظیفته فی إصلاح المجتمع الإسلامی وإجتثاث جذور الفساد والانحراف التی برزت واستفحلت فی خلافة عثمان.

وأخیراً یصرح الإمام علیه السلام بعدم وجود أی دلیل أو منطق یسوغ لهؤلاء الوقوف بوجه الإمام وقتاله «واللّه ما أنکروا علیَّ منکراً ولا جعلوا بینی وبینهم نصفاً» .

فهو یشیر علیه السلام إلی طلحة والزبیر والطائفة التی نکثت البیعة، کما یتطرق علیه السلام إلی حجتهم الواهیة المتمثلة بقتل عثمان. ثم یورد علیه السلام أقسی العبارات بحقّهما.

ص:13


1- 1) لم تکن قضیة المطالبة بدم عثمان شعار أهل الشام وذریعتهم لإشعال فتیل صفین، بل استغلت کذلک من قبل طلحة والزبیر وعائشة لتنتهی بنشوب معرکة الجمل. وقد ذکر ابن أثیر - المورّخ المعروف - فی «الکامل» أنَّ عائشة حین قدمت إلی المدینة من مکّة سمعت أثناء الطریق بقتل عثمان واجتماع الأمّة علی علی علیه السلام، فاغتمت وقالت: لیت السماء أطبقت علی الأرض ولم یقع هذا، ثم أمرت باعادتها إلی مکّة. فقالت «إنَّ عثمان قُتل واللّه مظلوماً» فقام إلیها من قال لها: إنّک أول من تحدثت ضد عثمان واسمیته نعثلاً (قیل أن نعثلاً رجل یهودی کث اللحیة، وقال صاحب «لسان العرب» أن نعثلاً تعنی العجوز الأحمق) وأنت قلت: إقتلوا نعثلاً فقد کفر (الکامل 3 / 206) . [1]
2- 2) ذمّر من مادة «ذمر» بمعنی «التشجیع والحث» وقیل بمعنی التحریک المقرون بالذم والعتاب، ومن هنا کان الذمر علی وزن «الذهن» یعنی الرجل الشجاع والمتحرک.
3- 3) جلب تعنی فی الأصل السوق والإنتقال ویقال الجلب بالنسبة للأفراد الذین یجمعون بسهولة. استجلب هنا بمعنی الإجتماع.

نعم لقد تنکرت کافة المصادر الإسلامیة والکتب التأریخیة لنسب قتل عثمان إلی الإمام علی علیه السلام، بینما تصرّح بأنَّ الإمام سعی أکثر من غیره لإخماد نار الفتنة، فهو القائل علیه السلام «واللّه لقد دفعت عنه حتی خشیت أن أکون آثماً» فلم یتّبع الناکثون فی هذه الأحکام المتسرّعة، العدل والانصاف بقدر ما تشبّثوا بالکذب والتهمة والظنة. ولا یبدو من الغرابة اللجوء إلی مثل هذه الأسالیب بالنسبة لأولئک الذین یسعون إلی ضمان مصالحهم وتحقیق أهدافهم. وما أکثر ما نشاهده فی عصرنا الراهن من الساسة الظلمة الذین لا یتحفظون عن أبشع الأسالیب الدنیئة من أجل ضمان مصالحهم اللامشروعة.

حزب اللّه وحزب الشیطان

لقد تضمّنت خطبة الإمام علیه السلام إشارة لطیفة إلی ما أورده القرآن الکریم فی آخر سورة المجادلة، حیث صنفت الآیة القرآنیة المبارکة الناس إلی حزبین هما: «حزب اللّه» و «حزب الشیطان» ، کما أشارت إلی المیزة الرئیسیة التی یتّصف بها حزب اللّه وهی صفة الحب فی اللّه والبغض فی اللّه «لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ أُولئِک َ کَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الإِیمانَ وَأَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَیُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها رَضِیَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِک َ حِزْبُ اللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ» (1).

وفی مقابل ذلک هناک حزب یهم بحفظ مصالحه ویعتمد أسلوب النفاق والخداع ولا یتورع عن موالاة أعداء اللّه وإظهار المودة لهم إلی جانب بث بذور الظلم والفساد بین صفوف العباد، فیصفهم القرآن قائلا: «إِسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِکْرَ اللّهِ أُولئِک َ حِزْبُ الشَّیْطانِ ألا إِنَّ حِزْبَ الشَّیْطانِ هُمُ الخاسِرُونَ» (2).

والحزبان المذکوران لا یختصان بزمان نزول القرآن وعصر صدر الإسلام، بل تتعدد صورهما وأشکالهما فی کافة العصور والدهور. ولو ألقینا نظرة عابرة علی عالمنا المعاصر / 22.

ص:14


1- 1) سورة المجادلة
2- 2) سورة المجادلة / 19. [1]

لشاهدنا بوضوح هذین التیارین وقد کمن أحدهما مقابل الآخر، فعادة ما یستند حزب الشیطان إلی منطق القوة الغاشم والغطرسة والأموال والثروة والتآمر وممارسة الظلم والجور وبث بذور النفاق والفرقة وإشاعة الفساد والانحراف، بینمما یستند حزب اللّه إلی القیم والمثل والمبادئ الحقة ولا یتوانی فی التصدّی لزعماء الحزب المذکور. یتربص حزب الشیطان عادة لاستغلال الفرص المناسبة ومنها الثورات والانقلابات التی تطیح بحکومة وتأتی باُخری. وأفضل شاهد علی ذلک ما شهدته حکومة الإمام علی علیه السلام أوائل تشکیلها. فقد اتّفقت کلمة ما تبقی من فلول الجاهلیة الذین برزوا للوجود فی خلافة عثمان علی مواجهة ربیب الإسلام وتلمیذ النبی صلی الله علیه و آله الإمام علی علیه السلام، فأشعلوا نیران الفتن التی کان من المقدر للإمام إخمادها والتغلب علیها، فعاثوا فی الأرض فساداً بما لم یدع للإمام من سبیل سوی الوقوف بوجههم ومقاتلتهم.

فالإمام علیه السلام یحذر الأمّة ومنذ الیوم الأول لحکومته من مکاید حزب الشیطان وعدم الانخداع بأسالیبه والأعیبه القذرة.

وأخیراً یفهم من عباراته علیه السلام أنّ للظلم والجور وطن وأنَّه یستند إلی اُسس ودعائم! نعم وطن الجور والظلم هو الموضع الذی یتجحفل فیه عسکر الشیطان، کما أنّ المبادئ التی ینتهجها حزب الشیطان لهی الأسس والدعائم التی یرتکز علیها الظلم والجور.

ج ج

ص:15

ص:16

القسم الثانی

اشارة

«وَإِنَّهُمْ لَیَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَکُوهُ وَدَماً هُمْ سَفَکُوهُ! فَلَئِنْ کُنْتُ شَرِیکَهُمْ فِیهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِیبَهُمْ مِنْهُ وَلَئِنْ کَانُوا وَلُوهُ دُونِی فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَی أَنْفُسِهِمْ یَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَیُحْیُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِیتَتْ.

یا خَیْبَةَ الدّاعِی! مَنْ دَعا! وَإِلامَ أُجِیبَ! وَإِنِّی لَراضٍ بِحُجَّةِ اللّهِ عَلَیْهِمْ وَعِلْمِهِ فِیهِمْ» .

الشرح والتفسیر

المعذّرون المفتضحون!

یشرح الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة ما أورده فی بدایتها، ثم یعرض الأدلة القاطعة التی تدین ناکثی البیعة ومؤججی نار الحرب ویفضحهم أمام المسلمین. فقد أشار علیه السلام إلی الذریعة الأصلیة التی تمسک بها طلحة والزبیر وأعوانهما؛ أی المطالبة بدم عثمان، فقال علیه السلام: «وإنّهم لیطلبون حقاً هم ترکوه ودماً هم سفکوه» - روی المؤرخ المعروف الطبری فی تاریخه عن أحد أصحاب عثمان أنّ علیاً علیه السلام کان فی ماله بخیبر لما حصر عثمان، فقدم المدینة والناس مجتمعون علی طلحة، وکان لطلحة فی حصار عثمان أثر، فلما قدم علی علیه السلام أتاه عثمان، وقال له: أمّا بعد؛ فانّ لی حق الإسلام وحق الأخا والقرابة والصهر، ولو لم یکن من ذلک شیء وکنّا فی جاهلیة، لکان عاراً علی بنی عبد مناف أن یبتز بنو تیم أمرهم - یعنی طلحة - فقال له علی علیه السلام: أنا اُکفیک، فاذهب أنت. ثم خرج إلی المسجد فرأی اُسامة بن زید، فتوکأ علی یده حتی دخل دار طلحة وهی مملوءة من الناس، فقال له: یا طلحة، ما هذا الأمر الذی صنعت

ص:17

بعثمان؟ فقال: یا أبا الحسن، أبعد أنّ مس الخرام الطبین! فانصرف علی علیه السلام حتی أتی بیت المال، فقال: افتحوه، فلم یجدوا المفاتیح، فکسر الباب، وفرق مافیه علی الناس؛ فانصرف الناس من عند طلحة حتی بقی وحده، وسرّ عثمان بذلک؛ وجاء طلحة فدخل علی عثمان، فقال: یا أمیر المؤمنین؛ إنّی أردت أمراً فحال اللّه بینی وبینه، وقد جئتک تائباً - فقال: واللّه ما جئت تائباً ولکن جئت مغلوباً؛ اللّه حسیبک یا طلحة. (1)ثم ذکر الطبری فی موضع آخر من تأریخه أنّ عثمان حین قتل، خرج من عنده «سودان بن حمران» وهو یقول «أین طلحة؟ فقد قتلنا عثمان» (2).

فالذی یستفاد من هذه الشواهد وسائر القرائن التأریخیة أن طلحة کان من المخططین الرئیسیین لقتل عثمان. أمّا جملة عائشة بشأن عثمان فهی معروفة مشهورة للجمیع فقد کانت تنادی صراحة «اقتلوا نعثلاً! قتل اللّه نعثلاً» وکانت تقصد بنعثل عثمان.

ابن أبی الحدید یصرح فی شرحه لاحدی خطب نهج البلاغة بشأن موقعة الجمل فیقول: یعترف جمیع المؤرخین المسلمین بأنّ عائشة کانت من أعدی أعداء عثمان وهی التی أخرجت قمیص رسول اللّه صلی الله علیه و آله وکانت تقول «هذا قمیصه لم یبل وقد أبلی عثمان سنته» ، وقیل أنّ أول من دعا عثمان نعثلاً عائشة، وکانت تقول: «اُقتلوا نعثلاً قتل اللّه نعثلاً» (3). فالعجیب ورغم ذلک قد خرج هؤلاء للمطالبة بدم عثمان! ویبدو أنّ هذه المسائل لیست عجیبة فی عالم السیاسة (السیاسة التی تفتقر إلی الإیمان والتقوی والورع) فی أن یتآمر بعض الأفراد ثم یهبون للوقوف بوجه هذه المؤامرات من باب الدفاع! ثم قال الإمام علیه السلام: «فلئن کنت شریکهم فیه فان لهم لنصیبهم منه ولئن کانوا ولوه دونی فما التبعة إلا عندهم» .

فالمراد أنّ الجمیع یعلم بأنّ هؤلاء شرکاء فی قتل عثمان، ولو افترض بانّی شریک أیضاً فی هذا الدم (والحال انّی لست غیر شریک فحسب، بل بذلت قصاری جهدی لاطفاء نیران هذه الفتنة) فانّ التهمة ثابتة بحقهم، فان کانوا هم النواة الأصلیة فی هذا العمل فان علیهم أن یتحملوا مسؤولیة عملهم! وإذا کان الأمر کذلک فما أوقحهم فی قیامهم ومطالبتهم إیّای بدم عثمان.

ص:18


1- 1) تأریخ الطبری 3 / 453. [1]
2- 2) تأریخ الطبری 3 / 411. [2]
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 6 / 215. [3]

ویواصل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «وإن أعظم حجتهم لعلی أنفسهم» . حیث یمیط اللثام عن الدافع الرئیسی وهو أنّ هؤلاء کانوا یرغبون باستمرار الأوضاع التی کانت سائدة علی عهد عثمان، فتجعل لهم بعض الامتیازات فی بیت المال، غیر أنّ ذلک العهد ولی واندرس ولیس هنالک من سبیل إلی عودته إلی مسرح الأحداث ثانیة: «یرتضعون اُمّا قد فطمت ویحیون بدعة قد اُمیتت» .

کما وردت عدة تفاسیر لقوله علیه السلام: «اُما قد فطمت» منها أن یکون المراد تلک السنن الجاهلیة والبدع والعصبیة التی کانت سائدة قبل الإسلام، حیث یتشبثون بکل الوسائل الأخلاقیة من أجل الحکومة، فأمیر المؤمنین یصف ذلک العهد بالاُم التی فطمت فلم تعد هنالک من وسیلة لتحقیق المطامع» (1).

ویبدو أنّ هذا التفسیر یناسب العبارة الثانیة «ویحیون بدعة قد اُمیتت» لا العبارة الاولی، کما أنّ جمع العبارتین بمعنی واحد یخالف ظاهر اللفظ. فی حین ذهب البعض إلی أنّ المراد أنّهم بمطالبتهم بدم عثمان إنّما یریدون احیاء أیام حکومته، رغم أن هؤلاء المطالبون بدمه هم من بین الأفراد الذین ثاروا علیه وسببوا قتله ومن هنا أرادوا أن یرتضعوا أما قد فطمت. وبالطبع فانه یمکن الجمع بین کل هذه المعانی، وإن بدأ المعنی الأول أنسب. فالنتیجة التی ستتمخض عنها حرکة هؤلاء الافراء سوف لن تکون سوی الفشل الذریع؛ الأمر الذی عبر عنه الإمام علیه السلام بالقول «یا خیبة الداعی! وإلام أُجیب» (2). والواقع انهذه العبارة تکهن بالنتیجة التی ستؤول الیها معرکة الجمل. فالإمام علیه السلام یعلن أنّ عاقبتهم ستکون الفشل والهزیمة؛ عاقبة الغدرة الذین خططوا لقتل عثمان ثم انبروا للمطالبة بدمه ففرقوا صفوف المسلمین فضلوا طائفة من الناس وخسروا الدنیا والآخرة. ثم قال الإمام علیه السلام: «وإنّی لراض بحجة اللّه علیهم وعلمه فیهم» ولعل مراده بحجة اللّه، ما ورد فی الآیة القرآنیة بشأن البغاة «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما فَإِنْ بَغَت إِحْداهُما عَلی الأُخْری فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی

ص:19


1- 1) منهاج البراعة 3 / 310.
2- 2) «الخیبة» بمعنی الیأس، والمراد بالداعی هنا طلحة والزبیر الذین دعوا الناس للخروج علی عثمان. وقوله إلام اُجیب، تحقیراً لاولئک الذین اتبعوهما دون دلیل.

حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ» (1). أمّا قوله علیه السلام: «علمه فیهم» فقد تکون إشارة للحدیث المشهور عن النبی صلی الله علیه و آله بشأن علی علیه السلام «قاتل الناکثین والقاسطین والمارقین» . فلما سألت أم سلمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن هذه الفرق الثلاث قال: الناکثین أهل الجمل، والقاسطین أهل الشام والمارقین أصحاب النهروان» (2).

ولما کان الإمام علیه السلام راضی برضا اللّه وعالم بما ستؤول إلیه الأحداث من یأس العدو وهزیمته فان روحه مفعمة بالرضی والهدوء والسکینة.

ج ج

ص:20


1- 1) سورة الحجرات / 9. [1]
2- 2) إحقاق الحق 4 / 99 [2] نقلاً عن ینابیع المودة.

القسم الثالث: تهدید علی علیه السلام

اشارة

«فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَیْتُهُمْ حَدَّ السَّیْفِ وَکَفَی بِهِ شَافِیاً مِنَ الْبَاطِلِ وَنَاصِراً لِلْحَقِّ! وَمِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَیَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعانِ! وَأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلادِ هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ! لَقَدْ کُنْتُ وَما أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَلا أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ! وَإِنِّی لَعَلَی یَقِینٍ مِنْ رَبِّی وَغَیْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِینِی» .

الشرح والتفسیر

لقد تقدم الإمام علیه السلام بتحذیر تلک العناصر من مغبة مواصلة الغوایة وضرورة الوقوف علی جسامة الأخطاء وهجر سبیل الشیطان والوفاء ببیعتهم للإمام علیه السلام والکف عن إثارة الفتن وتأجیج نار الحرب. وهنا - فی القسم الأخیر من الخطبة - یحذرهم من أنّ عدم الارعواء ومنح الآذان الصاغیة للنصح سوف یضطره للتکلم معهم بلغة السیف، السیف الذی کفی به شافیاً فی الرد علی عبدة الأهواء والشهوات من أصحاب المنطق الغاشم.

فقد قال علیه السلام: «فان أبوا أعطیتهم حد السیف» العلاج الأفضل للباطل «وکفی به شافیاً من الباطل وناصراً للحق» . فما یقال أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله حمل القرآن الکریم بید والسیف بأخری إنّما یکشف عن حقیقة واقعیة مسلمة فی الحکومات الإلهیة. فالجهود التی بذلها الأنبیاء من أجل إصلاح المجتمعات واجتثاث جذور الفساد والانحراف إنّما تکرست بالأسالیب المنطقیة والعقلیة واسداء النصائح والمواعظ بغیة إلفات إنتباه الخاطئین إلی أخطائهم، ولکن من المسلم به أنّ هناک طائفة قد جعلت عقلها وضمیرها آلة طیعة بید أهوائها وشهواتها، فهی لا تعرف سوی لغة السیف والقوة؛ الأمر الذی یضطر زعماء الاُمّة

ص:21

الربانیین إلی شهر السیف بوجه هذه الطائفة الطائشة والاطاحة برؤوسها العفنة، وهذا هو آخر الدواء حیال تلک الأمراض المستعصیة إذا ما عجزت غیره من الأدویة عن شفاء تلک الأمراض «إن آخر الدواء الکلی» (1)والواقع هو أنّ قوله علیه السلام: «شافیاً من الباطل» وقوله: «ناصراً للحق» من قبیل اللازم والملزوم؛ وذلک لأنّ علاج الباطل یؤدی إلی نصرة الحق ونصرة الحق تؤدی إلی اضمحلال الباطل. ثم یعرب الإمام علیه السلام عن فائق دهشته إلی أنّ هؤلاء قد أعلنوا علیه الحرب ودعوه إلی الطعان والصمود أمام سیوفهم وهو الذی تشهد له ساحات الوغی ومیادین القتال فی المواقع التی تنکص فیها الأبطال «ومن العجب بعثهم إلیّ أن أبرز للطعان (2)وأن أصبر للجلاد» (3).

فالعبارة تکشف بجلاء أنّ ناکثی البیعة هم الذین بادروا إلی نشوب المعرکة، حیث هدوا الإمام علیه السلام بکل وقاحة بإعداد نفسه لمواجهة سیوفهم وحرابهم، وهذا ما نوّه إلیه ابن أبی الحدید عن المؤرخ المعروف أبو مخنف قوله: رجع رسل علی علیه السلام من عند طلحة والزبیر وعائشة یؤذنونه بالحرب. (4)

علی کل حال فانّ هذا التهدید یکشف عن مدی تعامی مؤججی فتنة الجمل عن رؤیة الحقائق والوقائع، وقد أعمی حبّ المناصب والمقامات بصیرتهم وبصائرهم حتی لم یعودوا یروا الحقیقة المطلقة التی تهتف باندیتهم لیل نهار، ألا وهی شجاعة وبسالة علی علیه السلام التی رأوها مراراً وکراراً فی الغزوات الإسلامیة علی عهد النبی صلی الله علیه و آله. ثم عاود الإمام علیه السلام مواصلة حدیثه فی الاستغراب من ذلک التهدید الفارغ لیقدم الدلیل القاطع علی رفضه لما أوردوه فقال علیه السلام: «هبلتهم الهبول! لقد کنت وما أُهدد بالحرب ولا أُرهب بالضرب! وإنی لعلی یقین من ربّی وغبر شبهة من دینی» ، قوله علیه السلام «هبلتهم الهبول» (5)- بالاستناد إلی مفهوم الهبل بمعنی الثکل

ص:22


1- 1) العبارة مثل عربی معروف وقد أشیر إلیه فی بعض الروایات الإسلامیة ومنها الخطبة 168 من خطب نهج البلاغة.
2- 2) «طعان» بمعنی الضرب بآلة وتستعمل عادة للرمح ویقال لذرب اللسان طعن أیضاً.
3- 3) «جلاد» من مادة «جلد» بمعنی الضرب بالعصا أو السیف أو السوط وهو هنا کنایة عن الحرب.
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 306. [1]
5- 5) «هبلتهم» بمعنی ثکلتهم، والهبول بفتح الهاء المرأة التی لا یبقی لها ولد، وهو دعاء علیهم بالموت.

بالولد - یرید به أنّکم لا تستحقون الحیاة والبقاء ولیس لکم سوی الموت، ثکلتکم أمهاتکم علی هذه الأخطاء الشنیعة والانحراف الفکری الذی أوصلکم إلی هذه الحالة. وقد ورد شبیه هذه العبارة الذی یعطی ذات المعنی وهو قولهم «ثکلتهم الثواکل» والتی استعملها الإمام علیه السلام لهذا الغرض فی سائر خطبه من نهج البلاغة.

علی العموم فانّ الإمام علیه السلام قد أشار فی هذه العبارات إلی سابقته العریقة وتأریخه المشرق لیشیر کنایة، إنّما یعرفنی حتی مشرکی العرب ولم یجرأ أحد علی تهدیدی بالحرب والمبارزة طیلة حیاتی، وقد عشتم معی وزعمتم أنّکم من المسلمین. المسألة الاُخری التی أشار الیها الإمام علیه السلام هی أنّ من یخشی الحرب یخشی القتل والشهادة، ومن یخشی القتل والشهادة فلیس له من إیمان ویقین باللّه سبحانه وأن طریقه ملیء بالشکوک والشبهات؛ لأنّ من آمن وأیقن بسلامة طریقه ووثق بما عند اللّه فانّه یعلم أنّ قتال أعداء الحق وخصوم الدعوة لا یکتنفه أی فشل أو هزیمة ولن ینطوی سوی علی احدی نتیجتین إمّا النصر وإمّا الشهادة؛ الأمر الذی صرحت به الآیة الشریفة 52 من سورة التوبة: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلّا إِحْدی الحُسْنَیَیْنِ» وأمّا قوله علیه السلام: «فانی لعلی یقین من ربی، وغیر شبهة من دینی» فقد اعتبره بعض شرّاح نهج البلاغة أنه یعطی مفهوماً واحداً ویؤکد بعضه البعض، إلّاأنّ الصحیح هو أنّ العبارتین من قبیل بیان العام بعد الخاص، وهی تشتمل علی مفهومین. فالعبارة الاولی تشیر إلی مقام الیقین لدی الإمام علیه السلام والذی ورد التعبیر به عن الإمام علیه السلام قائلاً: «لو کشف الغطاء ما ازددت یقیناً» (1).

والعبارة الثانیة تشیر إلی الوظائف الدینیة التی کشفت له عن کافة معالم الطریق دون الشعور بأدنی شک أو ریب، ولا سیما أنّه سمع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد قال له: «یا علی ستقاتل الناکثین والقاسطین والمارقین» (أصحاب الجمل وصفین والنهروان) .

الرجال الأشداء

هنالک عدد من الأفراد أو الفئات التی تطالعنا فی سوح الوغی طیلة الصراع المریر بین

ص:23


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم لمئة کلمة مختارة من الجاحظ، الکلمة الاولی.

الحق والباطل وهم یتمتعون بالتفوق الکبیر علی خصومهم. علی سبیل المثال فقد انتصر جند الإسلام علی الجیوش الساسانیة الجرارة - التی کانت تفوقهم بعشرة أضعاف من حیث العدد والعدة ومن حیث التجهیزات والوسائل الحربیة التی لا یمکن مقارنتها بنظیرها لدی المسلمین - بل تمیزت العسکریة الإسلامیة من حیث التعبئة والقتال علی قیام مجموعات المستضعفین الحافة العزل من السلاح إلّامن نور الإسلام والإیمان والمفاهیم القرآنیة والتعالیم الإسلامیة باقتحام المیدان وتحطیم اسطورة توازن القوی، لتحقق الانتصارات تلو الانتصارات علی أکبر الجیوش وأقواها. ولا غرو فانما ینبع ذلک من «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلّا إِحْدی الحُسْنَیَیْنِ» فقد کانوا یرون أنفسهم منتصرین مهما کانت نتیجة الحرب، سواء انتهت المعرکة بهزیمة الأعداء أو نیل الشهادة، فکلا النتیجتان سعادة کبری.

وقد لمسنا هذا المعنی بوضوح فی الحرب المفروضة التی شنها النظام الصدامی ضد الجمهوریة الإسلامیة الفتیة، حیث وقفت کافة قوی العالم من الشرق والغرب خلفه لتقدم له کافة ألوان الدعم والاسناد، غیر أنّ شبابنا المؤمن من قوات التعبئة والحرس الثوری والجیش الذین تربوا فی أحضان القرآن ومدرسة أهل البیت علیهم السلام قد أرکعوا هذا العدو الشرس وجرعوه مرارة الهزیمة. نعم هذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة لیعلن للأعداء من عبدة الأهواء، لست أنا الذی یهدد بالحرب! لست أخشی الضرب فی سبیل اللّه، فقلبی قد غمر بنور الإیمان والیقین، بل أنا ربیب الإسلام والمدرسة النبویة التی تری النصر حلیفها بغض النظر عن النتیجة، وما عساها تکون سوی هزیمة العدو أو الفوز بالشهادة. وهذه هی الروحیة التی ینبغی أن یستشعرها المسلمون تجاه أعدائهم ولا یولون أدنی أهمیة لهذا التفوق المادی الکاذب الذی قد یکون مؤثراً إلّاأنّه لن یحسم المعرکة لصالح الباطل أبداً.

ص:24

الخطبة الثالثة والعشرون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وتشتمل علی تهذیب الفقراء بالزهد وتأدیب الأغنیاء بالشفقة

القسم الأول

اشارة

«أَمّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْأَمْرَ یَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَی الْأَرْضِ کَقَطَرَاتِ الْمَطَرِ إِلَی کُلِّ نَفْسٍ بِما قُسِمَ لَها، مِنْ زِیادَةٍ أَوْ نُقْصانٍ، فَإِذَا رَأَی أَحَدُکُمْ لِأَخِیهِ غَفِیرَةً فِی أَهْلٍ أَوْ مالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلا تَکُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً! فَإِنَّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ یَغْشَ دَناءَةً تَظْهَرُ فَیَخْشَعُ لَها إِذا ذُکِرَتْ وَیُغْرَی بِها لِئامُ النّاسِ کانَ کالْفالِجِ الْیاسِرِ الَّذِی یَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِداحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ، وَیُرْفَعُ بِها عَنْهُ الْمَغْرَمُ. وَکَذَلِکَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِیءُ مِنَ الْخِیانَةِ یَنْتَظِرُ مِنَ اللّهِ إِحْدَی الْحُسْنَیَیْنِ: إِمّا داعِیَ اللّهِ فَما عِنْدَ اللّهِ خَیْرٌ لَهُ، وَإِمّا رِزْقَ اللّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمالٍ، وَمَعَهُ دِینُهُ وَحَسَبُهُ، وَإِنَّ الْمالَ وَالْبَنِینَ حَرْثُ الدُّنْیا، وَالْعَمَلَ الصّالِحَ حَرْثُ الْآخِرَةِ، وَقَدْ یَجْمَعُهُما اللّهُ تَعالَی لِأَقْوامٍ» .

ص:25


1- 1) أورد المرحوم الکلینی عن الإمام الحسن علیه السلام قسماً من هذه الخطبة فی کتاب الکافی 5 / 56، کما أورد قسمها الآخر - حسب صاحب مصادر نهج البلاغة - [1] نصر بن مزاحم فی صفین وابن عبد ربه فی العقد الفرید والزمخشری فی ربیع الأبرار.

نظرة إلی الخطبة

استهل الإمام علیه السلام خطبته بتقسیم رزق الإنسان وما قسم له علی ضوء التقدیر والتدبیر الإلهی، ثم أوصی علیه السلام بأن من رأی لأخیه نعمة فلا ینبغی أن یکن له البغض أو الحسد (کما لا ینبغی أن یغتر إن جنی ثروة فیضحی بدینه وإیمانه من أجلها) آنذاک دعا علیه السلام الناس إلی الإخلاص والورع والتقوی وصفاء النیة وصلاح العمل بعیداً عن الریاء والعجب والفخر. أمّا فی القسم الأخیر من الخطبة فقد أشار علیه السلام إلی بعض المسائل الاجتماعیة الحساسة من قبیل تقویة أواصر القرابة وضرورة التعاضد والتعاون بین أفراد القبیلة والاُمّة الإسلامیة الواحدة بغیة التغلب علی المصاعب والمشاکل، مؤکداً علی عدم فقدان الانتماء إلی العشیرة من خلال اعتماد البخل والإمساک؛ فإنَّ ضرر هذا الفقدان علیه سیکون أعظم وأشد ممّا هو علیه بالنسبة للعشیرة، فانه إنَّما یمسک یده بینما بالمقابل تمسک عنه أیدی کثیرة.

الشرح والتفسیر

الرضا والتسلیم أمام إرادة اللّه

أشار الإمام علیه السلام - فی هذه الخطبة - إلی مسألة مهمّة ذات أثر عظیم فی تهذیب النفوس والحد من جموح الفرد والمجتمع. وهی ممّا لاشک فیه أنّ الحیاة الاجتماعیة البشریة تعد الأساس لبرکات وثمرات عظیمة، بحیث یمکن أن نقول إنّ القسم الأعظم من النجاحات والمکتسبات الباهرة فی کافة المجالات والمیادین العلمیة والصناعیة والاجتماعیة إنّما حققتها البشریة فی ظل هذه الحیاة الاجتماعیة. وإلی جانب تلک الثمار والمعطیات والبرکات کانت هنالک المشاکل الخطیرة التی تهدد بالفناء جمیع الآثار الایجابیة لهذه الحرکة مالم تجد الحلول الشافیة.

ومن ذلک، وجود الفوارق بین بنی البشر من حیث الاستعداد والقابلیات الجسمیة والروحیة علی المستوی الفردی والاجتماعی؛ الأمر الذی أدّی إلی التفاوت الفاحش فی الإمکانات المادیة والمالیة. ومن هنا بدت ردود الفعل السلبیة للأفراد الذین تخلفوا عن هذه المسیرة، أو سعوا بتخبط للخلط بین الحلال والحرام لیزجوا بأنفسهم فی هذا السباق غیر المتکافئ والمجهول النهایة فی مصاف من تقدّم علیهم من حیث الجوانب المادّیة ولم یکن أمامهم

ص:26

سوی سبیلین، إمّا الشعور بالإحباط والیأس والانسحاب من میدان العمل والنشاط والتقوقع علی الذات، أو اشتعال نیران الحسد والبغض فی قلوبهم تجاه اُولئک والهم بالانتقام منهم. من جانب آخر فإنَّ البعض الذی یتمتع بالإمکانات قد یصاب بالغرور والکبر والعجب والفخر فیندفع نحو الطغیان والفساد والانحراف.

الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة بدورها ودرءاً لهذه المفاسد والحیلولة دون ظهورها قد لفتت أنظار الجمیع إلی حقیقة مفادها أنّ هذه الفوارق والزیادة والنقصان لیست مسألة عبثیة بقدر ماهی واقع یستند إلی الحکمة الإلهیة التی تنظم شؤون العباد علی أساس ما یصلحهم ویقوم حیاتهم. ولعل الأسرار التی یختزنها هذا التصنیف خافیة علینا نحن العباد فی أغلب الاُمور، إلّاأنّ مجرد علمنا بأنّ اللّه حکیم ورحمن ورحیم هو الذی ینظم الاُمور وتتشعر قلوبنا الرضی والتسلیم لهذا التنظیم والتخطیط؛ فإنَّ القضیة ستتغیر وتخرج من شکلها الظاهری، آنذاک ستسود السکینة والطمأنینة قلوبنا وأرواحنا وستزول کافة تلک العواقب السلبیة التی بدت لنا لأول وهلة. ومن هنا تواتر التأکید علی الرضی والتسلیم ولاسیّما بالنسبة للرزق فی الآیات والروایات.

نعود الآن بعد هذه المقدمة المختصرة إلی تفسیر الخطبة، فقد تطرق الإمام علیه السلام فی بدایة خطبته عن تهذیب النفوس ووضع حدّ للمفاسد الاجتماعیة، فقد قال علیه السلام: «أمّا بعد: فان الأمر ینزل من السماء إلی الأرض کقطرات المطر إلی کلّ نفس بما قسم لها، من زیادة أو نقصان» فالتشبیه بقطرات المطر تشبیه غایة فی الروعة؛ لأنّ قطرات المطر تنزّل بصورة مختلفة علی الأرض وفقاً للإرادة الإلهیة والحکمة الربانیة، والأرزاق الإلهیة تسقط علی هذه الشاکلة من السماء إلی البشریة علی الأرض بفضل اللّه ورحمته. فقد ینزّل المطر بغزارة علی بعض المناطق حتی تسیل أنهاراً عظیمة بینما قد تشهد مناطق اُخری زخات خفیفة من المطر طیلة السنة. ثم یخلّص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة التی ینبغی أن یستحضرها الناس: «فاذا رأی أحدکم لأخیه غفیرة (1)فی أهل أو مال أو نفس، فلا تکونن له فتنة» .

ص:27


1- 1) «غفیرة» من مادة «غفر» بمعنی الستر ومن هنا اطلقت المغفرة علی ستر الذنوب کما تطلق علی المال الکثیر لتغطیته جزءاً واسعاً من الحیاة، حتّی أنّه یستر العیوب أحیاناً، ولذلک یقال للکثرة والزیادة غفیرة.

لعل غفیرة تشیر إلی أنّ الأموال والثروات لمن دوافع الغفلة وستر عیوب الإنسان حتّی عن نفسه، وإنْ وردت غفیرة هنا بمعنی المال الکثیر.

مایجدر ذکره أنّ الفتنة هنا لا تعنی الامتحان، وإن وردت عادة بهذا المعنی فی الأعم الأغلب، بل المراد بها ما یدعو إلی الفساد والخداع وردود الأفعال السلبیة من قبیل الحسد والعداوة والبغضاء التی یمارسها الفقراء المعدومون حیال أصحاب الأموال والثراء. ثم قال علیه السلام: «فان المرء المسلم مالم یغش دناءة تظهر فیخشع لها إذا ذکرت ویغری بها لئام الناس، کان کالفالج (1)الیاسر (2)الذی ینتظر أول فورة من قداحه (3)توجب له المغنم، ویرفع بها عنه المغرم» . کما أنّ المسلمین البعیدین عن الخیانة إنّما ینتظرون من الحق سبحانه أمرین: أمّا حلول الأجل الإلهی (وقد أفنی عمره بطیب السمعة وحسن العاقبة) فما عند اللّه خیر له وأبقی. وأمّا أنْ یوسّع اللّه علیه رزقه فی هذه الدنیا ویمّن علیه بالصاحبة والأهل والولد فی سلامة من دینه وصون لعزته وکرامته «وکذلک المرء المسلم البریء من الخیانة ینتظر من اللّه إحدی الحسنیین: إمّا داعی اللّه فما عند اللّه خیر له، وإمّا رزق اللّه فاذا هو ذو أهل ومال، ومعه دینه وحسبه» . ولکن لابدّ من الإذعان إلی الفارق الکبیر بینهما فأحدهما من قبیل زرع الدنیا کالمال والولد، والآخر من زرع الآخرة وهو العمل الصالح «وإنَّ المال والبنین حرث الدنیا، والعمل الصالح حرث الآخرة» . وقد یجمع اللّه سبحانه نعم الدنیا والآخرة لبعض الأفراد «وقد یجمعهما اللّه تعالی لأقوام» .

والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد کشف بهذه العبارات عن حقیقة مهمّة ومصیریة فی حیاة الإنسان تکمن فی ضرورة عدم تلوثه بالذنوب والمعاصی والإرجاس التی لا تجر علیهم سوی الخزی والعار والسقوط من أعین الناس والحد من شخصیته لدیهم.

ص:28


1- 1) «الفالج» من مادة «فلج» ، قال صاحب مقاییس اللغة لها معنیان؛ الأول النصر والغلبة، والآخر المسافة بین شیئین. وفسّره صحاح اللغة بالظفر والفوز، وقد ورد هنا بهذا المعنی.
2- 2) «الیاسر» من مادة «یسر» بمعنی السهولة، ومیسر ویسار حسب قول الراغب فی المفردات [1]بمعنی الغنی والثروة. وأطلق علی المقامر الذی یلعب بقداح المیسر وقد وردت فی العبارة بمعنی اللاعب بالقداح المحفوظ منها.
3- 3) «قداح» جمع «قدح» علی وزن فِعل بمعنی السهم. وهی فی الأصل بمعنی کسر الشیء وعیبه.

وبناءً علی ما تقدّم فإنّ هناک أحد مصیرین رفیعین بانتظار الفرد الذی یعیش النقاء والعفّة فی حیاته، أنْ یقضی حیاته معززاً مکرماً لیحث السیر نحو رحمة اللّه ومغفرته وأجره وثوابه. أو أن یفیض اللّه علیه من نعم الدنیا فی هذه الحیاة الدنیا ویجمع له خیر الدارین.

القضیة المهمّة التی حظیت باهتمام شرّاح نهج البلاغة هی أنّ الإمام علی علیه السلام شبّه المؤمن الذی یتمتع بالغلبة والسعادة والفوز بلطف اللّه ورحمته المقامر الماهر الذی یفوز بالتضارب بالقداح، وهنا یطرح هذا السؤال نفسه: کیف یشبه الإمام علیه السلام المؤمنین الذین یعیشون الرضی والتسلیم تجاه رزق اللّه وقسمه بهذا الفرد المقامر الأثیم المقارف لهذه الکبیرة من الکبائر؟

یتّضح من التأمّل فی عبارات الإمام علیه السلام من قبیل «فوزة» و «قداح» و «مغنم» و «مغرم» أنّ الیاسر لیس المراد به القمار، بل أراد به نوعاً خاصاً من الاقتراع کانت تمارسه العرب، حیث کانوا یأتون بعشرة سهام لکل واحد منها اسم، ویشترون جملاً فیذبحوه ویقسّموه عشرة أقسام، ثم یجعلون السهام مع بعضها لیقوم من یثقون به باستخراجها واحداً واحداً، ثم یکون الفائز علی أساس ترتیب السهام حسب أسمائها الأول والثانی إلی السابع والسهم الأول فیها یسمی «مُعَلّی» - والسهام الأخری إذا خرجت باسم أحدهم فهو الذی یدفع قیمة الجمل، أمّا الفائزون فیعطون سهامهم للفقراء دون أن یأکلوا منها شیئاً، وکانوا یفتخرون بذلک العمل. (1)

طبعاً لایجوز هذا العمل شرعیاً، إلّاأنّه لا یشتمل علی معایب وفواجع القمار. فالإمام علیه السلام أراد أن المؤمنین من أهل الرضی والتسلیم یشبهون الأفراد الذین یفوزون بسهم المُعلّی فی ذلک الاقتراع، ووجه الشبه أنّه یفوز بأکبر نصیب دون أدنی عناء. والتعبیر بالقداح وأول فوزة والغنیمة والنجاة من الخسارة کلّها تناسب هذا المعنی؛ وهذا لیس متعارفاً فی القمار حیث لا یترک المقامر المقامرة لمجرد غلبه فی الوهلة الاولی، بل یواصل قماره حتّی لا تعرف النتیجة التی سیؤول إلیها. وبالطبع فإنّنا لا ننکر أنّ المفردة مفهوم واسع یشمل الاقتراع وألعاب الحظ، ولکن لابدّ من الالتفات إلی أنّ القمار بمعناه الحقیقی یختلف تماماً عن ذلک النوع من الاقتراع، ولا سیما أنّ القرآن قد عبر ب «الألزلام» لا المیسر وإنْ ورد الذم علیهما معاً «إِنَّما الخَمْرُ وَالمَیْسِرُ وَالأَنْصابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ. . .» . (2)

ص:29


1- 1) شرح نهج البلاغة، المحقق الخوئی، 3/ 319 (بتلخیص) . وقد وردت إشارة مختصرة إلی هذا المطلب فی کتاب معارج نهج البلاغة وهو من أقدم شروح هذا الکتاب، معارج نهج البلاغة، ص 110.
2- 2) سورة المائدة / 90. [1]

الرضی والتسلیم إلی جانب السعی والعمل

لعل هنالک من یقول بأنّ روح الرضی والتسلیم لأمر اللّه فی الرزق وفی المنافع المادیة بصورة عامّة إنّما تهدأ النفس البشریة وتحدّ من جماحها وتحوّل دون الإنسان والارتماء فی میادین الحرص والطمع وجبایة الأموال واللهث وراء الثروة والانغماس فی المحرمات کما تصدّه عن استشعار معنی الحسد والبغض، إلّاأنّ مثل هذا الشعور قد یقتل عند الإنسان روح السعی والمثابرة بحیث یتشبّث کلّ فرد بذریعة من الذرائع من قبیل أنَّ الأرزاق مقسّمة وکلّ قد سمّی اللّه له رزقه ونصیبه فیخلد إلی السکون والدعة والکف عن العمل، فما جدوی ذلک والأرزاق قد قسمت؛ الأمر الذی یؤدی بالتالی إلی تخلّف الأمّة فی المجال الاقتصادی والتطور المادی واجتثاث جذور الفقر والحرمان.

إلّا أنّ هذا الإشکال قد یزول إذا ما ألتفت إلی أمرین: الأول هو أنّ هذه التعالیم الإسلامیة والوصایا الأخلاقیة إنّما توخّت الحد من تهافت الإنسان علی المادیات وتناسیه لکل ما سواها، بعبارة اُخری فإنّ الإنسان یمتلک الدوافع التی تسوقه نحو المادیات والنهوض بحیاته الاقتصادیة، ولو لم تکن هنالک من کوابح لهذه الدوافع فإنّه سینطلق بسرعة هوجاء نحو الحرص والتسابق فی جنی الأموال والثروة بحیث یحطم کافة الحدود والقیود الأخلاقیة والقیم المعنویة. وبعد هذا هو المعنی الذی أشار له الإمام علی بن الحسین علیهما السلام حین قال: «معاشر أصحابی! أوصیکم بالآخرة ولست أوصیکم بالدنیا! فإنّکم بها مستوصون وعلیها حریصون وبها متمسِّکون» (1). والأمر الثانی یکمن ضرورة جمع کافة الآیات والروایات الواردة بهذا الشأن من أجل التوصّل إلی النتیجة النهائیة بخصوص التعالیم الإسلامیة؛ لأنَّ القضایا الإسلامیة المحوریة لاتبدو واضحة المعالم من خلال آیة واحدة أو حدیث واحد. ففی مجال تحصیل الرزق والقناعة به وضرورة السعی والحرکة هنالک الآیات والروایات التی أشارت من جهة إلی مسألة الرضی والتسلیم تجاه التقدیرات الإلهیة، وهنالک من جهة اُخری

ص:30


1- 1) بحار الأنوار 75 / 147. [1]

الآیات والروایات التی وردت فی الحث علی السعی والعمل، بحیث یفهم من مجموع الطائفتین من الآیات والروایات أنّ الضعف والوهن فی هذا المجال لیس صحیحاً کما أن الحرکة الحریصة والممزوجة بالذنب والمعصیة التی تفرزها طبیعة تجاهل التقدیر الإلهی والتوکّل علی اللّه هی الأخری لیست صحیحة أیضاً. وبعبارة اُخری، صحیح أنّ الرزق قد قسم من جانب اللّه، غیر أنَّ ذلک مشروط بشرط السعی والجهد المقرون بالخلق والتقوی والورع.

ونختتم البحث بما ورد فی الحدیث النبوی الشریف بشأن مقام الرضی والتسلیم فی أنّ طائفة من المسلمین تطیر من قبورها یوم القیامة إلی الجنّة لتتنعّم بنعیمها دون أن تشهد الحساب فتسألهم الملائکة عن الحساب والجواز علی الصراط، فتجیب أنّها لم تر الحساب والصراط. وتسألهم عن جهنّم، فجیبوا بعدم رؤیتها. فیسألون من أیّة اُمتم أنتم؟ فتقول من أُمّة محمد صلی الله علیه و آله فتقسم علیهم الملائکة عن أعمالهم التی أدّت بهم إلی هذه الکرامة، فیقولون: «کنا إذا خلونا نستحی أن نعصیه ونرضی بالیسیر ممّا قسِّم لنا» فتقول لهم الملائکة: «حقّ لکم هذا» (1).

ج ج

ص:31


1- 1) مسکن الفؤاد نقلاً عن بحار الأنوار 100 / 25. [1]

ص:32

القسم الثانی: سبیل بلوغ مقامات الصالحین

اشارة

«فاحْذَرُوا مِنَ اللّهِ ما حَذَّرَکُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَاخْشَوْهُ خَشْیَةً لَیْسَتْ بِتَعْذِیرٍ! وَاعْمَلُوا فِی غَیْرِ رِیاءٍ وَلا سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ یَعْمَلْ لِغَیْرِ اللّهِ یَکِلْهُ اللّهُ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ. نَسْأَلُ اللَّهَ مَنازِلَ الشُّهَداءِ وَمُعایَشَةَ السُّعَداءِ وَمُرافَقَةَ الْأَنْبِیاءِ» .

الشرح والتفسیر

یواصل الإمام علیه السلام خطبته بعدد من الوصایا الأخلاقیة فیقول علیه السلام: «فاحذروا من اللّه ما حذَّرکم من نفسه» ولعلّ العبارة إشارة إلی الآیة الشریفة: «فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ» (1)أو إلی الآیة: «وَیُحَذِّرُکُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلی اللّهِ المَصِیرُ» (2). ثم حثّ علیه السلام علی خشیته وتقواه بحیث لا تکون هناک من حاجة لالتماس الأعذار الواهیة «واخشوه خشیة لیست بتعذیر» (3)، لأنّه العالم بباطن کل فرد وأسراره وأعذاره الصحیحة من السقیمة. جدیر بالذکر أنّ العبارة السابقة تحدثت عن الحذر من اللّه، ثم أُردفت بالحدیث عن الخشیة، وقد صرّح اللغوین أنّ الخشیة تتضمن الخوف المقرون بدرک العظمة، ومن هنا صرّح القرآن الکریم «إِنَّما یَخْشی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ» (4)، أمّا الحذر فیقال حین یحتاط الإنسان من خطر قطعی أو محتمل. ثم أشار علیه السلام فی وصیته الثالثة إلی الإخلاص فی النیّة وتنقیة الأعمال من الریاء والسمعة لأنَّ من عمل للّه

ص:33


1- 1) سورة النور / 63. [1]
2- 2) سورة آل عمران / 28. [2]
3- 3) «تعذیر» من مادة «عذر» وهنا بمعنی عدم العذر الصحیح.
4- 4) سورة فاطر / 28. [3]

وشرک معه آخر وکله اللّه إلی ذلک الآخر وقال له خذ أجرک منه فانّک لم تعمل لی «واعملوا فی غیر ریاء ولا سمعة، فإنَّه من یعمل لغیر اللّه یکله اللّه لمن عمل له» .

نعم خشیة اللّه وخشیة مقارفة الذنوب والمعاصی لا تکفی لوحدها، بل لابدّ من الإتیان بالأعمال الصالحة البعیدة عن کافة أشکال الریاء والسمعة، والریاء یعنی مراءاة الآخرین ولفت أنظارهم لما یقوم به الإنسان من أعمال، والسمعة أن یقوم بالعمل للّه، إلّاأنّه یسعی لإسماعه الآخرین، بحیث یجلب انتباههم إلیه، و إلاّ یفعل ذلک یسر لسماع الآخرین فیثنون علیه ویطرونه.

والمعروف بین العلماء أنّ السمعة لا تبطل العمل، إلّاأنّها مذمومة خلقاً ومدعاة لانحطاط الإنسان الروحی والمعنوی، ولعلّها تؤدّی إلی زوال الأجر والثواب. وقد استدل الإمام علیه السلام فی تحذیره من السمعة والریاء بأنّ اللّه سبحانه لا یقبل إلّاالعمل الخالص لوجهه فإنّ شرک العبد معه أحد آخر وکله اللّه إلیه لیأخذ منه أجره، وبالطبع فإنّه لا یملک القدرة علی إعطاءه الأجر والثواب. والعبارة هی مضمون حدیث قدسی معروف نقل عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّ الحق سبحانه قال: «أنا خیر شریک ومن أشرک معی شریکاً فی عمله، فهو لشریکی دونی، لأنی لا أقبل إلّاما خلص لی» (1).

ثم اختتم الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «نسأل اللّه منازل الشهداء ومعایشة السعداء ومرافقة الأنبیاء» . حیث یهدف الإمام علیه السلام إلی تعریف الأُمّة بالقیم الإلهیة الحقّة من قبیل الشهادة ومرافقة الأنبیاء وهی الاُمور التی لا تنال بسهولة کما لا تمنح للإنسان بالمجان «ومن یطع اللّه وَمَنْ یُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَاُولئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِینَ وَحَسُنَ أُولئِکَ رَفِیقاً * ذ لِکَ الفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَکَفی بِاللّهِ عَلِیماً» (2).

فالمراحل الثلاث - الشهادة والسعادة ورفقة الأنبیاء - التی وردت فی کلام الإمام علیه السلام یمکن أن تکون من قبیل العلّة والمعلول، فالشهادة سبب السعادة، والسعادة سبب مرافقة الأنبیاء. کما یمکن أن یکون الکلام إشارة لطیفة إلی حوادث المستقبل وشهادة الإمام علیه السلام.

ص:34


1- 1) منهاج البراعة 3 / 324 کما ورد هذا المضمون عن الإمام الصادق علیه السلام فی بحار الأنوار 67 / 243. [1]
2- 2) سورة النساء / 69 - 70. [2]

فصل فی أنّ الاخلاص أساس العمل

للشرک والوثنیة شعب، من أهمها الریاء والسمعة. والریاء من مادة الرؤیة بمعنی التظاهر وإلفات نظر الآخرین إلیه من خلال التظاهر بالعبادة والأعمال الحسنة. وهذا الفرد فی الواقع مشرک، لأنّه یری عزّته وکرامته بید الآخرین لا بید اللّه، ولذلک یقوم بأعماله بدافع من لفت انتباه الآخرین إلیه.

أمّا بشأن السمعة فهناک تفسیران: أحدهما أنّ السمعة هو أن یقوم الفرد بالعمل قربة إلی اللّه، فتخالطه الأفکار باطّلاع الآخرین وإسماعهم بعمله لیحظی بمدیحهم وثنائهم. وهو الأمر الذی لا یوجب بطلان العمل حسبما صرّح بذلک الفقهاء، لأنّه قد حصل بعد الإتیان بالعمل، إلّا أنّها تقلل من ثواب العمل أو تقضی علیه، والآخر أن تکون خالطته فکرة إسماع الآخرین منذ بدایة العمل لیثنوا علیه ویکیلوا له المدح والثناء. ولیس هنالک من فارق بین السمعة بهذا المعنی والریاء، سوی أنّ المرائی یقوم بالعمل لیراه الآخرون بینما یقوم الآخر بالعمل لیسمعه الآخرون، وعلیه فالعملان لیسا بخالصین.

علی کلّ حال فإنّ الریاء والسمعة من أکبر آفات الأعمال العبادیة. ولما کان نفوذ الریاء والسمعة إلی الأعمال الإنسانیة غایة فی التعقید والدقّة فقد تواتر التحذیر منه کراراً فی الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة. وأعظم مفسدة لهذا العمل هو أنّه یقضی علی روح التوحید ویقذف بصاحبه فی وادی الشرک والازدواجیة فی العبادة، لأنّ توحید الأفعال یعلّمنا الإیمان والإذعان بأنّ کلّ شیء بید اللّه وأنّ الأجر والثواب والعزّة والکرامة والرزق و. . . تابعة لإرادة اللّه مأتمرة بأوامره، إلّاأنّ المرائین إنّما یلتمسون هذه الاُمور من الآخرین، وهذا شرک علنی. وقد ورد فی الروایات یقال یوم القیامة للمرائی: «یا کافر! یا فاجر! یا غادر! یا خاسر! حبط عملک وبطل أجرک، فلا خلاص لک الیوم» (1). هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ الریاء والسمعة مصدر کافة الاختلالات الاجتماعیة، فالمرائی إنّما یهتم بظاهر العمل دون الإکتراث إلی باطنه، فالظاهر جمیل والباطن فاسد.

ص:35


1- 1) وسائل الشیعة 1 / 50. [1]

المؤسّسات والدوائر تتمتع بظاهر أنیق بینما تستبطن الخواء والفساد من الداخل، الأفکار سطحیة ساذجة خالیة من أیّ عمق وجذور فالهدف فی المجتمعات المرائیة إنّما یولی للکمیّة لا للکیفیّة. ومن البدیهی أنّ مثل هذه المجتمعات إنّما تحث الخطی نحو الانحطاط والاضمحلال والانهیار. وبالطبع علی العکس من ذلک فهنالک الیوم البلدان التی أولت أهمیة قصوی للقطاعات الصناعیة والزراعیة والاقتصادیة وحثت الخطی من أجل خدمة المجتمع ورفاهه فقد سارت نحو الرقی والتطور والازدهار.

نکتفی بهذا المقدار بشأن الریاء والسمعة ونترک الخوض فی التفاصیل أکثر إلی الأبحاث القادمة بما یتناسب والموضوع.

ج ج

ص:36

القسم الثالث: السند الشعبی

اشارة

«أَیُّها النّاسُ إِنَّهُ لا یَسْتَغْنِی الرَّجُلُ - وَإِنْ کانَ ذا مالٍ - عَنْ عِتْرَتِهِ، وَدِفاعِهِمْ عَنْهُ بِأَیْدِیهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ أَعْظَمُ النّاسِ حَیْطَةً مِنْ وَرائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَأَعْطَفُهُمْ عَلَیْهِ عِنْدَ نازِلَةٍ إِذا نَزَلَتْ بِهِ وَلِسانُ الصِّدْقِ یَجْعَلُهُ اللّهُ لِلْمَرْءِ فِی النّاسِ خَیْرٌ لَهُ مِنَ الْمالِ یَرِثُهُ غَیْرُهُ» .

الشرح والتفسیر

لمّا فرغ الإمام علیه السلام من وصایاه للفقراء والمعدمین بطاعة اللّه وخشیته وإلّا یصدهم عن ذلک الانحراف الأخلاقی بسبب سوء الأوضاع وصعوبة العیش التی یعانون منها، وأصل خطبته لیخاطب هنا الأغنیاء والمرفهی بما یحفظ التوازن فی المجتمع. فقد حثم بادئ ذی بدء إلی مدّ ید العون والمساعدة إلی بطانتهم وأقربائهم وعشیرتهم، ویلفت نظرهم إلی غض الطرف عن الأموال والثروة التی لیس من شأنها أن تجعل الإنسان غنیاً عن قرابته «أیها الناس إنه لا یستغنی الرجل - وإن کان ذا مال - عن عترته (1)، ودفاعهم عنه بأیدیهم وألسنتهم» . فالواقع أنّهم أعظم سند یوفر له الحمایة والدعم ویزیل عنه المشاکل والمخاطر، وإذا ما تعرض لبعض الظروف الصعبة والحوادث الخطیرة، کانت عترته أشفق من الآخرین به وأحرصهم

ص:37


1- 1) «عترة» قال أرباب اللغة تعنی أصل الشیء وأساسه، کما قیل أنّ هذه المفردة أقتبست من عِتر (علی وزن فِطر) نبات معطر کثیر الغصون والأوراق وتشیر إلی فروع القرابة. وقیل تطلق العترة علی الأولاد فقط. وعلیه فعترة النبی صلی الله علیه و آله هم ولد فاطمة علیها السلام وإلی ذلک أشار الحدیث المعروف «إنی تارک فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی أهل بیتی (لسان العرب، الصحاح، مقاییس اللغة) .

علیه «وهم أعظم الناس حیطة (1)من ورائه وألمّهم (2)لشعثه (3)وأعطفهم علیه عند نازلة إذا نزلت به» . نعم فالحیاة ملیئة بالمخاطر والمطبات والعواصف الهوجاء والأحداث المریرة التی لا یسع الإنسان التغلب علیها بمفرده، ومن هنا فإنّ العقل والحکمة تتطلب من الإنسان التفکیر فی مثل هذه الأحداث. وما أروع أن تکون لهذا الإنسان قرابة تهب لدعمه وحمایته فی مثل هذه الظروف. ولکن، هل یمکن الحصول علی دعم القرابة ومساندتها دون الإحسان إلیها وتفقد أمورها وإحاطتها بالحب والرعایة وإغاثتها مالیاً ومعنویاً؟ قطعاً، لا. فما أحری کل إنسان أن یوطد أواصر مودّته لقرابته من خلال بعض البذل المادی حتّی لا یبقی وحده حین تعصف به الأحداث والمصائب. طبعاً الإحسان إلی الآخرین ممّا ورد الندب إلیه ولا تخفی آثاره «الإنسان عبید الإحسان» إلّاأنّ الأولویة فی هذا الأمر للقرابة «الأقربون أولی بالمعروف» حیث تمهد الأجواء أمام تعمیق أواصر الاخاء والمحبّة. وبغضّ النظر عما سبق فإنّ هذا الأمر لو طبق فی المجتمع کما ینبغی فقد لا تبقی هنالک من آثار للفقر والحرمان فی المجتمع، کیف لا وفی کلّ قبیلة عدد من الأفراد المتمکنین الذین لو مدّوا ید العون إلی سائر أفراد قبیلتهم لما ظل هنالک من یعانی من الحرمان. وقد أوصی الإمام علیه السلام ولده الإمام الحسن علیه السلام بهذا الأمر مبیّناً فوائد إکرام العشیرة ومعالجة مشاکلهم إذ قال علیه السلام: «وأکرم عشیرتک! فإنّهم جناحک الذی به تطیر وأصلک الذی إلیه تصیر ویدک التی بها تصول» (4). ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی دلیل الآخر فی إطار حثه الأفراد المتمکنین علی مساعدة قرابتهم فیقول: «ولسان الصدق یجعله اللّه للمرء فی الناس خیر له من المال یرثه غیره» . . وقد ورد فی هذا المعنی من النثر والنظم الکثیر الواسع، فمن ذلک قول عمر لابنة هرم: ما الذی أعطی أبوک زهیراً؟ قالت: أعطاه مالاً یفنی، وثیاباً تبلی. قال: لکن ما أعطاکم زهیر لا یبلیه الدهر، ولا یفنیه الزمان. إذا أتت اُعطیت الغنی ثم لم تجد بفضل الغنی ألفیت مالک حامد

ص:38


1- 1) «حیطة» اسم مصدر من مادة «حوط» بمعنی الاحاطة، وهی هنا بمعنی الرعایة والکلاءة. وقال البعض الحیطة بفتح الحاء بمعنی المراقبة وبکسرها بمعنی الحفظ.
2- 2) «الم» من مادة «لمم» بمعنی الجمع والاصلاح.
3- 3) شعث بالتحریک بمعنی التفرق والانتشار.
4- 4) نهج البلاغة، [1] آخر الرسالة رقم 3.

وقل غناء عنک مال جمعته إذا کان میراثاً وواراک لاحد

نعم لایحمل الإنسان شیئاً من الأموال معه فی قبره، إلّاأنّه یحمل العمل الصالح والذکر الحسن لدی الناس، فلا یکد یذکر إسمه حتّی یترحم علیه الناس ویسألون اللّه له المغفرة والعفو والرحمة.

هذا هو رأس المال المعنوی والمادی الخالد الذی یمکن نیله من خلال الإنفاق فی سبیل اللّه وبذل الإحسان إلی عباد الرحمن. وزبدة الکلام فانّ الأغنیاء قد دعوا إلی مدّ ید العون إلی فقراء المجتمع ومساعدتهم من خلال دافعین؛ الأول بغیة الحصول علی الأعوان والأنصار وتوظیفهم لصالحهم حین بروز النوائب والشدائد التی تواجههم فی حیاتهم، والثانی بهدف الحصول علی السمعة الحسنة والذکر الطیب بعد الموت بما یجعل الآخرین یترحّمون علیهم ویسألون اللّه لهم العفو والمغفرة. وما أعظم هذه التجارة بهذا المتاع الدنیوی الزائل من أجل الحصول علی السندین المذکورین.

فصل فی حسن الثناء (لسان الصدق)

لقد ذکر الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة أنّ لسان الصدق یجعله اللّه للمرء فی الناس خیر له من المال یورثه غیره. ولسان الصدق هو أن یذکر الإنسان بالخیر، ویثنی علیه به، قال سبحانه: «وَاجْعَلْ لِی لِسانَ صِدْقٍ فِی الآخِرِینَ» (1)وهو دعاء إبراهیم الخلیل علیه السلام. کما أشار البارئ سبحانه فی إطار ثنائه علی طائفة من الأنبیاء «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِیّاً» (2). واللسان فی الآیة بمعنی ذکر الإنسان بالخیر. وممّا لا شک فیه أنّ هذه القضیة لیست من قبیل القضایا الروتینیة الجوفاء، بل تنطوی علی عدّة معطیات علی مستوی الفرد والمجتمع، فهی:

أولاً: أنّها لمن دواعی الفخر والاعتزاز الخالد، بینما نری أنّ الأموال والثروات المادیة إنّما توزّع فی لحظة وقد لا یبقی لها من أثر.

ثانیاً: إنّ حسن الثناء والذکر الحسن إنّما یسوق الآخرین للدعاء لهؤلاء الأفراد وطلب

ص:39


1- 1) سورة الشعراء / 84. [1]
2- 2) سورة مریم / 50. [2]

الرحمة والمغفرة لهم من اللّه؛ الأمر الذی لا تخفی آثاره المعنویة.

ثالثاً: إنّ هذا الأمر له تأثیره البالغ فی نفوس أبناء المجتمع فی الاقتداء باولئک الأفراد وإحیاء القیم العلیا فی المجتمع والقضاء علی ما یخالفها، فقد جاء فی الروایة المعروفة «من سنّ سنّة حسنة کان له مثل أجر من عمل بها» (1).

وأخیراً أنّ ذلک من مدعاة العزة والرفعة والکرامة لدی نسل اُولئک الأفراد المحسنین، فما أکثر من نعرف من الأفراد الذین نکن لهم الحب والاحترام لانحدارهم من اُولئک الأفراد. هذه طائفة من الآثار المعنویة الفردیة والاجتماعیة للسان الصدق وطیب الاحدوثة.

ج ج

ص:40


1- 1) لقد ورد هذا المضمون فی عدة روایات ومنها کتاب وسائل الشیعة 11 / الباب 16 من أبواب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. [1]

القسم الرابع: الإعتضاد بالعشیرة

اشارة

ومنها: «أَلا لا یَعْدِلَنَّ أَحَدُکُمْ عَنِ الْقَرابَةِ یَرَی بِها الْخَصاصَةَ أَنْ یَسُدَّها بِالَّذِی لا یَزِیدُهُ إِنْ أَمْسَکَهُ وَلا یَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَکَهُ؛ وَمَنْ یَقْبِضْ یَدَهُ عَنْ عَشِیرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ یَدٌ وَاحِدَةٌ وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَیْدٍ کَثِیرَةٌ وَمَنْ تَلِنْ حاشِیَتُهُ یَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ» .

الشرح والتفسیر

بعد أن قرظ الإمام علیه السلام الثناء والذکر الجمیل وفضله علی المال، أمر بمواساة الأهل وصلة الرحم وإن قلّ ما یواسی به، حیث أکد هذا الأمر بثلاث عبارات فقال علیه السلام: «ألا لا یعدلن أحدکم عن القرابة یری بها الخصاصة (1)أن یسدها بالذی لا یزیده إن أمسکه ولا ینقصه إن أهلکه» . یمکن أن تکون هذه العبارة إشارة لأحد معنیین؛ الأول إلی البعد المعنوی لهذا العمل فی أنّ حرمان القرابة ممّا یتمتع به الإنسان من إمکانات وثروات من شأنه أن یسلب برکة مال الإنسان وحیاته ویحول دون نمائه وزیادته، وعلی العکس من ذلک فانّ معونة القرابة ومساعدتها تنطوی علی عدة برکات من شأنها أن تدرک هذا النقص الظاهری بتفضّلات اللّه وألطافه؛ أو أن یکون إشارة إلی بعده الظاهری والمادی، لأنّ مشاکل القرابة إنّما تنتقل بشکل أو بآخر إلی الإنسان وتؤرق فکره وتشغل روحه وتعرض سمعته وشخصیته للخطر وبالتالی تضاعف من مشاکله ومعاناته، وعلیه فما أحراه أن یهب لمساعدتهم ومعونتهم لیظفر بثواب

ص:41


1- 1) «الخصاصة» هی الفقر والحاجة الشدیدة وهی مصدر خص الرجل بمعنی احتاج وافتقر، وقال صاحب مقاییس اللغة تعنی الثلمة ومن هنا أطلقت علی الفقر والحاجة لأنّها ثلمة فی حیاة الإنسان.

الآخرة وبرکات الدنیا وینال الذکر الطیب والاحدوثة الحسنة. فقد جاء فی الحدیث أن الإمام علی علیه السلام قال: «البرکة فی مال من آتی الزکاة وآسی المؤمنین ووصل الأقربین» (1)ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی الأضرار الفادحة التی یتکبدها الإنسان إذا أمسک یده عن قرابته ولم یقدم العون والمساعدة، ومن ذلک إنّه إنّما یقطع عنهم یده بینما یقطعون عنه أیدیهم التی لا غنی له عنها «ومن یقبض یده عن عشیرته، فإنّما تقبض منه عنهم ید واحدة وتقبض منهم عنه أید کثیرة» . فالحق لیس هنالک من عاقل مستعد للتضحیة بکل هذه المنافع من أجل التنازل عن بعض منافعه الشخصیة الضئیلة، ثم یختتم الإمام علیه السلام کلامه بالقول «ومن تلن حاشیته یستدم من قومه المودّة» . یمکن أن تنطوی مفردة «حاشیته» علی معنیین؛ الأول صفات الإنسان وروحیاته، والآخر أن تکون إشارة إلی البطانة وبناءً علی هذا، فإنّ مفهوم الجملة هو تمحور قوم الإنسان حوله إذا حسن سلوک بطانته تجاه الناس. فقد رأینا الکثیر من الأفراد الصالحین الذین انفرجوا عنهم الناس رغم صلاحهم بسبب سوء تصرف بطانتهم ومن حولهم.

فصل فی برکات التعاضد بالقرابة

إنّ مسألة صلة الرحم وتوطید أواصر المحبّة بالقرابة وإن کانت وظیفة إلهیة ورد التأکید علیها فی الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة، إلّاأنّ ممّا لاشک فیه أنّ القیام بهذه الوظیفة الدینیة والإنسانیة إنّما ینطوی علی برکات جمة تعرض لها الإمام علیه السلام أواخر هذه الخطبة والمهم أن یعزز الإنسان هذه الأصرة ولا یمارس کلّ مأمن شأنه الإساءة إلیها أو قطعها. ولابدّ من الإحسان إلی القربی حین شعور الإنسان بوفور النعمة، لتهب للوقوف إلی جانبه إذا ما واجهته بعض المحن والخطوب. وقد دلّ الواقع بما لا یقبل الشک أنّ التفوّق علی المشاکل لا یتأتی من خلال الجهود الفردیة، بل یتطلب مؤازرة الآخرین وتکافئ جهودهم، وما أحری أن تکون الأولویة فی هذه الرابطة للقرابة والعشیرة حیث یعرف کلّ منهما الآخر إلی جانب الإرتباط العاطفی الذی یشدّ کلّ منهما الآخر إلی جانب الإرتباط العاطفی الذی یشدّ کلّ منهما للآخر،

ص:42


1- 1) بحار الأنوار 74 / 413. [1]

غیر أنّ المؤسف له أنّ أغلب الأفراد إنّما یضربون هذه الاُمور عرض الجدار بمجرّد نیلهم بعض الثراء والنعمة فیبتعد عن قرابته ویحرم نفسه من کلّ هذه الطاقات التی یمکنها معالجة مصاعبه ومشاکله، وهذا هو المعنی الذی تناولته أغلب الروایات الواردة بهذا الشأن. فقد جاء فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «صِلَةُ الرّحِمِ وَحُسْنُ الجِوار، یُعَمّران الدیار وَیَزیدان فِی الأعمار» (1). وقال الإمام الباقر علیه السلام: «صِلَةُ الأرحامِ وَحُسنُ الجِوارِ، زیادَةً فی الأموالِ» (2). کما ورد عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «صِلَةُ الأرحامِ تُزَکّی الأعمال وَتُنْجی الأموال وتَرْفَعُ البَلوی وتُیَسَّرُ الحِسابُ وتُنسی فی الأجل» (3). وبالمقابل فإنّ قطع الرحم ینطوی علی آثار خطیرة علی حیاة الإنسان فی الدنیا وسوء العذاب فی الآخرة. فقد جاء فی الحدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «أخبَرنی جبرئیلُ إنَّ رِیحَ الجنّةِ تُوجَدُ مِن مَسیرةِ ألفِ عامٍ ما یَجِدُها عاقٌّ ولا قاطِعُ رَحِمٍ ولا شَیخُ زانٍ» . (4)

ولعل هنالک من یسأل: ما المراد بصلة الرحم؟ المراد هو تعمیق أواصر المحبّة والنجدة فی حل المشاکل وعدم الغفلة وتفقد الأحوال فی کافة الظروف، وقد تحفظ هذه الصلة حتّی بالسلام والإرتباط عن طریق الهاتف. فقد قال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «صِلُوا أرحامَکُم ولو بِالتسلیمِ» (5)وسنتکلم فی الأبحاث القادمة عن صلة الرحم ومعطیاتها المادیة والمعنویة بما یتناسب والمواضیع الواردة فی الخطب. هذا وقد قال السید الرضی (ره) فی آخر هذه الخطبة:

«الغفیرة هاهنا الزیادة والکثرة؛ من قولهم للجمع الکثیر: الجم الغفیر، والجماء الغفیر. ویروی عفوة من أهل أو مال» .

والعفوة: الخیار من الشیء. یقال: «أکلت عفوة الطعام» أی خیاره. وما أحسن المعنی الذی أراده علیه السلام بقوله: «ومن یقبض یده عن عشیرته. . .» إلی تمام الکلام؛ فانّ الممسک خیره عن عشیرته إنّما یمسک نفع ید واحدة، فاذا احتاج إلی نصرتهم، واضطر إلی

ص:43


1- 1) بحار الأنوار 71 / 120. [1]
2- 2) بحار الأنوار 71 / 97. [2]
3- 3) بحار الأنوار 71/211. [3]
4- 4) معانی الأخبار نقلاً عن بحار الأنوار 71 / 95 ح 26. [4]
5- 5) اصول الکافی نقلاً عن بحار الأنوار 71 / 126.

مرافدتهم، قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الأیدی الکثیرة، وتناهض الأقدام الجمة.

ص:44

الخطبة الرابعة والعشرون

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

وهی کلمة جامعة له، فیها تسویغ قتال المخالف والدعوة إلی طاعة اللّه، والترقی فیها لضمان الفوز «وَلَعَمْرِی! ما عَلَیَّ مِنْ قِتالِ مَنْ خالَفَ الْحَقَّ وَخابَطَ الْغَیَّ، مِنْ إِدْهانٍ وَلا إِیهانٍ. فاتَّقُوا اللَّهَ عِبادَ اللّهِ، وَفِرُّوا إِلَی اللّهِ مِنَ اللّهِ، وَامْضُوا فِی الَّذِی نَهَجَهُ لَکُمْ، وَقُومُوا بِماعَصَبَهُ بِکُمْ، فَعَلِیٌّ ضامِنٌ لِفَلْجِکُمْ آجِلاً، إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عاجِلاً» .

نظرة إلی الخطبة

یهدد الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة مخالفیه بشدة ویعرب عن عزمه الراسخ فی التصدی لهم وقتالهم بعد أن یقنطهم من أدنی موادعة أو مصالحة علی حساب العدل والحق، ثم یوصی صحبه بمواکبته فی هذا الطریق والتأهب لمواجهة أعداء الدین. ویری البعض أنّ الخطبة فی الواقع ردّ علی اُولئک الذین یشکلون علی الإمام علیه السلام فی مساومة الأعداء واضطرارهم للاستسلام من خلال استمالتهم بالرشوة و. . . فالإمام علیه السلام یکشف أنّه لیس من أهل المساومة والخداع. (1)

ص:45


1- 1) مفتاح السعادة فی شرح نهج البلاغة 1 / 112. [1]

الشرح والتفسیر

المساومة والمصناعة

استهلّ الإمام علیه السلام خطبته بالقول: «ولعمری (1)ما علیّ من قتال من خالف الحق وخابط (2)الغی، من إدهان (3)ولا إیهان (4)» .

یبدو أنّ هنالک فارق بین العبارتین «خالف الحق» و «خابط الغی» - هو أنّ العبارة الاولی إلی الفرد الذی یشق عن علم سبیل مخالفة الحق، بینما تشیر الثانیة إلی من یختار ذلک الطریق ویسبح فی بحر من الضلال جهلاً وخطأ ودون أدنی تأمّل ومطالعة. أمّا تعبیره علیه السلام بالادهان (المجاملة والمداهنة) والایهان (الضعف) فهو تحدید إلی أنّ الکف عن القتال والمواجهة إنّما یستند إلی أحد سببین؛ إمّا المجاملة والمداهنة لأعداء الحق، أو الضعف والعجز، وحیث لم یکن لأی من هذا السببین من سبیل إلی کیان علی علیه السلام فإنّ مواجهته لمخالفی الحق عنیفة لا هوادة فیها.

وقد ورد تقریباً شبه هذا المعنی فی سائر کلمات الإمام علیه السلام فی إطار حدیثه عن الإطار العام الذی یتحرّک ضمن دائرته زعماء المسلمین وأئمتهم فقد قال علیه السلام: «لا یُقیمُ أمرُ اللّهِ سُبحانَه إلّا مَنْ لا یُصانِعُ ولا یُضارِعُ ولا یَتَّبِعُ المَطامِعَ» (5). کما وصف نفسه علیه السلام فی موضع آخر فقال: «وأَیمُ اللّه لقد کنتُ مِن ساقَتها حتَّی تَوَلَّتْ بِحَذافیرِها واستَوسَقَتْ فی قِیادها، ما ضَعُفْتُ ولا جَبُنْتُ ولا خُنْتُ ولا وَهَنْتُ» (6).

ص:46


1- 1) «لعمری» و «عَمْر» و «عُمَر» و «عُمُر» بمعنی مدة الحیاة ویقال حین القسم لعمری بفتح العین. وهی هنامبتدأ لخبر محذوف تقدیره «لعمری قسمی» وقد ورد سؤال فی مجمع البحرین کیف بهذا القسم وهو لا یجوز بغیر الذات الإلهیة المقدسة؟ وأجیب بأنّ هذا القسم لیس حقیقة بل بصورة قسم، وتقدیره «بواهب عمری وعمرک» .
2- 2) «خابط» من مادة «خبط» وخابط الغی بمعنی صارع الفساد، وأصل الخبط الیسر فی الظلام، وتستعمل للناقة حین تخبط فی مشیها.
3- 3) «الادهان» من مادة «دهن» بمعنی المنافقة والمصناعة ولا تخلو من مخالفة الباطن للظاهر، کما تستعمل کنایة عن المجاملة والمداهنة.
4- 4) «الایهان» من مادة «وهن» بمعنی الضعف سواء فی الخلقة أو الأخلاق، والایهان والتوهین بمعنی الاضعاف.
5- 5) نهج البلاغة، [1]الکلمات قصار، 110. [2]
6- 6) نهج البلاغة، الخطبة 104. [3]

ثم أبدی علیه السلام نصائحه ووصایاه وفی مقدمتها مراعاة الورع والتقوی فقال علیه السلام: «فاتقوا اللّه عباد اللّه» . فالتقوی - التی تعنی خشیة اللّه فی الباطن وعدم مقارفة الذنوب والمعاصی والعمل علی طاعة اللّه - هی أساس الأعمال الصالحة والباقیات الصالحات، ومن هنا ورد التأکید علیها بصفتها مقدمة لسائر الوصایا الأخلاقیة والدینیة. ثم أوصی علیه السلام بالفرار من معصیة اللّه إلی طاعته وغضبه وسخطه إلی رضاه وعذابه إلی رحمته ونقمته إلی نعمته «وفرّوا إلی اللّه من اللّه» فالعبارة إشارة لطیفة إلی مسألة توحید الأفعال، لأنّ أیة مشکلة تواجه الإنسان فی هذا العالم إنّما تفرزها طبیعة أعماله والآثار التی أودعها اللّه هذه الأعمال. وعلیه فمشاکله من ذاته وعقابه ممّا تفرزه أعماله، وعلیه فلیس أمامه من سبیل لحل مشاکله سوی الفرار إلی اللّه واللجوء إلیه إذ «لا مؤثر فی الوجود إلّااللّه» وکل خیر وبرکة ونجاة تفاض علی الإنسان من اللّه سبحانه - القرآن من جانبه تحدث عن طائفة من العصاة الذین استحقوا سخط اللّه وغضبه ولم یعد أمامهم من سبیل سوی اللجوء إلی اللّه سبحانه «وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إلّاالیه» (1)الطریف فی الأمر أنّ الإنسان إذا شعر بخوف من أحد لاذ بآخر، إلّاأنّ ذلک لیس کذلک بالنسبة للّه سبحانه، فاذا ما خافه الإنسان وخشی عذابه، لجأ إلیه، وهل هناک من هو أرحم بالإنسان منه؟ ! هذا هو الدرس الذی ینبغی أن تتعلمه من التوحید الأفعالی فی أنّ اللّه هو مصدر کلّ خیر وحرکة وبرکة. فللّه الأسماء والصفات التی تدعونا للجوء إلی اللّه علی کلّ حال وفی کلّ الظروف.

فان خشینا سخطه وغضبه لذنا بعفوه ورحمته، وإن خفنا عدله لجأنا إلی فضله وکرمه. وأخیراً یبدو أنّ هذه العبارة مقتبسة من قوله سبحانه علی لسان رسوله الکریم صلی الله علیه و آله: «فَفِرُّوا إِلی اللّهِ إِنِّی لَکُمْ مِنْهُ نَذِیرٌ مُبِینٌ» (2). ثم قال علیه السلام فی الوصیة الثالثة «وامضوا فی الذی نهجه لکم» ثم أوصی علیه السلام قائلا: «وقوموا عصبة (3)بکم» . والواقع أنّ الإمام علیه السلام قد سنّ بهذه العبارات

ص:47


1- 1) سورة التوبة / 118. [1]
2- 2) سورة الذاریات / 151. [2]
3- 3) «عصب» من مادة «عصب» علی وزن ضَرَبَ الذی یربط العظام والعضلات، أی کلفکم به وألزمکم أدائه.

قانوناً جامعاً یشتمل علی أربعة بنود من شأنها ضمان السعادة النجاة:

الأول: مراعاة التقوی وخشیة اللّه.

الثانی: الحرکة نحو اللّه من خلال الفرار منه إلیه سبحانه.

الثالث: الثبات علی النهج الإیمانی وسلوک السبیل الصحیح نحو اللّه.

الرابع: العمل بالتکالیف والوظائف الدینیة التی أمر بها الشارع المقدس.

قد یقال أنّ الوصایا الأربعة استهلت بفاء التفریع فما علاقتها بصدر الخطبة الذی تحدث عن العزم الراسخ فی مجابهة مخالفی الحق وقتالهم؟ والجواب علی هذا السؤال واضح، لأنّ قتال هذه الطائفة المنحرفة الجائرة إنّما یتطلب جنوداً أشداء مؤمنین من ذوی العزم والإرادة، وکأنّ الإمام علیه السلام أراد أن یعدّ أصحابه للوقوف بوجه أصحاب الباطل. جدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام عبّر عن التکالیف بقوله «ما عصیه بکم» (التکالیف التی کلّفتم بها وأمرکم بأدائها) ، ومفهوم العبارة هو أنّ الوظائف الإلهیة لیست من الاُمور التی یستطیع الإنسان إهمالها وعدم الإکتراث لها، بل هی طوق فی رقبته ودین فی ذمته لابدّ له من أدائه.

یذکر أنّ هذه التعبیرات قد وردت فی أغلب الآیات والروایات التی تشیر إلی أنّ الإنسان إنّما یتحرر من القیود إذا ما أدّی هذه التکالیف والوظائف. وأخیراً یختتم الإمام علیه السلام خطبته بضمانة النصر والغلبة والعاقبة الحسنة لأصحابه فی خوضهم القتال ضد تلک الطائفة الضالة عن الحق، النصر الذی سیفوزون به فی الدار الآخرة لا محالة إذا تعذر فی دار الدنیا «فعلیٌّ ضامن لفلجکم آجلاً إن لم تمنحوه عاجلاً» . وهذا هو المنطق القوی والرصین الذی اعتمده القرآن فی مخاطبته لأتباعه فی تصدیهم لأعداء الحق بأنّهم منتصرون غالبون مهما کانت نتیجة القتال: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلّا إِحْدی الحُسْنَیَیْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِکُمْ أَنْ یُصِیبَکُمُ اللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَیْدِینا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَکُمْ مُتُرَبِّصُونَ» (1)ومعلوم أنّ الجنود الذین یرون أنفسهم منتصرین فی جمیع الأحوال وأنّ عدوهم مهزوم، إنّما یقاتلون بمعنویات عالیة دون أن یشعروا بأدنی خوف أو خطر ممّا ستفرزه أحداث القتال. فیری أغلب العلماء والمفکّرین أنَّ الإیمان بهذا المبدأ - النصر أو الشهادة - هو العامل الرئیسی الذی یقف وراء

ص:48


1- 1) سورة التوبة / 52. [1]

الانتصار الذی یشعر به المسلمون فی جبهات القتال رغم عدم الموازنة فی القوی والتکافئ فی العدة والعدد مع جیوش الأعداء. وهذا هو المبدأ الذی ینبغی أن یجعله العالم الإسلامی الیوم نصب عینیه فی مجابهته لعالم الکفر فلا ینبهر بإمکاناته وتجهیزاته الزائفة.

والحق أنّ هذا المبدأ لا یحصل إلّافی ظل الإیمان والورع والتقوی وخوف اللّه.

فصل فی الضعف والمساومة

إنّ من الفوارق الأساسیة بین الساسة الربانیین والساسة العادیین إنّما یکمن فی أنّ ساسة الدنیا لا یتورّعون عن أیّة وسیلة من أجل تحقیق أطماعهم وأغراضهم الشخصیة، وغالباً ما یساومون العدو علی المبادئ الإنسانیة ومصالح مجتمعاتهم ویتجاهلون الحق والعدالة، بغیة حفظ مواقعهم السیاسیة والاجتماعیة، فی حین لیست هنالک من مساومة فی قاموس الساسة الربانیین، بل غالباً ما یضحی هؤلاء بمواقعهم الحساسة حرصاً علی حفظ المبادئ ورعایة للحق والعدل والقسط؛ الأمر الذی نلمسه بوضوح فی سیرة الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله وتلمیذه أمیرالمؤمنین علی علیه السلام. فما أکثر الأفراد الذین اعترضوا علی سیاسة علی علیه السلام من قبیل استمالة الآخرین عن طریق التمییز فی العطاء من بیت مال المسلمین: أو الإبقاء علی معاویة فی حکومة الشام، دون أن یحدثوا أنفسهم بالأسالیب التی یتبعها معاویة فی حکومته للناس أو المبادئ التی سیعبر علیها فی هذه الحکومة! أو الاقتراح الذی طرحه علیه عبد الرحمن بن عوف فی الشوری بتسلیمه مقالید الاُمور شریطة العمل بسیاسة الشیخین، أو تفویض طلحة والزبیر ولایة البصرة والکوفة. وقد اقترح من قبل، علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بعض الاقتراحات من قبیل اقتضاء المصلحة لطرده الضعفاء والمستضعفین. فاُولئک وإن کانوا یفیضون إیماناً باللّه ورسوله، إلّا أنّ المصلحة تقتضی استقطاب الأغنیاء وتعبئتهم ضدّ العدو رغم خلو قلوبهم من الإیمان! ویبدو أنّ اختلاف الرؤیة (علی ضوء السیاسة الإلهیة والسیاسة الشیطانیة) واختلاف المصلحة من الواقع هی التی دفعت باُولئک الأفراد والفئات الدنیویة للاعتراض علی السیاسة النبویة والعلویة.

والإمام علیه السلام یوضح فی هذه الخطبة السیاسة التی سیتبعها وأنّه لیس من أولئک الساسة

ص:49

الذین یرون للمجاملة والمداهنة من مکان فی سیاسته وتعامله مع المارقین عن الحق والعدالة، ولیس لدیه من وسائل سوی التقوی وامتثال التکالیف الشرعیة دون الإکتراث لهذا أو ذاک من المساومین والمعترضین، ونوکل المزید من الکلام فی هذا الموضوع إلی محلّه.

ج ج

ص:50

الخطبة الخامسه و العشرون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وقد تواترت علیه الأخبار باستیلاء أصحاب معاویة علی البلاد، وقدم علیه عاملاه علی الیمن - وهما عبید اللّه بن عباس وسعید بن نمران - لمّا غلب علیهما بسر بن أبی أرطاة فقام علیه السلام علی المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له فی الرأی، فقال:

القسم الأول

اشارة

«ما هِیَ إِلاَّ الْکُوفَةُ أَقْبِضُها وَأَبْسُطُها، إِنْ لَمْ تَکُونِی إِلاَّ أَنْتِ تَهُبُّ أَعاصِیرُکِ، فَقَبَّحَکِ اللّهُ وتمثل بقول الشاعر: لَعَمْرُ أَبِیکَ الْخَیْرِ یا عَمْرُو إِنَّنِی عَلَی وَضَرٍ مِنْ ذا الْإِناءِ قَلِیلٍ»

نظرة إلی الخطبة

یعتقد بعض شرّاح نهج البلاغة کابن أبی الحدید أنّ الخطبة بعد صفین والتحکیم والخوارج، حیث ألقاها علیه السلام أواخر عمره الشریف (2). ویفهم من مقدمة الشریف الرضی أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة حین تواترت علیه الأخبار بشأن استیلاء أصحاب معاویة علی

ص:51


1- 1) جاء فی مصادر نهج البلاغة [1]أنّ المسعودی أورد هذه الخطبة مع اختلاف طفیف فی مروج الذهب قبل المرحوم السید الرضی، ثم قال: وقد أشار إلیها العقد الفرید وابن عساکر فی تاریخ دمشق.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، آخر الخطبة.

البلاد الإسلامیة، حیث بلغه عاملاه علی الیمین فأطلعاه علی غلبة بسر بن اُرطاة لهما علی تلک المنطقة. فقد کان بعض أتباع عثمان فی صنعاء وکانوا قد بایعوا علیاً علیه السلام مکراً وخدیعة. وکان عبید اللّه بن عباس آنذاک عامل علی علیه السلام علی الیمن وقائد الجیش کان سعید بن نمران. وقد شنت الغارات تلو الغارات من قبل أهل الشام علی المناطق الإسلامیة بعد قتل محمد بن أبی بکر الذی نصبه الإمام علیه السلام والیاً علی مصر. قام أتباع عثمان - فی الیمن - بدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان، فتصدی لهم عبید اللّه بن عباس وأمر بسجنهم. فکتبوا من السجن إلی بعض أصحابهم فی الجیش لعزل سعید بن نمران والخروج علیه. ففعلوا والتحق بهم طائفة من الیمن ثم امتنعوا عن دفع الزکاة. فکتب عبید اللّه وسعید کتاباً للإمام علیه السلام. فکتب الإمام علیه السلام کتاباً لأهل الیمن ودعاهم للعمل بوظائفهم وحذرهم من العصیان والتمرد. فردّوا علیه بالتزامهم بطاعة الإمام علیه السلام بشرط عزل هذین الشخصین. ثم کتبوا لمعاویة. فبعث معاویة بسراً إلی الیمن فی جیش کثیف وأمره أن یقتل کلّ من کان فی طاعة علی علیه السلام، فقتل خلقاً کثیراً، وقتل فی من قتل فی مکّة داود وسلیمان، إبنی عبید اللّه بن عباس کما قتل فی الطائف صهر عبید اللّه. ثم بلغ الیمن بعد أن خرج منها عبید اللّه وسعید، واستخلف علیاً عبداللّه بن عمرو الثقفی، فحمل بسر علیه فقتله ثم استولی علی صنعاء مرکز الیمن. فلمّا دخل عبید اللّه وسعید علی الإمام علیه السلام فی الکوفة ذمهما علیه السلام لترکهما مکانهما، ثم صعد المنبر وألقی هذه الخطبة.

علی کل حال فإنّ الخطبة قد أوردت حین اشتدت حملات أهل الشام علی مختلف مناطق البلاد الإسلامیة وضعف المقاومة التی أبداها أصحاب الإمام علیه السلام حیث کان الإمام علیه السلام فی غایة التذمر والاستیاء، فقد استهل الإمام علیه السلام خطبته بالشکوی من قلّة الأفراد المطیعین، ثم تعرّض علیه السلام إلی الواقعة الألیمة لحملات بسر بن أرطاة وغلبته علی الیمن، ثم یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالشکوی للّه من هؤلاء القوم الذین مردّوا علی النفاق والمعصیة فیدعوا علیهم ویسأل اللّه أبدالهم بشر منه وإبداله من هو خیر منهم.

الشرح والتفسیر

النفاق والعصیان ودور الإمام

تبدو عبارات الإمام علیه السلام واضحة بالالتفات إلی سبب ورود الخطبة والأجواء التی کانت

ص:52

حاکمة آنذاک، فقد أشار الإمام علیه السلام إلی أنّه لم تبق لدیه سوی الکوفة بعد ذلک التمرّد والعصیان «ما هی (1)إلّاالکوفة، أقبضها وأبسطها» . والسؤال المطروح هنا: ماهی العلل والعوامل التی جعلت جیش الإمام علیه السلام یعیش هذه الحالة الخطیرة فی العراق وسائر المناطق الإسلامیة؟ نترک الإجابة علی هذا السؤال إلی البحث الذی سنخوض فیه فی موضوع تأملات.

أمّا المسألة المهمّة فهی أنّ رجلاً ربانیاً مثلَ علی علیه السلام وبتلک الشجاعة والبطولة والحنکة فی التدبیر إنّما عاش تلک الحالة تجاه أعداء الإسلام أثر عدم وجود القُوی المخلصة والشجاعة الموالیة للحق والمواکبة لحرکة الإمام علیه السلام. فقد أشار الإمام علیه السلام بقوله «أقبضها وأبسطها» بشأن الکوفة إلی خروج سائر المناطق عن حکومته وإن کانت خاضعة لها ظاهریاً. ثم قال علیه السلام: «ان لم تکونی إلّاأنت تهبّ أعاصیرک (2)فقبحک اللّه» فی إشارة إلی أنّ الکوفة وإن کانت مرکز حکومة الإمام علیه السلام إلّاأنّها لم تکن خالیة من التمرد والنفاق، بحیث لم یکن الإمام علیه السلام یحسب لأهلها ذلک الحساب. وما أعظم معاناته علیه السلام وهو بذلک العلم والحلم والحکمة والشجاعة إلّا أنّه یفتقر إلی المخلصین من الأتباع.

ثم تمثل علیه السلام بقول الشاعر: لعمر أبیک الخیر یا عمرو إننی علی وضر من ذا الإناء قلیل

«وضر» سواء کان بمعنی بقیة الدسم فی الإناء، أو بقیة قطرات الماء فی الإناء، أو الرائحة الباقیة فی إناء الطعام، فهی إشارة إلی أنّ الکوفة لم تکن سوی ذرة زهیدة آنذاک بالنسبة للعالم الإسلامی الواسع، ولا یسع أیّ زعیم بالاعتماد علی أهل هذه المنطقة مهما کان من حفظ بیضة الإسلام والدفاع عن البلاد الإسلامیة والوقوف بوجه هذه الذئاب الکاسرة المتعطشة للدماء.

الشرح والتفسیر

تأملان

1 - الکوفة علی وجهین

تعتبر الکوفة من المناطق الإسلامیة المشهورة فی التأریخ والتی کانت مسرّحاً لعدّة

ص:53


1- 1) الضمیر «هی» یعود إلی الحکومة أو البلاد فمفهوم العبارة «ما الحکومة والمملکة التی تحت سیطرتی إلّاالکوفة» .
2- 2) «أعاصیر» جمع «إعصار» وهی ریح تهب وتمتد من الأرض نحو السماء کالعمود کما تطلق کنایة علی الاُمور الاجتماعیة وهی تعنی الفوضی التی کانت سائدة فی الکوفة طول التأریخ.

حوادث حتی إقترن تأریخ الإسلام بتلک المنطقة ویعتقد البعض أنّ إسمها مشتق من شکلها الذی یشبه الدائرة، حیث کانت تصطلح العرب علی المنطقة الرملیة المدورة بإسم «کوفان» ، وقال البعض سمّیت بذلک الإسم لاجتماع الناس هناک؛ لأنّ أحد معانی هذه المفردة هو الاجتماع والتجمّع کما ذکروا عدّة وجوه اُخری للتسمیة لایسع المقام الخوض فی تفاصیلها. وقیل بنیت عام 17 ه علی عهد الخلیفة الثانی علی ید سعد بن أبی وقّاص، وکانت أکبر مدن العراق التی تشد إلیها الرحال. وسمّیت «قبة الإسلام» . وقیل أن سعد بن أبی وقاص قد نزل المدائن بعد فتح العراق وغلبة الساسانیین فبعث رسله لیبشّر الخلیفة الثانی بالفتوحات، فلما رأی الخلیفة رسل سعد وقد شحبت وجوههم سألهم السبب، فذکروا له سوء مناخ مدن العراق، فأمر ببناء مدینة تتناسب ومزاج العسکر فاختار سعد الکوفة. ولم تمض مدة حتّی إشتعلت فیها النار فاحترقت - ثم بنیت من اللبنات. وقد خیّر سعد المسلمین بنزول المدائن أو الکوفة. فاختار فریق منهم الکوفة واستعادوا صحتهم. (1)

وهناک عدّة روایات صرّحت بعضها بذم الکوفة فی حین صرّح البعض الآخر بمدحها، ویبدو أنّ الروایات قد وردت بشأن مختلف عصور الکوفة والأقوام التی سکنت فیها. فقد فسرّت بعض الروایات قوله سبحانه «وَطُورِ سِینِینَ» (2)الواردة فی الآیة بالکوفة.

وجاء فی روایة عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «الکُوفَةُ رَوْضَةٌ مِن رِیاضِ الجَنَّةِ» ، کما ورد فی ذیل هذه الروایة أنّ فیه قبر نوح وإبراهیم وقبر سید الأوصیاء الإمام علی علیه السلام وقبور ثلاثمأة وسبعین نبیّاً وستمأة وصیّاً. وروی عن الإمام الصادق علیه السلام أیضاً أنه قال: «إنّه لیس بَلَدٌ مِنَ البُلدانِ وَمِصرٌ مِنَ الأمصارِ، أکثَرَ مُحِبّاً لنَا مِن أهلِ الکُوفةِ» (3). مع ذلک فقد شهدت الکوفة عدّة عصور تسلّط علیها الأعداء ولاسیّما أعداء أهل البیت علیهم السلام بحیث أصبحت من الأوکار المناهضة للإسلام وأهل بیت النبی صلی الله علیه و آله.

ص:54


1- 1) معجم البلدان، مادة «کوفة» ، التأریخ الکامل 2 / 527، قاموس (مادة کوفة) .
2- 2) سورة التین / 2. [1]
3- 3) سفینة البحار، [2] مادة «کوفة» .
2 - أهل الکوفة والإمام علیه السلام

کلّنا نعلم بأنّ إحدی مشاکل حکومة الإمام علی علیه السلام تکمن فی أهل العراق ولاسیما أهل الکوفة الذین یتّصفون بالتمرد وعدم الطاعة؛ الأمر الذی جعل الإمام علیه السلام یتعرّض له فی عدّة خطب لیعرب عن إستیائه منهم وشکواه، فی حین کانت روحیة أهل الشام وطاعتهم تمثّل أحد عوامل تفوّق معاویة فی أعماله.

وقد نظر بعض المؤرّخین إلی هذا الموضوع نظرة إیجابیة فذهبوا إلی أنّ العلّة فی عصیان أهل العراق علی الأمراء وطاعة أهل الشام، أنّ أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر یکون التنقیب والبحث، ومع التنقیب والبحث یکون الطعن والقدح والترجیح بین الرجال، والتمییز بین الرؤساء، وإظهار عیوب الأمراء، وأهل الشام ذوو بلادة وتقلید وجمود علی رأی واحد، لا یرون النظر، ولا یسألون عن مغیب الأحوال ومازال العراق موصوفاً أهله بقلّة الطاعة، وبالشقاق علی اُولی الرئاسة. (1)

إلّا أنّ المرحوم مغنیة یری أنّ هذا الکلام أجوف لا أساس له. فأی عیب کان یسع أهل العراق أن یردّوه علی حکومة العدل العلویة حتّی مارسوا ذلک الشقاق والنفاق (أیّة فطنة ثاقبة تدفع بالأفراد إلی العصیان والتمرّد والذی أدّی إلی تلک الذلّة والخنوع أمام العدو؟ !) والحق کما ذکره المؤرّخون ومنهم طه حسین فی کتابه (علی وبنوه) أنّ سیاسة معاویة کانت قائمة علی المکر والخداع وشراء دین الناس بینما اعتمد الإمام علی علیه السلام علی الحق والعدل، ولعل الشاهد علی ذلک مارد به الإمام علیه السلام حین قال: «أتأمرونی أن أطلب النصر بالجور فیمن ولّیت علیه؟ ! واللّه لا أطور به ما سمر سمیر وما أمّ نجم فی السماء نجماً» (2). ثم ردّ علیه السلام علی اُولئک الذین قارنوا بین سیاسته وسیاسة معاویة قائلاً: «واللّه ما معاویة بأدهی منّی لکنّه یغدر ویفجر ولولا کراهیة الغدر لکنت من أدهی الناس» (3). وهو الأمر الذی نلمسه الیوم بوضوح فی عصرنا الراهن حیث یری بعض الأفراد وضمن تحلیلاتهم الاجتماعیة أن الساسة

ص:55


1- 1) نقل هذا الکلام ابن أبی الحدید عن الجاحظ (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 343) . [1]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 126. [2]
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 200. [3]

الأفذاذ هم اُولئک الذین یعتمدون أسالیب التضلیل والخداع والذین لا یتورعون عن التشبث بأخسّ الوسائل من أجل تحقیق أهدافهم وأطماعهم، فی حین لا یرون من کفاءة وجدارة لاُولئک الأفراد من أهل الإیمان والورع والتقوی الذین لا یساومون علی القیم والمبادئ، نعم للأسف مازال هذا الخطأ الفاحش هو الذی یسود بعض العقول والأفکار، وقد أدی إلی سلسلة من المفاسد السیاسیة والاجتماعیة، بل ما أعظم الدماء البریئة التی سفکت علی مدی التأریخ بسبب هذه النظرة الخاطئة علی کلّ حال فإنّ الواقع هو غیر ماذکر، فالعراق ولاسیما منطقة الکوفة إنّما سکنت من عدّة فئات وبمختلف الثقافات وقد تأثروا إلی حد بعید بسیاسة عثمان بما دفعهم للتکالب علی الدنیا والاغترار بها وقد أصبحت السنن الخاطئة آنذاک من مفردات حیاتهم الیومیة (بما فی ذلک التمییز فی العطاء من بیت المال) حتّی کان أغلب زعماء القبائل یتوقعون المناصب والأموال الطائلة؛ الأمر الذی جعل معاویة ینجح فی إستمالتهم فکانوا یتقاطرون علی معاویة، الواحد تلو الآخر.

أضف إلی ذلک فقد کانت هنالک بعض الفوارق بین روحیة أهل العراق والشام، منها أنّ أهل الشام کانوا یعرفون بالعمل، بینما کان العراقیون أهل کلام کما کان الشامیون یتحلّون بالانضباط الاجتماعی ولم یکن مثل هذا الانضباط سائداً لدی أهل العراق. وأخیراً کان أهل الشام أوفیاء، بینما یمتاز أهل العراق بالغدر ونکث العهود.

وبالطبع فإنّ هذا الکلام لا ینسحب علی أهل العراق فی أیّ عصر وزمان غیر زمان الإمام علی علیه السلام کعصر الإمام الحسن أو الحسین علیهما السلام. ومن هنا وردت روایات الأئمة المعصومین علیهم السلام التی تشید بأهل العراق والکوفة. ولا غرابة أن تتّصف اُمّة ببعض الصفات السلبیة فی عصر من العصور، ثم تنسلخ عنها فتتحلی بصفات إیجابیة.

ج ج

ص:56

القسم الثانی: سرّ الانهیار

اشارة

ثم قال علیه السلام:

«أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْیَمَنَ وَإِنِّی - وَاللّهِ - لأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ سَیُدالُونَ مِنْکُمْ بِاجْتِماعِهِمْ عَلَی باطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِکُمْ عَنْ حَقِّکُمْ وَبِمَعْصِیَتِکُمْ إِمامَکُمْ فِی الْحَقِّ، وَطاعَتِهِمْ إِمامَهُمْ فِی الْباطِلِ وَبِأَدائِهِمُ الْأَمانَةَ إِلَی صاحِبِهِمْ وَخِیانَتِکُمْ وَبِصَلاحِهِمْ فِی بِلادِهِمْ وَفَسادِکُمْ، فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَکُمْ عَلَی قَعْبٍ، لَخَشِیتُ أَنْ یَذْهَبَ بِعِلاقَتِهِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة - إلی قصة بسر بن ارطاة ذلک الجبار الشامی الفض وغلبته علی الیمن، ثم تطرق علیه السلام إلی مصیر أهل العراق والمستقبل المظلم الذی ینتظرهم مع ذکر الأسباب والعلل التی ستفضی إلی ذلک المستقبل. فقد ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ معاویة وجّه بسراً إلی المدینة وأمره بقتل شیعة علی علیه السلام وإرعاب أهل المدینة التی هبت لنصرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقاتلت أبی سفیان، فدخل المدینة وشتم أهلها وهدّدهم وتوعدهم، ثم دعا الناس إلی بیعة معاویة فبایعوه، وأحرق دوراً کثیرة. ثم قصد الیمن فاستباح أهلها وقد قتل ولدی حاکم الیمن آنذاک عبد اللّه بن عباس. (1)وقد ذکر ابن أثیر أنّ هذین الطفلین لاذا بأعرابی من بنی کنانة، فلما أراد بسر أن یقتلهما، قال له الکنانی: دعهما فلا ذنب لهما، فإن کنت قاتلهما

ص:57


1- 1) فی ظلال نهج البلاغة 1 / 177. [1]

فاقتلنی معهما، حیث کان یعتبر ذلک الأعرابی أن قتلهما یعنی تقصیره فی أداء الأمانة. فما کان من بسر إلّاأن قتلهما وقتل هذا الأعرابی. (1)

علی کل حال إطلع أمیر المؤمنین علی علیه السلام علی هذه الأخبار الألیمة فساءه ذلک فقال: «أُنبئت بسراً قد اطَّلع (2)الیمن وإنی واللّه لأظن أنّ هؤلاء القوم سیدالون (3)منکم» ، ثم تطرق علیه السلام إلی علل هذه الدولة لیسلط الضوء علی أربعة عناصر مهمّة تقف وراء النصر، فقال علیه السلام: «باجتماعهم علی باطلهم، وتفرّقکم عن حقّکم» . فالاتحاد دعامة النصر ولاسیّما إذا سادت الوحدة أتباع الحق. ولکن یالها من مصیبة أن یتفرق دعاة الحق عن حقهم ویجتمع دعاة الباطل ویتحدون علی باطلهم! رغم أنّ الباطل مصدر الخلاف والتشتت وأنّ الحق مرکز الاخاء والوحدة. نعم فإنّ الوفاق والاتحاد لمن دوعی النصر والنجاح فی کل عمل وإنّ الشقاق والفرقة لمن دواعی الهزیمة والفشل.

أمّا العنصر الثانی فیخلّص فی الطاعة وإمتثال الأوامر التی کانت سائدة لأصحاب الباطل وعدم طاعة أهل الحق لإمامهم: «وبمعصیتکم إمامکم فی الحقّ، وطاعتهم إمامهم فی الباطل» . أجل فالانضباط والطاعة حیثما کانت إنّما تقود إلی النصر والغلبة. ولیس لجیش ولا لاُمّة أن تبلغ ما ترید دون رعایتها للانضباط وطاعتها لآمرها وزعیمها، ومن هنا ورد التأکید فی کافّة الدوائر والمؤسسات الیوم علی مسألة الانضباط والالتزام بالمقررات.

العنصر الثالث یتمثّل بالأمانة والوفاء بالعهد والتی تقابلها الخیانة ونقض العهود ولاسیّما حیال الرؤساء والزعماء «وبادائهم الأمانة إلی صاحبهم وخیانتکم» فأمانتهم إنّما دفعت بهم لتعبئة کافّة الإمکانات والطاقات ضد أعدائهم، فی حین بددت خیانتکم هذه الطاقات وذهبت بها أدراج الریاح، وهل من مصیر ینتظر من ضیع طاقاته وبدد إمکاناته سوی الهزیمة

ص:58


1- 1) الکامل لابن أثیر 3/383؛ [1]تأریخ الطبری 4 / 106، 108. [2]
2- 2) اطلع، تعنی فی الأصل النظر من الأعلی، واستعملت کنایة عن النصر والغلبة المفاجاة، مادة «طلوع» بمعنی الظهور.
3- 3) «یدالون» (فعل مضارع مجهول من باب الأفعال) من مدة دولة بمعنی الانتقال من مکان إلی آخر. ومن هنا اطلقت الدولة علی المال والثروة التی تتداول بین الناس، والمراد بها فی هذه العبارة سیغلبونکم وتکون لهم الدولة بدلکم.

والفشل. لقد فسرّ بعض شرّاح نهج البلاغة الأمانة هنا بالبیعة، غیر أنّ التفسیر الذی أوردناه سابقاً واستناداً إلی سائر عبارات الخطبة یبدو أنسب من هذا التفسیر، أضف إلی ذلک فإن کانت البیعة بمعنی الطاعة فقد ذکرت سابقاً ولا داعی للتکرار.

وأخیراً «وبصلاحهم فی بلادهم وفسادکم» وعلیه فقد أوجز الإمام علیه السلام عوامل نصرهم وفشل إتباعه فی اتّحادهم وانضباطهم وأمانتهم وصلاحهم فی بلادهم، فی حین عاش أتباعه الفرقة والاختلاف والغدر والخیانة والفساد. فأسالیب الإدارة والحنکة فی الحکومة وإدارة شؤون البلاد مهما کانت قویّة فإنّها لن تؤدّی إلی نتائج مرضیة فی ظلّ هؤلاء الأفراد الذین یمثّلون أذرع الحاکم وعناصره فی الدولة.

أجل فالحق ضعیف مهضوم إذا مافسد أتباعه، والباطل قوی فی ظلّ اتّحاد أتباعه.

ثم یختتم الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «فلو ائتمنت أحدکم علی قعب (1)لخشیت أن یذهب بعلاقته (2)» .

فهل من مجال للوثوق بمثل هؤلاء الأفراد الذین لا یؤتمنون علی أتفه الأشیاء، فضلاً عن القیام بإدارة شؤون الحکومة الإسلامیة ومسائل الصلح والقتال وبیت المال وامثال ذلک.

تأمّلات

1 - بسر بن أرطاة القائد السفاح لمعاویة

فأمّا خبرُ بُسْرِبن أرطاة العامریّ؛ من بنی عامربن لؤی بن غالب، وبَعث معاویة له لیُغیرَ علی أعمال أمیرالمؤمنین علیه السلام، وما عَمِله من سَفْک الدماء وأخذ الأموال، فقد ذکر أرباب السّیر أنّ الذی هاج معاویة علی تسریح بُسْر ابن أرطاة - ویقال ابن أبی أرْطاة - إلی الحجاز والیمن، أنّ قوما بصنعاء کانوا من شیعة عثمان، یُعْظِمون قتلَه، لم یکن لهم نظام ولا رأس، فبایعوا لعلیّ علیه السلام علی ما فی أنفسهم؛ وعاملُ علیّ علیه السلام علی صنعاء یومئذ

ص:59


1- 1) «قعب» ، قال بعض أرباب اللغة بمعنی قدح خشبی وقال البعض الآخر قدح کبیر ضخم.
2- 2) «علاقة» إذا استعملت مفتوحة العین عنت الرابطة المعنویة وإن کسرت کانت بهذا المعنی أو بمعنی الروابط المادیة، وقد وردت هنا بمعنی ما یعلق بالظرف من لیف أو نحوه.

عُبیداللّه بن عباس؛ وعامله علی الجَنَد سعیدبن نِمْران.

ووجّه الکتاب مع رجل من هَمْدان، فقدِم علیهم بالکتاب فلم یجیبوه إلی خَیْر، فقال لهم: إنّی ترکت أمیرَالمؤمنین یرید أن یوجِّه إلیکم یزیدَبن قیس الأرْحبیَّ، فی جیش کثیف، فلم یمنعْه إلا انتظارُ جوابکم. فقالوا: نحن سامعون مطیعون، إن عَزَل عنّا هذین الرجلین: عُبیدَاللّه وسعیدا.

فرجع الهمْدانیّ من عندهم إلی علیّ علیه السلام فأخبره خبر القوم.

فلما قدِم کتابهم، دعا بُسْرَبن أبی أرطاة، وکان قاسیَ القلب فَظّاً سفَّاکاً للدماء، لا رأفةَ عنده ولا رحمة، فأمرَه أن یأخذَ طریقَ الحجاز والمدینة ومکة حتی ینتهیَ إلی الیمن، وقال له: لا تنزِلْ علی بلد أهله علی طاعةِ علیّ إلّابسطتَ علیهم لسانَک؛ حتی یَرَوْا أنّهم لا نجاءَ لَهم، وأنّک محیط بهم. ثم اکفُفْ عنهم، وادعُهم إلی البیْعة لی، فمنْ أبی فاقتلْه، واقتلْ شِیعةَ علیّ حیث کانوا.

ج ج

وروی إبراهیم بن هلال الثقفیّ فی کتاب "الغارات" عن یزیدبن جابر الأزدیّ، قال:

سمعت عبدالرحمن بن مَسعدة الفزاریّ یحدّث فی خلافة عبدالملک، قال: لما دخلتْ سنةُ أربعین، تحدّث الناس بالشام أنّ علیّاً علیه السلام یستنفِرُ النّاس بالعراق فلا ینِفرون معه، وتذاکروا أن قد اختلفتْ أهواؤهم، ووقعت الفُرقة بیهم، قال: فقمت فی نَفَرٍ من أهل الشام إلی الولیدبن عُقْبة، فقلنا له: إنّ الناس لا یشکّون فی اختلاف الناس علی علیّ علیه السلام بالعراق، فادخلْ إلی صاحبک فمرْه فلیسِرْ بنا إلیهم قبل أن یجتمعوا بعد تفرقهم، أو یصلُحَ لصاحِبهم ما قد فسد علیه من أمره. فقال: بلَی، لقد قاولته فی ذلک وراجعته وعاتبته، حتی لقد برِم بی، واستثقل طَلْعتی، وایمُ اللّه علی ذلک ما أدع أنْ أبلّغه ما مشیْتم إلیّ فیه.

فدخل علیه فخبّره بمجیئنا إلیه، ومقالتنا له، فأذن لنا، فدخلْنا علیه، فقال: ما هذا الخبرُ الذی جاءنی به عنکم الولید؟ فقلنا: هذا خبرٌ فی الناس سائر، فشمِّرْ للحرب، وناهِض الأعداء، واهتبل الفرصة، واغتنم الغِِّرة، فإنّک لا تدری متی تقدرُ علی عدوّک علی مثل حالِهم التی هم علیها، وأن تسیرَ إلی عدوِّک أعزُّ لک من أن یسیرُوا إلیک. واعلم واللّه أَنّه تفرّق الناس عن صاحبک لقد نهض إلیک. فقال لنا: ما أستغِنی عن رأیکم ومشورتکم، ومتی أحْتَجْ إلی

ص:60

ذلک منکم أدْعُکم. إنّ هؤلاء الذین تذکُرون تفرّقَهم علی صاحبه، واختلافَ أهوائهم، لم یبلغ ذلک عندی بهم أن أکونَ أطمعُ فی استئصالِهم واجتیاحهم، وأنْ أسیرَ إلیهم خاطرا بجنْدی، لا أدری علیّ تکونُ الدائرة أم لی! فإیّاکم واستبطائی، فإنّی آخذُ بهم فی وجهٍ هو أرفقُ بکم.

وبعث معاویة عند خروجنا من عنده إلی بُسربن أبی أرطاة، فبعثه فی ثلاثة آلاف، وقال: سرْ حتی تمرّ بالمدینة، فاطرد الناس، وأخِفْ مَنْ مررت به، انهبْ أموال کلِّ مَنْ أصبت له مالاً؛ ممّن لم یکن دخل فی طاعتنا، فإذا دخلتَ المدینة، فأرِهم أنّک ترید أنفَسهم، وأخبرْهم أنّه لا براءةَ لهم عندک ولا عذرَ؛ حتی إذا ظنّوا أنّک موقعٌ بهم فاکففْ عنهم، ثم سِرْ حتی تدخل مکة، ولا تعرِضْ فیها لأحد، وأرْهب الناسَ عنک فیما بین المدینة ومکة، واجعلها شرداتٍ؛ تأتی صنعاء والجَند، فإنّ لنا بهما شیعة، وقد جاءنی کتابهم.

ج ج

أن بُسراً لما أسْقَط مَنْ أسقط من جیشه، سار بمن تخلّف معه، وکانوا إذا ورَدوا ماء أخذوا إبلَ أهلِ ذلک الماء فرکبوها، وقادوا خیولَهم حتی یرِدُوا الماء الآخر، فیردّون تلک الإبل، ویرکبون إبل هؤلاء، فلم یزل یصنع ذلک حتی قرب إلی المدینة.

قال: وقد روی أنَّ قُضاعة استقبلتهم ینحَرُون لهم الجُزُر، حتی دخلوا المدینة. قال: فدخلوها، وعامل علیّ علیه السلام علیها أبو أیّوب الأنصاریُّ، صاحب منزل رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، فخرج عنها هارباً، ودعا الناس إلی بیعة معاویة فبایعوه. ونزل فأحرقَ دوار کثیرة.

ج ج

قال إبراهیم: وقد روی عَوانة عن الکلبیّ أن بُسْراً لمّا خرج من المدینة إلی مکّة قتل فی طریقه رجالاً، وأخذ أموالاً، وبلغ أهلَ مکة خبرُه، فتنحّی عنها عامّةُ أهلها، وتراضَی النّاس بشبیة بن عثمان أمیراً لما خرج قُثَم بن العباس عنها، وخرج إلی بُسر قوم من قریش، فتلقَّوْه، فشتمهم، ثم قال: أمَا واللّه لو تُرکت ورأیی فیکم لترکتُکم وما فیکم روح تمشی علی الأرض، فقالوا: نَنْشُدک اللّه فی أهلک وعِتْرتک!

ج ج

ص:61

قال إبراهیم: وروی علیّ بن مجاهد، عن ابن إسحاق، أن أهلَ مکة لما بلغهم ما صنع بُسْر، خافوا وهربوا، فخرج بنا عبیداللّه بن العباس، وهما سلیمان وداود، وأمهما جُوَیْرِیَة ابنة خالد بن قَرَظ الکنانیة، وتُکنَی أمّ حکیم، وهم حلفاء بنی زُهرة، وهما غلامان مع أهل مکة، فأضلوهما عند بئر میمون بن الحضْرمیّ.

وخرج بُسر من الطائف، فأتی نَجْران، ثم جمعهم وقام فیهم، وقال یا أهلَ نجران، یا معشرَ النصاری وإخوان القرود: أما واللّه إنْ بلغنی عنکم ما أکرَه لأعودَنّ علیکم بالتی تقطع النَّسْل، وتُهِلکُ الحرث، وتخرّب الدیار!

وتهددّهم طویلاً، ثم سار حتی أَرْحَب، فَقَتل أبا کرب - وکان یتشیّع - ویقال إنّه سیّد مَنْ کان بالبادیة من هَمْدان، فقدمه فقتله.

وأتی صنعاء وقد خرج عنها عبیداللّه بن العباس، وسعید بن نِمْران، وقد استخلف عبیداللّه علیها عَمْروا بن أَراکة الثقفیّ، فمنع بُسْراً من دخولها وقاتله، فقتله بُسْر، ودخل صنعاء، فقتل منها قوماً، أتاه وفد مأرِب فقتلهم، فلم ینجُ منهم إلّارجل واحد، ورجع إلی قومه، فقال لهم: «أنعی قتلاَنا، شیُوخاً وشُبّاناً» .

فندب علیّ علیه السلام أصحابَه لبعث سرّیة فی إِثر بُر، فتثاقلوا، وأجابوا جاریة بن قُدامة السعدی، فبعثه فی ألفین، فشخَص إلی البصرة، ثم أخذ طریق الحجاز حتی قِدم الیمن، وسأل عن بُسر فقیل: أخذ فی بلاد بنی تمیم، فقال: أخذ فی دیار قوم یمنعون أنفسهم. وبلغ بُسراً مسیرُ جاریة، فانحدر إلی الیمامة، أخذ جاریة بن قدامة السیر، ما یلتِفت إلی مدینة مرّ بها ولا أهل حصن، ولا یعرِّج علی شیء إلّاأن یُرْمِلَ بعضُ أصحابه من الزاد فیأمر أصحابه بمواساته أو یسقط بعیر رجل، أو تَحْفَی دابته، فیأمر أصحابه بأن یُعْقِبوه، حتی انتهوْا إلی أرضْ الیمن، فهربت شیعة عثمان حتی لحقوا بالجبال، واتّبعهم شیعة علیّ علیه السلام، وتداعت علیهم من کلّ جانب، أصابوا منهم، وصَمَد نحو بُسر، وبسر بین یدیه یفرّ من جهة إلی جهة اُخری، حتی أخرجه من أعمال علیّ علیه السلام کلّها.

وقال بُسْر: أحَمد اللّه یا أمیرالمؤمنین أنی سرت فی هذا لاجیش أقتل عدوک ذاهباً جائیاً لم یُنْکَب رجل منهم نکبة، فقال معاویة اللّهُ قد فعل ذلک لا أنت.

ج ج

ص:62

قال: ودعا علیّ علیه السلام علی بُسْر، فقال: اللّهم إنّ بُسرا باع دینهَ بالدنیا، وانتهک محارمک، وکانت طاعةُ مخلوقٍ فاجرٍ آثرَ عنده مِمّا عندک. اللّهمّ فلا تُمِتْه حتی تَسْلُبه عقلَه، ولا توجب له رحمتک ولا ساعة من نهار. اللهمّ ألعن بُسراً وعمراً ومعاویة، ولیحلّ علیهم غضبُک، ولتنزل بهم نِقْمَتُک ولیصبهم بأسُک ورِجْزُک الذی لا تردّه عن القوم المجرمین.

فلم یلبث بُسْرٌ بعد ذلک إلّایسیراً حتی وسوس وذهب عقلُه، فکان یهذِی بالسیف، ویقول: اعطُونی سیفاً أقتلْ به، لا یزال یردد ذلک حتی اتَّخِذ له سیف من خشب، وکانوا یدنون منه المرفقة، فلا یزال یضربها حتی یُغشی علیه، فلبث کذلک إلی أن مات.

قال المسعودی فی مروج الذهب بعد نقل هذه القصة أن بسراً کان یقول للناس: انظروا کیف یطعمنی هذان الغلامان إبنا عبیدالله - الذان قتلا مظلومان بیدی - وکان ربما شدت یداه إلی الوراء منعا من لعبه بحزئه والناس تمنعه من ذلک. (1)

2 - مقوّمات النصر وهزیمة الأمم

لقد شرح الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بعباراتها القصیرة ذات المعانی العمیقة المقوّمات التی تمنی بها الاُمم والشعوب، ولا یقتصر هذا الأمر علی أهل العراق والحجاز والیمن وقضیة والی من الولاة کمعاویة وقائد عسکره بسر بن ارطاة، بل یشمل کافة العصور والدهور. فقد تحدّث الإمام علیه السلام فی بادئ الأمر عن وحدة الکلمة التی تعدّ السبب الرئیسی فی تضامن القوی وتعبئة طاقاتها فی مواجهة الأعداء. وممّا لاشک فیه أنّ أهم العوامل التی أدّت إلی انتصار جنود الإسلام علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی أعدائهم الذین کانوا یفوقونهم عدّة وعدداً إنّما یکمن فی وحدة الکلمة. فکم من فئة قلیلة هزمت عدوّها بفضل الاتحاد والإخاء. القرآن من جانبه اعتبر وحدة کلمة المسلمین من معاجز النبی الأکرم صلی الله علیه و آله «هُوَ الَّذی اَیَّدَکَ بِنَصْرِه وَ بِالْمُؤْمِنینَ * وَأَ لَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِی الأَرضِ جَمِیعاً ما أَ لَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَلکِنَّ اللّهَ أَ لَّفَ بَیْنَهُمْ» (2)، کما اعتبر الوحدة الإسلامیة التی سادت المسلمین أبان عصر الرسالة من النعم الإلهیة الکبری علی الاُمّة الإسلامیة «وَاذکُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذ کُنْتُمْ

ص:63


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 3 - 18؛ مروج الذهب 3 / 163 ( [1]بحث ذکر أیام الولید بن عبدالملک) .
2- 2) سورة الأنفال / 62 - 63. [2]

أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» (1)، فی حین قرن الفرقة والشقاق بالعذاب الدنیوی والأخروی «قُلْ هُوَ القادِرُ عَلی أَنْ یَبْعَثَ عَلَیْکُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِکُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِکُمْ أَوْ یَلْبِسَکُمْ شِیَعاً» (2). کما أشار الإمام علیه السلام إلی مسألة الانضباط وحنکة القیادة علی أنّها العامل الآخر المکمَّل لعنصر الاتحاد والإخاء والتضامن. والحق رأینا عدّة ثورات فی عصرنا الراهن قد کتب لها النجاح بینما لم توفّق غیرها لهذه النتیجة، ولعلّ العامل الرئیسی فی ذلک النجاح إنّما یستند إلی وحدة القیادة، بینما تعانی غیرها من التشتت وتعدد مراکز القرار.

ثم تطرق علیه السلام إلی الأمانة بفضلها العامل الثالث من عوامل النصر. فمما لاشکّ فیه أنّ أیّة أمة من الأمم لن تذیق طعم النصر والسعادة مالم تستثمر طاقاتها وثرواتها بالشکل الصحیح. ولا یتیسّر هذا الأمر إلّاإذا کانت الأمانة هی التی تحکم أفراد الاُمة وتدفعها لصون إمکاناتها الاجتماعیة.

أمّا العامل الأخیر الدخیل فی النصر فإنّما یکمن فی صلاح أفراد المجتمع، وبعبارة اُخری فإنّ أفراد الاُمة لن یتخلّوا علی مشاکلهم ویتخلّصوا من مخالب الأعداء مالم یأخذوا بنظر الاعتبار مصالح المجتمع ویضحوا بمنافعهم الشخصیّة ویجدوا ویجتهدوا فی إصلاح مجتمعهم، ولیعلم اُولئک الذین یهمّون بمنافعهم الشخصیّة ولو أدّت إلی فساد المجتمع إنّهم إنّما یقضون علی المجتمع وبالتالی یقضون علی أنفسهم.

ص:64


1- 1) سورة آل عمران / 103. [1]
2- 2) سورة الانعام / 65. [2]

القسم الثالث: السئم والملل

اشارة

«اللّهُمَّ إِنِّی قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِی وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِی (1)فَأَبْدِلْنِی بِهِمْ خَیْراً مِنْهُمْ، وَأَبْدِلْهُمْ بِی شَرّاً مِنِّی! اللّهُمَّ مِثْ (2)قُلُوبَهُمْ کَما یُماثُ الْمِلْحُ فِی الْماءِ، أَما وَاللّهِ - لَوَدِدْتُ أَنَّ لِی بِکُمْ أَلْفَ فارِسٍ مِنْ بَنِی فِراسِ بْنِ غَنْمٍ. هُنالِکَ لَوْ دَعَوْتَ أَتاکَ مِنْهُمْ فَوارِسُ مِثْلُ أَرْمِیَةِ الْحَمِیمِ» .

ثم نزل علیه السلام من المنبر.

الشرح والتفسیر

یتضرع الإمام علیه السلام فی آخر الخطبة إلی اللّه بقلب مفعم بالهم والحزن فیدعو علی اُولئک الأتباع، غیر أن دعائه علیهم یحمل تحذیراً جدیاً لمن کان له أدنی صحوة من ضمیر، حیث یسعی الإمام علیه السلام عن هذا الطریق إلی تنبیه أهل الضلالة وإعادتهم إلی الصراط المستقیم، فقال علیه السلام: «اللّهم إنّی قد مللتهم وملونی وسئمتهم وسئمونی» ومن الطبیعی ألا یکون هناک من وقع لنصائح الإمام العادل والقائد الشجاع فی قلوب عبدة الدنیا والأهواء من أهل الجهل والعجز والذل إذا ما تباینت أهداف القائد ومبادئه وخلقه مع أهداف الرعیة

ص:65


1- 1) «سئمتهم» من مادة «سأم» بمعنی الملل والتعب من الشیء.
2- 2) «مث» من مادة «میث» بمعنی حل الشیء فی الماء، ویطلق علی المطر الذی یذیب تراب الأرض، کمایطلق علی الحوادث المریرة التی تذیب عقل الإنسان وتصدع قلبه.

وأخلاقها، الأمر الذی یؤدی بالتالی إلی تعب الطرفین وسئم کل منهما الآخر. وإذا کان النبی صلی الله علیه و آله قد استطاع النهوض بزعامة الأقوام الجاهلیة، فانّما ذلک لأنّهم أقروا بأهدافه ومبادئه فی التربیة وقد کیفوا أنفسهم مع سننه وخلقه. ومن هنا فانّ الأنبیاء الذین لم یوفقوا فی هذا الأمر ملوا أتباعهم، کما أنّ أقوامهم هی الاُخری لم تکن تطیق تحملهم. ولا یفوتنا هنا ضیق ذرع قوم لوط بنبیهم لطهارته وعفته «أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْیَتِکُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ یَتَطَهَّرُونَ» . (1)

ثم دعا علیهم قائلاً: «فابدلنی بهم خیراً منهم، وأبدلهم بی شراً منی» .

فهم لیسوا أتباعاً جدیرین بهذا الإمام، ولم یعد إماماً مناسباً لهم، فالحکمة الإلهیة تقتضی أن یخرجوا مسودی الوجوه من هذا الامتحان بعد أن تسلب منهم هذه النعمة الإلهیة فیعشوا أنواع الهوان والذل. وما أسرع ما استجیب دعاء الإمام علیه السلام، فقد تسلط علیهم بنو امیة لیرتکبوا بحقهم ما قل نظیره أو انعدم فی التأریخ والعجیب ماورد فی بعض التواریخ الإسلامیة من أنّ الحجاج قد ولد (2)آنذاک، وبالطبع فانّ أهل العراق والکوفة قد دفعوا ثمن جرائمهم وتخاذلهم قبل ذلک، إلّاأنّها بلغت ذروتها علی عهد الحجاج.

طبعاً لیس المراد بالعبارة «أبدلم بی شراً منی» أنّی سیء ولکن سلط علیهم من هو أسوأ منّی. بل هی مقارنة تطلق علی الخیر المطلق والشر المطلق، فقد جاء فی القرآن سورة الفرقان بعد أنّ أشار إلی شدة عذاب جهنم قائلاً: «قُلْ أَذ لِکَ خَیْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِی وُعِدَ المُتَّقُونَ» . وبعبارة اُخری لم یکن أهل العراق والکوفة آنذاک أخیار لیسأل الإمام علیه السلام اللّه أخیر منهم، ولا الإمام علیه السلام - والعیاذ باللّه - کان سیئاً لیسلط اللّه علیهم من هو أسوأ منه، ففی مثل هذه الموارد تفقد صیغة أفعل التفضیل مفهومها العادی وترد للمقارنة بین شیئین متضادین. ویبدو أن هذا الدعاء شبیه الدعاء الذی ابتهل به نبی اللّه نوح علیه السلام علی قومه بعد أن یئس من صلاحهم «رَبِّ لا تَذَرْ عَلی الأَرْضِ مِنَ الکافِرِینَ دَیّاراً» (3). ثم قال علیه السلام: «اللّهم مث قلوبهم کما یماث الملح

ص:66


1- 1) سورة الأعراف / 82. [1]
2- 2) منهاج البراعة 3 / 358. صرح المسعودی - من المؤرخین المشهورین - أنّ الحجاج ولد عام 41 ه وتوفی عام 95 وله من العمر 54 سنة.
3- 3) سورة نوح / 26. [2]

فی الماء» . لعل المراد بموث قلوبهم (بمعنی ذوبانها) هو هجوم الهموم والغموم علیها بحیث تجرح عواطفهم الإنسانیة إلی درجة یقال ذاب القلب، فقد ورد شبیه هذا المعنی فی خطبة الجهاد رقم 27 إذ قال علیه السلام: «واللّه، یمیت القلب ویجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علی باطلهم وتفرقکم عن حقکم» . ومن الواضح أنّ المراد بذوبان القلب ضیاع العقل والفطنة والدرایة والحکمة. فمفهوم العبارة: خذ عقولهم وحکمتهم لهذا النفاق والعصیان فیعیشوا الحیرة والاضطراب فی حیاتهم. وقد ورد التعبیر عن القلب بمعنی العقل والحکمة أو وعاء العقل والحکمة فی عدة آیات وروایات، ومن ذلک ماورد فی الآیة 25 من سورة الانعام: «وَجَعَلْنا عَلی قُلُوبِهِمْ أَکِنَّةً أَنْ یَفْقَهُوهُ» . والواقع أن من أعظم العقوبات الإلهیة - التی أوردها القرآن الکریم والروایات بالنسبة للأفراد من أهل النفاق والمعصیة - هی الا یری الإنسان الحقائق ولا یدرکها کما هی، فیعیش القلق والحیرة والضلال. ثم یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالقول: «أما - واللّه - لوددت أن لی بکم ألف فارس من بنی فراس بن غنم. ثم تمثل بقول الشاعر: هنالک لو دعوت أتاک منهم فوارس مثل أرمیة الحمیم

ثم نزل الإمام علیه السلام من المنبر:

قال السید الشریف: أقول: «الارمیة» جمع «رمی» وهو السحاب والحمیم، هاهنا وقت الصیف. وإنّما خص الشاعر سحاب الصیف بالذکر لأنه أشد جفولاً ولا أسرع خفوفاً؛ لأنّه لا ماء فیه. وإنّما یکون السحاب ثقیل السیر لامتلائه بالماء، وذلک لایکون فی الأکثر إلّازمان الشتاء، وإنّما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا، ولا إغاثة إذا استغیثوا، والدلیل علی ذلک قوله: هنالک لو دعوت أتاک منهم.

بنو فراس بن غنم

هم بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالک بن کنانة، حی مشهور بالشجاعة، منهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان. ومنهم ربیعة بن مکدم بن حرثان بن جذیمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور، حامی الظعن حیاً ومیتاً، ولم یحم الحریم وهو میت أحد غیره؛ عرض له فرسان من بنی سلیم، ومعه ظعائن من أهله یحمیهم وحده، فطاعتهم، فرماه نبیشة بن حبیب

ص:67

بسهم أصاب قلبه، فنصب رمحه فی الأرض، واعتمد علیه وهو ثابت فی سرجه لم یزل ولم یمل. وأشار إلی الظعائن بالرواح، فسرن حتی بلغن بیوت الحی، وابن سلیم قیام إزاءه لا یقدمون علیه، ویظنونه حیاً؛ حتی قال قائل منهم: إنّی لا أراه إلّامیتاً، ولو کان حیاً لتحرک؛ إنّه واللّه لماثل راتب علی هئیة واحدة، لا یرفع یده، ولا یحرک رأسه. فلم یقدم أحد منهم علی الدنو منه، حتی رموا فرسه بسهم، فشب من تحته، فوقع وهو میت، وفاتتهم الظعائن. (1)

وجاء فی کتاب بلوغ الأدب أن شجاع کل فرد من أبناء هذه القبیلة بعشرة من شجعان سائر القبائل، وهم أشجع قبائل العرب. (2)

والطریف فی الأمر أن جیش الإمام علیه السلام فی الکوفة قد بلغ عشرات الآلاف، بل بلغ طبق روایة مئة ألف جندی (3)، إلّاأنّ الإمام علیه السلام یتمنی استبدال کل هذا الجیش بألف من فرسان بنی فراس؛ الأمر الذی یدل علی مدی ضعف جیش الکوفة وعجزه، ومدی شجاعة أبناء قبیلة بنی فراس، فقد تضاعفت شجاعتهم الذاتیة فی ظل الإسلام والإیمان. کما جاء فی القرآن الکریم: «کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذنِ اللّهِ» . (4)

ص:68


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 341. [1]
2- 2) بلوغ الأدب 2 / 125.
3- 3) المصدر السابق.
4- 4) سورة البقرة / 249. [2]

الخطبة السادسة والعشرون

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها یصف العرب قبل البعثة ثم یصف حاله قبل البیعة له نظرة إلی الخطبة.

نظرة إلی الخطبة

یری بعض المحققین أنّ الدافع من هذه الخطبة (أو بتعبیر آخر کتابة هذه الرسالة) أنّه سأل البعض علیاً علیه السلام عن رأیه بمن سبقه من الخلفاء بعد أن استولی أصحاب معاویة علی مصر وقتلوا محمد بن أبی بکر. فاستنکر علیهم الإمام علیه السلام ذلک بعد أن استولی معاویة علی مصر وقتل شیعته، فکتب الإمام علیه السلام هذا الکتاب. (1)ویتصور أحیاناً بأنّ الخطبة اختتمت بالدعوة إلی الجهاد وهذا ما یتنافی وما ذکر، حیث یدل ذلک علی أنّ الکلام صدر عن الإمام علیه السلام قبل معرکة صفین، لکن یمکن أن یکون هذا الکلام إشارة إلی معرکة أراد الإمام علیه السلام أن یعب الناس لها قبل شهادته، غیر أنّ شهادته علیه السلام حالت دون ذلک. علی کل حال فالخطبة علی ثلاثة أقسام: القسم الأول فی وضع العرب فی الجاهلیة وعلی أعتاب انبثاق الدعوة الإسلامیة وبعثة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله التی أنقذتهم ممّا لا یمکن تصوره من البؤس والشقاء.

والقسم الثانی فی الحوادث التی اُعقبت رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وکیفیة غصب حق الإمام علیه السلام فی الخلافة، وسکوته حفظاً للإسلام والقرآن بینما کان یعیش حالة من التذمر والاستیاء.

ص:69


1- 1) مصادر نهج البلاغة 1 / 390.

والقسم الثالث إشارة إلی البیعة المشروطة لعمرو بن العاص علی معاویة والتی أدت إلی تلک الویلات والمصائب والأضرار الفادحة فی الأرواح والأموال، ثم یختتم الخطبة بحث أتباعه بالتأهب للقتال.

ص:70

القسم الأول: العرب فی الجاهلیة

اشارة

«إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله نَذِیراً لِلْعالَمِینَ وَأَمِیناً عَلَی التَّنْزِیلِ، وَأَنْتُمْ - مَعْشَرَ الْعَرَبِ - عَلَی شَرِّ دِینٍ وَفِی شَرِّ دارٍ مُنِیخُونَ بَیْنَ حِجارَةٍ خُشْنٍ وَحَیّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ الْکَدِرَ وَتَأْکُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِکُونَ دِمَاءَکُمْ وَتَقْطَعُونَ أَرْحامَکُمْ، الْأَصْنامُ فِیکُمْ مَنْصُوبَةٌ وَالْآثامُ بِکُمْ مَعْصُوبَةٌ» .

الشرح والتفسیر

یتطرق الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة إلی أوضاع العرب فی الجاهلیة فیرسم صورة واضحة الملامح عن حیاتهم من خلال الأبعاد الفکریة والعاطفیة والاقتصادیة والاجتماعیة، بحیث لا نتوصل لهذه الصورة التی رسمها الإمام علیه السلام ولو طالعنا کافة المؤلفات التی صنفت بشأن العرب فی العصر الجاهلی. ویبدو أنّ الإمام علیه السلام استهل الخطبة بهذا الکلام لیذکرهم بالعصر الجاهلی الذی سبق الإسلام فیقارنونه بما بعد البعثة النبویة الشریفة فیقفوا علی قیمة الإسلام ولا یضحوا بهذه القیمة والنعمة من خلال هذه الفرقة والاختلاف وأتباع الأهواء والشهوات، ولا غرو فقیمة النعم تبقی مجهولة ولا یعرف قدرها إلّاإذا فقدت فقد قال علیه السلام: «إن اللّه بعث محمداً صلی الله علیه و آله نذیراً للعالمین وأمیناً علی التنزیل» .

الجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام أکد علی جانب الانذار فی رسالة النبی صلی الله علیه و آله، بینما نعلم أنّ الانذار قد قرن بالبشارة، کما ورد ذلک فی عدة آیات قرآنیة، کالآیة الشریفة «یا أَیُّها النَّبِیُّ إِنّا أَرْسَلْناکَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِیراً» (1)وسائر الآیات القرآنیة. (2)غیر أنّ الانذار بالعقاب

ص:71


1- 1) سورة الأحزاب / 45. [1]
2- 2) سورة سبأ / 28؛ [2]سورة فاطر / 24؛ [3]سورة الفتح / 8 [4] وسورة البقرة / 119. [5]

والتهدید بالعذاب غالباً ما یکون الدافع لحرکة الاُمّة نحو القیام بوظائفها والتحفظ عن ترکها کان التأکید أکثر علی مسألة الانذار، ومن هنا ورد التأکید فی أغلب الآیات القرآنیة علی الانذار بشأن رسالة النبی صلی الله علیه و آله وسائر الأنبیاء، ولم تطالعنا أی من الآیات التی اقتصرت علی البشارة. وهذا هو الاسلوب الذی اعتمدته القوانین المعاصرة، حیث رکزت علی جانب العقوبة بصفتها الضمانة الإجرائیة الناجحة، ونادراً ما یعتمد الحث والتشجیع من أجل تحقیق الغرض المذکور. بصورة عامة فانّ الهدف النهائی للانذار هو إثارة الشعور بالمسؤولیة تجاه الوظائف والتکالیف الملقاة علی عاتق الإنسان. وهنا لا ینبغی أن ننسی بأن انذار النبی صلی الله علیه و آله یشمل کافة الکائنات؛ الأمر الذی یدل علی عالمیة الدین الإسلامی وخلوده، لأنّ للعالمین مفهوم واسع یشمل کافة أفراد البشریة فی کل عصر ومصر. قوله علیه السلام: «أمیناً علی التنزیل» تلویح ضمنی بعصمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فهو صائن لکتاب اللّه ومبلغه للعالم دون أدنی تغییر. ثم تطرق علیه السلام لأوضاع العرب زمان الجاهلیة فی عشرة عبارات مقتضبة عظیمة المعانی تشیر إلی أربعة محاور، فقال: «وأنتم معشر العرب علی شر دین» وأی دین أسوأ من الوثنیة؟ أن ینحت عاقل قطعة من الحجر أو الخشب بیده ثم یسجد لها ویعبدها ویری مقدراته بیدها ویلوذ بها فی حل المشاکل التی تواجهه فی حیاته، أو أن یصنع صنماً من التمر یتخذه إلهاً فاذا جاع أکله. أضف إلی ذلک الانحراف الخطیر فان طقوس هؤلاء القوم مملوءة بالخرافات والعقائد السخیفة البعیدة عن المنطق والتی سطرتها کتب تأریخ العرب فی العصر الجاهلی، وسنعرض لجانب منها لاحقاً.

هذا علی مستوی العقائد والأفکار. ثم تطرق علیه السلام إلی أوضاعهم الاقتصادیة المزریة فقال علیه السلام: «وفی شر دار منیخون» (1)بین حجارة خشن وحیات صم، تشربون الکدروتأکلون الجشب» . (2)

تعبیره علیه السلام «شر دار» بالنسبة لمحل إقامة عرب الجاهلیة، رغم أن أغلبهم (ولاسیما من

ص:72


1- 1) «منیخون» من مادة «نوخ» بمعنی تنویم الجمل، ومن البدیهی أن یکون موضع استراحة الأفراد هو ذلک الموضع الذی ینومون فیه الجمال بین حجارة خشن.
2- 2) «الجشب» علی وزن «خشن» بمعنی الطعام الغلیظ أو ما یکون منه بغیر أدم.

خاطبهم الإمام علیه السلام بهذه الکلمات) کانوا یقطنون فی مکة أو المدینة یفید أن هاتین المنطقتین قد فقدتا قدسیتهما ومکانتهما المعنویة إثر تبدلهما إلی مرکز للأصنام والأوثان والفساد والانحراف. وقد أحاطت بهم عواصف الرمل والریاح المحرقة فی تلک الصحاری الجرداء، بحیث إذا تمکن أحدهم من العثور علی بقیة ماء فی بعض البرک والآبار فانه کان علی درجة من التلوث والتعفن بسبب هبوب الریاح أو تلویثه من قبل بعض الأفراد حتی لیشعر شاربه بالغثیان، غیر أن هؤلاء کانوا مضطرین لشربه، ولم یکن طعامهم بأفضل ممّا علیه الشراب.

نقل أحد شرّاح نهج البلاغة أنّ إعرابیاً سئل: «أی الحیوانات تأکلون فی البادیة؟» قال: «نأکل کل ما دبّ ودرج الا أم جبین» . (1)

أمّا التعبیر بالحیات الصم، هو أن الحیة الصماء أخطر من غیرها لأنّها صماء لا تنزجر بالصوت، أو لعل سمها أخطر.

أما المحور الثالث فقد أشار فیه الإمام علیه السلام إلی أوضاعهم الاجتماعیة المزریة وإنعدام الأمن والاستقرار فقال علیه السلام: «وتسفکون دمائکم» والتعبیر بالمضارع «تسفکون دمائکم» کسائر الأفعال فی عبارات الخطبة یفید استمرار هذه الأوضاع المتفاقمة. والواقع لا تحتاج قضیة سفک الدماء المتعارفة بینهم إلی دلیل، فسیوفهم تشهر لاتفه الأسباب لیخوضوا أعنف المعارک وأشرسها لشهور بل لسنوات - ولعل نظرة عابرة إلی معارکهم المعروفة بحرب الفجار والتی ستشیر إلیها لاحقاً تفید أنّ أولئک الجهال کانوا یخوضون أشرس القتال من أجل أهون الأشیاء. وأخیراً أشار علیه السلام إلی المحور الرابع المتمثل بأوضاعهم العاطفیة المتردیة «وتقطعون أرحامکم» ولعل العبارة إشارة إلی قضیة وأد البنات ودفنهن أحیاءً، حیث کانوا یرون البنت تجر علیهم الخزی والعار، فکان أحدهم یتواری عن الأنظار خجلاً إذا ولدت له بنت، وهذا ما أشارت إلیه الآیة 58 و59 من سورة النحل «وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثی ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ کَظِیمٌ * یَتَواری مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَیُمْسِکُهُ عَلی هُونٍ أَمْ یَدُسُّهُ فِی

ص:73


1- 1) شرح نهج البلاغة، ابن میثم 2 / 24 أما کیف ضبطت مفردة (أم جبین) فقیل بیائین وقیل باء ویاء وقیل بالجیم کما قیل بالماء (أم جبین) و (أم حبین) ، کما کثر الکلام بشأن هذا الحیوان فقیل هو نوع من العضایا وتنفر منه عرب البادیة لأنّه سام عند الأکل.

التُّرابِ أَلا ساءَ ما یَحْکُمُونَ» وقد لا یکتفی البعض بالاقتصار علی هذا القتل علی البنات فیعمد إلی قتل ولده خشیة الفقر؛ الأمر الذی نهی القرآن عنه بشدّة، فقد نهت عن ذلک الآیة 31 من سورة الاسراء «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِیّاکُمْ» بل کان الوالد یقتل ولده والولد والده والأخ أخیه عبثاً، فقد عاشت الرحم فاجعة لم یشهد لها التأریخ مثیل.

ویختتم الإمام علیه السلام کلامه بخلاصة مفاسدهم المعنویة والمادیة بالقول «الأصنام فیکم منصوبة والآثام بکم معصوبة» . وکأن تعبیره (منصوبة) إلی أنّهم کانوا یفتخرون بهذه الأصنام فینصبونها فی کل مکان فضلاً عن عبادتها والسجود لها. ومعصوبة من مادة عصب (مایربط العضلات بالعظام) إشارة إلی أنواع المعاصی من قبیل سفک الدماء وقتل النفس وقطع الرحم والتعرض للنوامیس ونهب الأموال وشرب الخمر والقمار و. . . التی اجتاحت عرب الجاهلیة وعلیه فقد أشار الإمام علیه السلام بهذه العبارات إلی انحرافاتهم العقائدیة والأخلاقیة وأزماتهم الاقتصادیة والعاطفیة ومدی الانحطاط والسقوط الذی بلغوه علی هذه المستویات.

تأمّلات

1- آفاق العصر الجاهلی

ضروری هو البحث حول العصر الجاهلی والمسائل المختلفة المرتبطة به من أجل التعرف علی الإسلام وعظمة النبی صلی الله علیه و آله، فقد سعی المؤرخون لإحصاء المسائل المتعلقة بذلک العصر، وقد أشرنا إلی هذه المسألة فی شرح الخطبة الثانیة، وحیث أشار الإمام علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة إلی ذلک الموضوع فإننا نری ضرورة الإشارة إلی بعض الأمور:

أ الحدیث طویل فی عقائدهم الخرافیة فالوثتیة کانت هی الحاکمة والمنصوبة فی جوف الکعبة فهناک أوثان القبیلة والاسرة، ولبعضها أشکال وأخری دون شکل. من عقائدهم أن الملائکة بنات الله، فی حین ینفرون أنفسهم بشدة من البنات. وینکرون القیامة ویشاورون أصنامهم فی الأمور المهمة، وطریقة ذلک أنهم یکتبون علی السهام «افعل» و «لاتفعل»

ص:74

فیجعلونها مع بعضها ویخرجون واحد منها علی أنه الأمر الذی أصدره الوشن. ومن خرافاتهم العقائدیة الإیمان بالغیلان وطیور الشؤم والبرکة وما إلی ذلک.

ب - علی الصعید الإقتصادی فقد کان یدفعهم الفقر وعلاوة علی وأد البنات إلی قتل الأولاد. وأغلب دخلهم کان عن طریق السلب والنهبت، وکان الأغلب وبسوء الوضع الإقتصادی یعیش حافیا شبه عریان، وإن کان لأحدهم لیاس متواضع دعا، ذلک للفخر فینشد: من یک ذابت فهذا بتّی مقیّظ مصیّف مشتّ!

ج - علی المستوی العاطفی فکفاهم أنهم لم یرحموا أی شیء وذلک بسبب طبیعتهم الوحشیة کما یقول ابن خلدون حیث یمیلون إلی السلب والتهب ولذتهم بذلک وفخرهم بالقتل - روی أن أحدهم سمع قول النبی صلی الله علیه و آله فی وصف الجنة ونعمها، فسأل هل فیها قتال - قیل: لا. قال إذن لا خیر فیها. قیل فی بعض التواریخ أن الحروب التی نشیت بین عرب الجاهلیة بلغت 1700 حرب دام لبعضها مئة عام وتعاقبت علیها الأجیال، وما أکثر الحروب التی کانت تنشب لأتفه الأسباب.

ی - أما علی الصعید الإجتماعی فقد کانت أوضاعهم مزریة بفضل إنتشار الفساد والخمر حتی کان الشراب هو المتبادر إلی الأذهان من التجارة والشجاعة تعنی القتل والغیرة والعفة تعنی وأد البنات - کانوا یعشقون ثلاث: المرأة والخمر والقتال حتی قال شاعرهم: إذا مت فادفنی إلی جنب کرمة

کانوا یعتقدون بوجوب نصرة الصدیق علی الحق کان أم الباطل. کما کان القمار بارزا عندهم حتی أنهم کانوا یخسرون فیها نسائهم. کان الزنا منتشرا بینهم حتی إشتهر عندهم الزانیات من أصحاب الرایات، وهکذا سائر المفاسد التی لا مجال لإحصائها. (1)

نعم هکذا کان العرب وقد أتقدهم الله بالإسلام، فلم ینجو من الخرافات والوثنیة

ص:75


1- 1) للوقوف علی المزید راجع بلوغ الأدب والإسلام والجاهلیة والتأریخ الکامل (ج 1) وسید المرسلین وشرح العلامة الخوئی لنهج البلاغة.

والعقائد المنحطّة، بل تغیرت حتی أوضاعهم الإجتماعیة والإقتصادیة والعاطفیة وقد صنع من إنسانهم المتوحش مثال الفرد المتحضر الأسوة کمن علی شاکلة أبی ذر والمقداد وعمار وبلال. وتتضح عظمة الإسلام ورسالة النبی صلی الله علیه و آله من هذه المقارنة، أما ظهور آثار الجاهلیة فی عصرنا باشکالها الأوسع والأقسی - بسبب الإبتعاد عن تعالیم الأنبیاء سیما تعالیم نبی الإسلام صلی الله علیه و آله لهی شهادة أخری علی عظمة هذه الرسالة.

2- شر دار أم خیرها

النقطة الجدیدة بالذکر فی الخطبة المذکورة وصفه لموضع سکن عرب الجاهلیة بشر دار، بینما وصف ذلک العصر فی الخطبة الثانیة بالقول «خیر دار وشر جیران» ولما کان المراد فی العبارتین أرض مکة فیبدو هناک تناقضا، إلا أنّ أدنی تأمل یفید عدم وجود أی تناقض - فأرض مکة ذاتاً مرکزاً لأفضل دار یعنی الشعبة، ولکن بالعرض فإن جمیع هذه الأرض المقدسة حتی بیت الله فقد لوثت بالشرک والوثنیة والمفاسد الأخلاقیة. وعلیه فهی شر دار باعتبار وخیر دار باعتبار آخر.

ج ج

ص:76

القسم الثانی: الصبر المریر

اشارة

«فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَیْسَ لِی مُعِینٌ إِلاَّ أَهْلُ بَیْتِی، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ، وَأَغْضَیْتُ عَلَی الْقَذَی، وَشَرِبْتُ عَلَی الشَّجا، وَصَبَرْتُ عَلَی أَخْذِ الْکَظَمِ، وَعَلَی أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة - إلی الحوادث التی أعقبت رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله ولاسیما حادثة الخلافة، ویتطرق إلی السبب الذی دعاه إلی السکوت وعدم المطالبة بحقه المسلّم فی الخلافة، أی خلافة رسول الله صلی الله علیه و آله - والتی کانت فی الواقع حق المسلمین - فقال علیه السلام: «فنظرت فاذا لیس معین إلا أهل بیتی» . من الواضح أنّ القیام بالأمر تجاه تلک الطائفة المتحزبة - التی تشهد التواریخ بأنّها خططت للالتفاف علی الخلافة قبل وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله - لا ینسجم وأی منطق؛ لأنّ مثل هذا القیام لیس فقط لا یتمخض عن نتیجة، بل سیؤدی ذلک القیام إلی قتل طائفة من صفوة أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله، أضف إلی ذلک فان هذه المواجهة قد تقود إلی شق صفوف المسلمین بما یعود بالنفع للمنافقین الذین کانوا یتربصون بالمسلمین مثل هذه الحوادث بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله؛ الأمر الذی جعل الإمام علیه السلام یفضل الصمت والسکوت ومن هنا واصل الإمام علیه السلام خطبته بهذا الشأن فقال: «وأغضیت (1)علی

ص:77


1- 1) «أغضیت» من مادة «غضی» تعنی السکوت علی مضض، کما تعنی اغماض العین - ومن هنا تطلق اللیالی الغاضیة علی اللیالی الظلماء.

القذی (1)وشربت علی الشجا (2)، وصبرت علی أخذ الکظم (3)وعلی أمر من طعم العلقم (4)» .

تأمّلات

1 - الأحداث المریرة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله

تشبه هذه العبارات تلک التی وردت فی الخطبة الثالثة المعروفة بالخطبة الشقشقیة، بل هی أشد وقعاً منها، وتفید أنّ الإمام علیه السلام قد قضی ساعات ولحظات غایة فی المرارة إبان تلک السنین - ما یقارب خمس وعشرین سنة - التی قضاها بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله جلیس الدار حین دفع عن حقّه فی الخلافة.

ولم یکن تذمر الإمام علیه السلام کونه لم یتزعم الحکومة، فقد أعلن صراحة عن عدم إکتراثه لهذا الأمر وأشار کراراً إلی أن هذه الخلافة لا تساوی عنده شیء إلّاأن یقیم حقّاً أو یدحض باطلاً، فهی مسؤولیة إلهیة ولیست وسیلة للفخر والمباهاة، وإنّما کان تذمره لأنّه کان یشهد تنصل الأمّة شیئاً فشیئاً عن الإسلام وابتعادها عن القیم واحیائها لسنن الجاهلیة حتی حدث ماکان یخشی منه، فقد تسلم معاویة زمام اُمور الدولة الإسلامیة وأصبحت خلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ملکیة وراثیة لیرثها من بعده ولده یزید الذی ارتکب أفظع الجرائم والجنایات بحق المسلمین وتکشف عبارات الإمام علیه السلام عن مدی الدعایات الشدیدة التی مارسها القائمین علی شؤون الحکومة من جهة وتهدید الاُمّة وارعابها من جهة اُخری فی إقصاءه عن حقه المسلم فی الخلافة بحیث لم یکن معه من ینهض بالأمر سوی أهل بیته، فقد نقل المؤرخون عن الإمام علیه السلام أنّه قال: «لو وجدت أربعین ذوی عزم لقاتلت» (5)والذی یستوحی من عباراته علیه السلام أنّ

ص:78


1- 1) «قذی» علی وزن قضا الصفاء والاخلاص، ومن هنا یطلق القذی علی الشیء الذی یقع فی الماء فیلوثه، کما یطلق علی ما یقع فی العین.
2- 2) «شجا» من مادة «شجو» ما یعترض فی الحلق من عظم أو نحوه، کما یطلق علی الشدة والهم والغم.
3- 3) «کظم» علی وزن غضب من مادة «کظم» . قال الراغب فی المفردات الکظم بمعنی مخرج النفس، والکظوم بمعنی الاختناق وحبس النفس، کما تستعمل بمعنی ربط القربة بعد ملئها بالماء، ومعنی العبارة صبرت علی الخناق رغم الضغط الذی مارسه العدو.
4- 4) «العلقم» ، قال صاحب مجمع البحرین هی شجرة شدیدة المرارة، وتسمی الحنظل أیضاً، کما جاءت علقمة بمعنی المرة.
5- 5) رواها نصر بن مزاحم عن الإمام علیه السلام؛ شرح نهج البلاغة، ابن میثم 2 / 26، شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 22. [1]

المتحمسین لغصب الخلافة لم یکونوا یتورعون حتی عن سفک دماء أهل البیت علیهم السلام، وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام بقوله: «فضننت بهم عن الموت» ؛ الأمر الذی یبدو عجیباً ورهیباً للغایة، وان کانت مثل هذه الاُمور الأخلاقیة لیست عجیبة فی عالم السیاسة والحکومة! کما یحتمل أن یکون أولئک المتعصبین للخلافة یتربصون الدوائر بذریة الإمام علیه السلام التی کانوا یرون أنّها ستتصدی للخلافة مستقبلاً، فهم یهمون بقتلهم لکی لا تبقی لأهل البیت من باقیة تنهض بمسؤولیة الخلافة.

أمّا السؤال عن مدی لوعة الإمام علیه السلام وشدة تلک الأیام التی کانت تمر علیه وهو جلیس الدار، یتطلع بذهول لتلک الأفعال التی ارتکبت باسم الحکومة الإسلامیة من قبیل تحریف العقائد والانحراف فی فهم النصوص والأحکام الإسلامیة وتضییع العدالة وبالتالی استبدال الحکومة الإسلامیة بالملکیة الوراثیة کحکومة فرعون وقیصر وکسری، فالإجابة علیه قد وردت فی الخطبة الثانیة والستین من نهج البلاغة التی قال فیها الإمام علیه السلام: «أما بعد، فان اللّه سبحانه بعث محمداً صلی الله علیه و آله نذیراً للعالمین، ومهیمناً علی المرسلین، فلما مضی تنازع المسلمون الأمر من بعده، فو اللّه ما کن یلقی فی روعی ولا یخطر ببالی أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلی الله علیه و آله عن أهل بیته، ولا أنّهم منحوه عنی من بعده! فما راعنی إلّاانثیال الناس علی فلان یبایعونه، فأمسکت یدی حتی رأیت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، یدعون إلی محق دین محمد صلی الله علیه و آله، فخشیت إن لم أنصر الإسلام، وأهله أن أری فیه ثلماً أو هدماً، تکون المصیبة به علیّ أعظم من فوت ولا یتکم التی إنّما هی متاع أیام قلائل، یزول منها ماکان، کما یزول السراب، أو کما یتقشع السحاب؛ فنهضت فی تلک الأحداث حتی زاح الباطل وزهق، واطمأن الدین وتنهنه» فالإمام علیه السلام کان یشهد آنذاک مشکلتین خطیرتین؛ الاولی ذهاب حقه المسلم فی الخلافة؛ الحق الذی أدی زواله إلی انحرافات عظیمة برزت علی الساحة الإسلامیة، والثانیة تکمن فی الخطر الذی کان محدقاً بالإسلام، والفرصة التی کان ینتظرها تیار النفاق من أجل الاجهاز علیه، فما کان منه علیه السلام إلّاأنّ یعمل بالقاعدة المنطقیة العقلائیة والشرعیة فی تقدیم الأهم علی المهم عند التزاحم، فسکت علی مضض عن حقه فی الخلافة حفاظاً علی بیضة الإسلام.

ص:79

2 - هل بایع الإمام علیه السلام الخلیفة الأول؟

کثر الکلام بین المؤرخین والمحدثین بشأن موقف الإمام علی علیه السلام من خلافة الأول والبیعة التی تمت له فی سقیفة بنی ساعدة. ولیس هنالک من اتفاق بین علماء الشیعة والسنة بهذا المجال، فقد صرح الشارح البحرانی أنّ أغلب علماء الشیعة یعتقدون أنّ الإمام علی علیه السلام امتنع عن مبایعة الخلیفة الأول، وقد انضم إلیه عدد من بنی هاشم، إلّاأنّهم اضطروا آخر الأمر لبیعته بعد أن اُجبروا علیها. وقیل أنّ أمیر المؤمنین علی علیه السلام لازم البیت ولم یخرج، فلما رأوا أنّه وحید ترکوه ولم یحملوه علی البیعة. أما محدثوا العامة فقد ذهبوا إلی أنّ الإمام علیه السلام قد امتنع عن البیعة ستة أشهر حتی توفت الزهراء علیها السلام فبایع طوعا. وللمرحوم العلّامة السید شرف الدین صاحب المراجعات تحلیل رائع بهذا الشأن، خلاصته أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یؤکد حقه المسلم فی الخلافة ونص النبی صلی الله علیه و آله بالوصیة علیه من جانب، ومن جانب آخر أراد أن یفوت الفرصة علی المنافقین - الذین کانوا یتربصون الدوائر بالإسلام ویرون السبیل قد تمهد أمام أطماعهم بالقضاء علی الدین من خلال الاختلافات بین الأنصار والمهاجرین - فامتنع عن البیعة مدة (لیعلن عن حقه فی الخلافة) ، ثم بایع حفظاً للإسلام ودرءاً لخطر المنافقین والمتربصین بالدین. (1)وقد وردت بعض العبارات التی تشیر إلی هذا المعنی فی الخطبة 62 من نهج البلاغة «. . فأمسکت یدی حتی رأیت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، یدعون إلی محق دین محمد صلی الله علیه و آله فخشیت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أری فیه ثلماً أو هدماً، تکون المصیبة به علی أعظم من فوت ولایتکم. . .» .

وسنتحدث إن شاء الله بما یناسب المقام حین شرحنا للخطب والرسائل المرتبطة بهذا البحث.

ص:80


1- 1) المراجعات، الرسالة 84.

القسم الثالث: المساومة السیاسیة المفضوحة

اشارة

ومنها: «وَ لَمْ یُبایِعْ حَتَّی شَرَطَ أَنْ یُؤْتِیَهُ عَلَی الْبَیْعَةِ ثَمَناً، فَلا ظَفِرَتْ یَدُ الْبائِعِ، وَخَزِیَتْ أَمانَةُ الْمُبْتاعِ، فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَها، وَأَعِدُّوا لَها عُدَّتَها فَقَدْ شَبَّ لَظاها، وَعَلا سَناها، وَاسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَی إِلَی النَّصْرِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام إلی المساومة الفاضحة التی اشترطها عمرو بن العاص علی معاویة کثمن للبیعة، فقال: «ولم یبایع حتی شرط أن یؤتیه علی البیعة ثمناً» . فقد ذکر المؤرخون: لما نزل علی علیه السلام الکوفة بعد فراغه من أمر البصرة، کتب إلی معاویة کتاباً یدعوه إلی البیعة، أرسل فیه جریر بن عبداللّه البجلی. فقدم علیه به الشام، فقرأه واغتم بما فیه، وذهبت به أفکاره کل مذهب، وطاول جریر بالجواب عن الکتاب، حتی کلم قوماً من أهل الشام فی الطلب بدم عثمان، فأجابوه ووثقوا له، وأحب الزیادة فی الاستظهار، فاستشار بأخیه عتبة بن أبی سفیان، فقال له: استعن بعمرو بن العاص فانّه من قد علمت فی دهائه ورأیه، وقد اعتزل عثمان فی حیاته، وهو لأمرک أشد اعتزالاً؛ إلّاأنّ یثمن له دینه فسیبیعک، فانّه صاحب دنیا. فکتب إلیه معاویة «أما بعد، فانه کان من أمر علی وطلحة والزبیر ماقد بلغک، وقد سقط إلینا مروان بن الحکم فی نفر من أهل البصرة، وقدم علینا جریر بن عبداللّه فی بیعة علی، وقد حبست نفسی علیک، فأقبل أذاکرک اُموراً لا تعدم صلاح مغبتها، إن شاء اللّه» - فلما قدم الکتاب علی عمرو استشار ابنیه: عبد اللّه بن عمرو ومحمد بن عمرو، فقال لهما: ما تریان؟ فقال عبداللّه: قر فی منزلک فلست مجعولاً خلیفة، ولا تزید علی أن تکون حاشیة لمعاویة علی دنیا قلیلة. أما ولده

ص:81

الآخر فقال: الحق بجماعة أهل الشام فلما دخل عمرو بن العاص الاشم، خاطبه معایة قائلاً: «یا أبا عبداللّه أدعوک إلی جهاد هذا الرجل الذی عصی اللّه وشق عصی المسلمین وقتل الخلیفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع الرحم» (1). فقال له عمرو: من هو؟ قال: علی. فقال عمرو بن العاص: «واللّه ما أنت وعلی بجملی بعیر لیس لک هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه ولا علمه» . وواللّه إنّ له مع ذلک لحظاً فی الحرب لیس لأحد غیره، ولکنی قد تعودت من اللّه تعالی إحساناً وبلاءً جمیلاً؛ فما تجعل لی إن شایعتک علی حربه، وأنت تعلم مافیه من الغرر والخطر؟ قال معاویة: حکمک، فقال عمرو: مصر. فتلکأ علیه معاویة وقال: یا أبا عبداللّه إنی أکره لک أن تتحدث العرب عنک أنّک إنّما دخلت فی هذا الأمر لغرض الدنیا، قال عمرو: دعنی عنک. فأشار علیه عتبة بأن یجیب عمرو، فأجابه وأعطاه مصر. (2)جدیر بالذکر إنّ مصر کانت فی نفس عمرو بن العاص لأنّه هو الذی فتحها فی سنة تسع عشرة من الهجرة فی خلافة عمر، فکان لعظمها فی نفسه وجلالتها فی صدره، وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنیا، لا یستعظم أن یجعلها ثمناً من دینه. أضف إلی ذلک فقد ولاها أربع سنوات علی عهد الخلیفة الثانی، وأربع اُخری علی عهد عثمان حتی عزله. ثم قال الإمام علیه السلام: «فلا ظفرت ید المبایع، وخزیت أمانة المبتاع» (3). فالواقع کلامه علیه السلام یتضمن الدعوة ضد المشتری والبائع. نعم صحیح أنّ معاویة قد وفی له بوعده وأعطاه مصر، إلّاأنّه لم یحکمها مدة طویلة بعد أن وافاه الأجل، إلی جانب ما نقل عنه أواخر عمره عن مدی خشیته من عاقبته ومصیره، فلم یذق طعم النصر الذی کان یحلم به. کما أنّ معاویة وإن وطد دعائم حکومته بهذا العمل إلّاأنّها آلت إلی الانهیار المخزی بعد أن انفرج عنه کافة الصحابة من المهاجرین والأنصار والأفراد المشهورین بحسن السمعة من أهل الورع والتقوی ولم یتمحور حوله سوی تلک الثلة التی ورثت العداء للإسلام وسلیلی زعماء الجاهلیة، فکانوا أعوانه الذین یبطش بواسطتهم الناس ویجرعونهم أبشع غصص القتل والارعاب والتهدید والوعید. کما یحتمل ألا تکون العبارة من

ص:82


1- 1) یقصد قرابة عثمان من بنی هاشم.
2- 2) «المبتاع» بمعنی المشتری والمراد به هنا معاویة والبائع عمرو بن العاص.
3- 3) انظر أسد الغابة فی معرفة الصحابة (عمرو بن العاص) .

قبیل الدعاء، بل هی جملة خبریة؛ أی أنّ بیع الدین بالدنیا لا یقود إلی النصر أبداً، بل ستکون الخسارة من نصیب البائع والمشتری؛ الأمر الذی أشارت إلیه بعض الآیات القرآنیة «أُولئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدی فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» (1)والآیة «أُولئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُا الحَیاةَ الدُّنْیا بِالآخِرَةِ فَلا یُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ وَلا هُمْ یُنْصَرُونَ» (2). وتعبیر الإمام علیه السلام بالأمانة عن حکومة مصر وحقوق أهلها من المسلمین إشارة صریحة إلی أنّ حکومة الاُمّة وإدارة شؤونها إنّما هی أمانة إلهیة لابدّ أن ینهض بعبئها الأخیار الصالحین بغیة ضمان مصالح الاُمّة، وأمّا اُولئک الذین یتخذون هذه الحکومة وسیلة لتحقیق مآربهم وأغراضهم الشخصیة إنّما یخونون هذه الأمانة الإلهیة وهذا ما سیؤدی فی آخر الأمر إلی فضیحتهم وزوال حکمهم. ومن هنا صرح أغلب المفسرین بأنّ المصداق الوحید أو المصداق البارز للأمانة الواردة فی الآیة الشریفة «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إِلی أَهْلِها» (3)إنّما هی الحکومة والولایة. ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه بحث الاُمّة علی الاستعداد والتأهب لمنازلة العدو «فخذوا للحرب اُهبتها» (4)، وأعدوا لها عدتها فقد شبّ (5)لظاها (6)وعلا سناها (7)» . فالعبارة تفید أنّ الإمام علیه السلام قد اعتمد کافة الطرق السلمیة من أجل وضع حد لذلک النفاق والعداء ولاسیما غدر أهل الشام وحکامهم إلّاأنّ کل ذلک لم یجد نفعاً، فکان حجم التآمر والدسائس یزداد کل یوم، فما کان منه علیه السلام إلّاأن أمر بالتأهب للقاء العدو؛ فقد شبت لظی نیران الأعداء وتصاعدت ألسنتها، ولابدّ من مواجهتها والعمل علی اطفائها. کما یشیر التأریخ الإسلامی إلی أنّ أعداء الإمام علیه السلام کانوا یسارعون للاستعداد للقتال وقد بعثوا بکتبهم ورسائلهم إلی طلحة والزبیر. وأخیراً یختتم الإمام علیه السلام بالإشارة إلی الصبر بفضله أحد أهم مقومات النصر فقال «واستشعروا

ص:83


1- 1) سورة البقرة / 16. [1]
2- 2) سورة البقرة / 86. [2]
3- 3) سورة النساء / 58. [3]
4- 4) «اُهبة» علی وزن لقمة بمعنی العدة والتأهب والاستعداد للقیام بعمل وإهاب علی وزن کتاب بمعنی الجلدالذی لم یدبغ وقد اُعد للدباغة.
5- 5) «شب» من مادة «شبب الشباب» ، ویستعمل فی شب النار.
6- 6) «لظا» بمعنی شعلة النار کما تطلق علی نفس النار (الراغب فی المفردات) .
7- 7) «سنا» ، قال صاحب المقاییس تتضمن العلو والارتفاع وقد وردت فی العبارة بمعنی تصاعد ألسنة النیران.

الصبر فإنه أدعی إلی النصر» . واستناداً إلی مفردة الاستشعار من مادة (ش ع ر) التی تعنی الثیاب الداخلیة (فی مقابل الدثار بمعنی الثیاب الخارجیة) یتضح أنّ الصبر والاستقامة لابدّ أن تسود باطن الإنسان وتمد الإنسان بمعانی الصمود إزاء الحوادث المریرة.

تأمّلات

1 - السیاسات الدنیویة لا تعترف بالأصول الأخلاقیة

هناک عبارة ما انفکت الألسن ترددها حتی صارت مثلاً، وهی قولهم «الملک عقیم» التی تفید تنکر السیاسة المادیة - القائمة علی أساس القیم الدنیویة والأنانیة والأطماع الشخصیة - حتی للقرابة بما فیها الزوجة والولد والوالدین والتضحیة بها من أجل تحقیق أهدافها وأغراضها؛ ولا غرو فالساسة لا یرون من قیمة تفوق حفظ مواقعهم، وعلیه فمن الطبیعی أن یضحون بالغالی والنفیس ویضربون کل قیمة عرض الحائط من أجل حفظ مصالحهم. وقوله علیه السلام: «فضننت بهم عن الموت» تشیر إلی أنّ المتعطشین للخلافة کانوا مستعدین حتی لقتل أهل البیت من بنی هاشم فیما لو استعان بهم الإمام علیه السلام ونهض بالأمر للمطالبة بحقه فی الخلافة. والحدیث النبوی المعروف «حبّک للشیء یعمی ویصم» (1)لأصدق علی الرغبة بالجاه والمقام منه علی سائر الاُمور، ونموذج ذلک ماورد فی الخطبة التی نحن بصددها. ویحفل التأریخ بسیر أولئک الذین عبروا علی کل شیء وسحقوه من أجل الظفر بأهدافهم فی السلطة والرئاسة.

2 - باعة الدین بالدنیا!

تعرضنا إلی حد ما فی البحث السابق إلی مسألة بیه الدین والقیم والمثل المعنویة بالمنافع المادیة الرخیصة، ولمسنا نموذج ذلک فی شخصیة عمرو بن العاص الذی أشارت إلیه الخطبة المذکورة، حیث صرحت بأنّه ومن أجل حکومة مصر ولو لمّدة قصیرة قد باع دینه وقیمه،

ص:84


1- 1) بحار الأنوار 74 / 165.

وقد أعرب آخر عمره کما أورد ذلک المؤرخون عن مدی ندمه، ولکن حیث لم ینفع الندم وقد اُغلقت کافة سبل العودة.

القرآن الکریم من جانبه أشار إلی هذا الأمر بصفته أحد العوامل الرئیسیة المؤدیة إلی الانحراف ولاسیما بالنسبة للعلماء من عبدة الدنیا. ومن ذلک ما أورده القرآن بشأن فریقاً من علماء بنی اسرائیل - الذین کانوا یبشرون بظهور النبی قبیل انبثاق دعوته علی ضوء العلم الذی کان لدیهم والأخبار الواردة فی کتبهم (التوراة والانجیل) إلّاأنّهم حرفوا الکلم حین تعرضت بعض مصالحهم المادیة للخطر - فقد صرحت الآیة 187 من سورة آل عمران قائلة: «وَإِذ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ الَّذِینَ أُوتُوا الکِتابَ لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَکْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِیلاً فَبِئْسَ ما یَشْتَرُونَ» .

فمن الواضح أنّ القرآن الکریم یذمهم من أجل أنّهم حرصوا علی متاع قلیل، بل المراد أنّ المتاع المادی - وأن تضمن أرفع المقامات وأکثر الثروات - یبقی قلیلاً مقارنة بالمتاع المعنوی «فَما مَتاعُ الحَیاةِ الدُّنْیا فِی الآخِرَةِ إِلّا قَلِیلٌ» (1).

علی العموم فانّ کافة الأفراد الذین یقدمون طاعة المخلوق علی طاعة الخالق ویؤثرون أطماعهم ومنافعهم علی الآخرة ویضربون الأحکام الشرعیة عرض الحائط ولا یکترثون للحلال والحرام من أجل تحقیق أهوائهم الشخصیة إنّما هم فی زمرة باعة الدین بالدنیا. ویقابلهم اولئک الأفراد الذین لا یرون فی أعمالهم سوی رضی اللّه والتسلیم لإرادته، وهؤلاء هم الذین وصفهم القرآن بحزب اللّه الذین لا یرون حتی فی الأهل والقرابة من عائق أمام رضی اللّه «لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ یُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ کانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ. . .» (2).

3 - علاقة النصر بالثبات

إن کان النصر یقوم علی عدة عوامل، فانّ أحد أهم هذه العوامل هو الصبر، وتبدو الرابطة

ص:85


1- 1) سورة التوبة / 38. [1]
2- 2) سورة المجادلة / 22. [2]

بین النصر والصبر علی درجة من الوضوح بحیث إن الأدباء ومنذ قدیم الزمان قد قرنوا الظفر بالصبر «من صبر ظفر» . وقد أشار القرآن الکریم صراحة إلی هذه الحقیقة حتی اعتبر أنّ النصر حلیف جند الإسلام مهما کان عدد وعدة العدو إذا ما تحلو بالصبر والاستقامة «إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِئَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِئَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً» (1). وهذا هو السبب الذی یکمن وراء انتصار المسلمین فی کافة الغزوات رغم عدم الموازنة والتفاوت الفاحش بین ما علیه الأعداء من عدة وعدد ومعدات وما علیه المسلمین، حیث کانوا یتحلون بالصبر النابع من إیمانهم باللّه والیوم الآخر.

وهذا ما أکده الإمام علیه السلام فی خطبته اذ قال: «واستشعروا الصبر فانه أدعی إلی النصر» . ولا یسعنا هنا إلّاأن نکتفی بهذا المقدار ونوکل المزید من الکلام إلی الأبحاث القادمة. أما المسألة الجدیرة بالذکر فهی أن استشعار الصبر - بمعنی نفوذه إلی عمق النفس البشریة - أو دثاره - بمعنی التحلی به علی مستوی الظاهر؛ الأمر الذی یدخل الرعب إلی قلوب الأعداء - إنّما یقود إلی النصر وهزیمة العدو.

ص:86


1- 1) سورة الانفال / 65. [1]

الخطبة السابعة والعشرون

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

وقد قالها یستنهض بها الناس حین ورد خبر غزو الانبار بجیش معاویة فلم ینهضوا. وفیها یذکر فضل الجهاد ویستنهض الناس ویذکر علمه بالحرب ویلقی علیهم التبعة لعدم طاعته.

سند الخطبة وزمانها ومکانها

اشارة

قال ابن أبی الحدید هذه الخطبة من مشاهیر خطبه علیه السلام؛ قد ذکرها کثیر من المحققین والمحدثین (غیر المرحوم الشریف الرضی) ورواها أبو العباس المبرد فی أول (الکامل) وأسقط من هذه الروایة ألفاظاً وزاد فیها ألفاظاً، وقال فی أولها: إنه انتهی إلی علی علیه السلام أنّ خیلاً وردت الأنبار (1)لمعاویة، فقتلوا عاملاً له یقال له: حسان بن حسان، فخرج مغضباً یجر رداءه، حتی أتی النخیلة، وأتبعه الناس، فرقی رباوة فی الأرض، فحمد اللّه وأثنی علیه وصلی علی نبیّه صلی الله علیه و آله ثم قال: أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنّة، فمن ترکه رغبة عنه، ألبسه اللّه الذل وسیم الخسف» (2).

کما أوردها المرحوم الکلینی فی کتابه الکافی فی بحث الجهاد. (3)

ص:87


1- 1) الانبار محافظة من محافظات العراق التی تقع غرب بغداد.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 75. [1]
3- 3) الکافی 5 / 4.

ونقلها صاحب مصادر نهج البلاغة عن عشرة مصادر معروفة قبل المرحوم السید الرضی ومنها: «البیان والتبیین للجاحظ وعیون الأخبار لابن قتیبة والأخبار الطوال للدینوری والغارات للثقفی والعقد الفرید لابن عبد ربّه والأغانی لأبی الفرج الأصفهانی. . .» (1)

وعلیه فانّ الإمام علیه السلام قد أورد هذه الخطبة فی النخیلة حین اُخبر علیه السلام بهجوم سفیان بن عوف الغامدی - والذی عبّر عنه الإمام علیه السلام ب (أخو غامد) - علی الأنبار وقتل عامله علیها حسان بن حسان وطائفة من المسلمین وقد نهبوا أموالهم وخربوا بیوتهم دون أن یواجهوا أدنی مقاومة ثم عادوا إلی الشام سالمین. فأمّا أخو غامد الذی وردت خیله الأنبار فهو سفیان بن عوف بن المغفل الغامدی؛ وغامد قبیلة من الیمن، وهی من الازد، أزد شنوءة - واسم غامد عمر بن عبد اللّه بن کعب بن الحارث بن کعب بن کعب بن عبد اللّه بن مالک بن نصر بن الأزد - وسمی غامداً لأنّه کان بین قومه شر فأصلحه وتغمدهم بذلک. قال سفیان بن عوف الغامدی، قال: دعانی معاویة، فقال: إنّی باعثک فی جیش کثیف، ذی أداة وجلادة، فألزم جانب الفرات، حتی تمر بهیت فتقطعها، فان وجدت بها جنداً فأغر علیهم وإلّا فامض حتی تغیر علی الأنبار، فان لم تجد بها جنداً فامض حتی توغل فی المدائن؛ ثم أقبل إلیّ واتق أن تقرب الکوفة. واعلم انک إن أغرت علی أهل الأنبار وأهل المدائن فکأنّک أغرت علی الکوفة؛ إن هذه الغارات یا سفیان علی أهل العراق ترعب قلوبهم وتفرح کل من له فینا هوی منهم، وتدعو الینا کل من خاف الدوائر، فاقتل من لقیته ممن لیس هو علی مثل رأیک، وأخرب کل ما مررت به من القری، واحرب الأموال، فإن حرب الأموال شبیه بالقتل، وهو أوجع للقلب. قال: فخرجت من عنده فعسکرت، وقام معاویة فی الناس فخطبهم، فقال: أیّها الناس، انتدبوا مع سفیان بن عوف، فانّه وجه عظیم فیه أجر، سریعة فیه أوبتکم إن شاء اللّه - ثم نزل. قال: فو الذی لا إله غیره ما مرت ثالثة حتی خرجت فی ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات، فأغذذت السیر حتی أمر بهیت، فبلغهم أنی قد غشیتهم فقطعوا الفرات، فمررت بها وما بها عریب، کأنّها لم تحلل قط، فوطئتها حتی أمر بصند وداء، ففروا فلم ألق بها أحداً، فأمضی حتی أفتتح الأنبار،

ص:88


1- 1) مصادر نهج البلاغة 1 / 397.

وقد نذروا بی، فخرج صاحب المسلحة إلی، فوقف لی فلم أقدم علیه حتی أخذت غلماناً من أهل القریة. فقلت لهم: أخبرونی کم بالأنبار من أصحاب علی علیه السلام؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولکنهم قد تبددوا ورجعوا إلی الکوفة؛ ولا ندری الذی یکون فیها، قد یکون مائتی رجل، فنزلت فکتبت أصحابی کتائب، ثم أخذت أبعثهم إلیه کتیبة بعد کتیبة، فیقاتلهم واللّه ویصبر لهم، ویطاردهم ویطاردونه فی الأزقة، فلما رأیت ذلک أنزلت إلیهم نحواً من مائتین، وأتبعتهم الخیل، فملا حملت علیهم الخیل وأمامها ثلاثین رجلاً، وحملنا ما کان فی الأنبار من الأموال؛ ثم انصرفت، فو اللّه ما غزوت غزاة کانت أسلم ولا أقر للعیون، ولا أسر للنفوس منها. وبلغنی واللّه أنّها أرعبت الناس، فلما عدت إلی معاویة، حدثته الحدیث علی وجهه، فقال: کنت عند ظنی بک، لا تنزل فی بلد من بلدانی إلّاقضیت فیه مثل ما یقضی فیه أمیره، وإن أحببت تولیته ولیتک، ولیس لأحد من خلق اللّه علیک أمر دونی، قال فو اللّه ما لبثنا إلّایسیراً، حتی رأیت رجال أهل العراق یأتوننا علی الابل هرّاباً من عسکر علی علیه السلام. وکان اسم عامل علی علیه السلام علی مسلحة الأنبار أشرس بن حسان البکری. قال ابراهیم بن عبداللّه بن قیس کنت مع أشرس بن حسان البکری بالأنبار علی مسلحتها، إذ صبحنا سفیان بن عوف فی کتائب تلمع الأبصار منها، فهالونا واللّه، وعلمنا إذ رأیناهم أنه لیس لنا طاقة بهم ولا ید، فخرج إلیهم صاحبنا وقد تفرقنا فلم یلقهم نصفنا، وایم اللّه لقد قاتلناهم فأحسنا قتالهم؛ حتی کرهونا، ثم نزل صاحبنا، وهو یتلو قوله تعالی: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِیلاً» . ثم قال لنا: من کان لا یرید لقاء اللّه، ولا یطیب نفساً بالموت، فلیخرج عن القریة مادمنا نقاتلهم، فان قتالنا إیاهم شاغل لهم عن طلب هارب، ومن أراد ما عند اللّه فما عند اللّه خیر للأبرار، ثم نزل فی ثلاثین رجلاً، فهممت بالنزول معه، ثم أبت نفسی، واستقدم هو وأصحابه، فقاتلوا حتی قتلوا رحمهم اللّه، وانصرفنا نحن منهزمین. (1)

ص:89


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 85 - 87. [1]

نظرة إلی الخطبة

کما ذکرنا سابقاً فان هذه الخطبة - المعروفة بخطبة الجهاد - من أشهر خطب أمیرالمؤمنین علیه السلام التی تدور حول محور الجهاد. فقد استهل الخطبة بشرح أهمیة الجهاد ومعطیاته والعواقب الوخیمة التی تنتظر الأُمّة فی حالة ترکه. ثم عرض باللوم لأهل الکوفة بعد أن تعرض لحملة «سفیان الغامدی» علی مدینة الأنبار وشهادة «حسان بن حسان» - العامل الوفی والأمین لأمیر المؤمنین علیه السلام علی الأنبار - والجرائم التی ارتکبها أهل الشام فی سلب الأموال وهدم البیوت - وفی القسم الثالث من الخطبة إلی ذم أهل العراق آنذاک ثانیة والتعلل ببعض الاُمور بهدف التقاعس عن الجهاد - وأخیراً یختتم الإمام علیه السلام خطبته ببیان استعداده التام لجهاد العدو وسوابقه المشرقة بهذا الخصوص وفی الختام فهی خطبة ذات تأثیر بلیغ فی نفوس السامعین، حتی قال الشارح المعروف ابن أبی الحدید بهذا المجال: واعلم أنّ التحریض علی الجهاد والحض علیه قد قال فیه الناس فأکثروا، وکلهم أخذوا من کلام أمیر المؤمنین علیه السلام؛ فمن جید ذلک ما قاله ابن بناتة الخطیب بشأن الجهاد «. . فانّ الجهاد أثبت قواعد الإیمان، وأوسع أبواب الرضوان، وأرفع درجات الجنان. .» ثم أضاف: فانظر إلیها وإلی خطبته علیه السلام بعین الانصاف، تجدها بالنسبة إلیها کمخنث بالنسبة إلی فحل، أو کسیف من رصاص بالاضافة إلی سیف من حدید. (1)

ج ج

ص:90


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 81. [1]

القسم الأول: الجهاد باب من أبواب الجنّة

اشارة

«أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِیَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَی وَدِرْعُ اللّهِ الْحَصِینَةُ، وَجُنَّتُهُ الْوَثِیقَةُ، فَمَنْ تَرَکَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اللّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ الْبَلاءُ، وَدُیِّثَ بِالصَّغارِ وَالْقَماءَةِ، وَضُرِبَ عَلَی قَلْبِهِ بِالْإِسْهابِ، وَأُدِیلَ الْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْیِیعِ الْجِهادِ، وَسِیمَ الْخَسْفَ، وَمُنِعَ النَّصَفَ» .

الشرح والتفسیر

لقد تعرضت الخطبة إلی فلسفة الجهاد وبرکاته فی عبارات قصیرة ذات عدة معان، إلی جانب الآثار السیئة لترک الجهاد، فقد قال بعد أن حمد اللّه وأثنی علیه «أمّا بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنّة» وبالطبع هناک عدة أسباب وردت فی الأحادیث بصفتها «أبواب الجنّة» التی تؤدی إلی نیل الرحمة والفوز بالرضوان والجنّة یکمن أهمها فی الجهاد، فقد ورد فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «للجنّة باب یقال له «باب الجهاد» یمضون إلیه فاذا هو مفتوح وهم متقلدون بسیوفهم، والجمع فی الموقف، والملائکة ترحب بهم» (1). ونعلم أنّ الجهاد فی الإسلام علی نوعین: جهاد العدو وجهاد النفس. وقد اصطلح علی الأول بالجهاد الأصغر وعلی الثانی بالجهاد الأکبر، وکل منهما باب من أبواب الجنّة.

ص:91


1- 1) الکافی 5 / 2، کتاب الجهاد، باب فضل الجهاد، ح 2. [1]

ولا یتیسر لقاء اللّه دون الجهاد الأکبر کما تتعذر العزة والرفعة فی الدنیا والآخرة دون الجهاد الأصغر. ثم قال علیه السلام «فتحه اللّه لخاصة أولیائه» . صحیح أنّ جهاد العدو والنفس یعد وظیفة جمیع المسلمین، إلّاأنّ أولیاء اللّه فقط الذین یسعهم خوض غمارهما حتی النهایة علی أساس الاخلاص والنیة الحسنة، بینما قد تکون نیات الآخرین مشوبة بالطمع ونیل الغنام أو الحصول علی الحیاة والمنصب والشهرة وبالتالی فهم لا یواصلون المسیرة إلی آخرها. فأولیاء اللّه فقط الذین یقتحمون المیدان ویصبرون علی الأذی فی حرکتهم الجهادیة فیرکعون کافة قوی الشر والظلام.

ونخلص ممّا سبق إلی عدم ورود الإشکال علی الإمام علیه السلام فی أنّه خص باب الجهاد بخاصة أولیاء اللّه بینما کتب علی جمیع المسلمین. کما نفهم من قوله علیه السلام أن من طوی مسیرة الجهاد الأصغر والأکبر فهو من خاصة أولیاء اللّه سبحانه. ثم یصف علیه السلام الجهاد فیقول «وهو لباس التقوی ودرع اللّه الحصینة، وجنته الوثیقة» ونعلم أنّ اللباس زینة للإنسان وجمال له من جانب، ومن جانب آخر فانه حافظ لبدنه من شدة الحرارة والبرودة التی تؤذیه فیما لو کان عریاناً، کا یشکل أساس عزة الأقوام والشعوب ودرعها من أنواع المخاطر والآفات؛ الأمر الذی أکده الإمام علیه السلام فی عباراته اللاحقة.

وأخیراً فالجسد العاری عرضة لأنواع الأذی موصوفاً بالقبح والشناعة، وعلیه فالأُمّة التی تولی ظهرها للجهاد هی أُمّة ذلیلة مهددة بکافة عناصر الزوال والانهیار. أمّا علة إضافة اللباس للتقوی فی العبارة فلعل ذلک یفید تعذر حفظ أصول التقوی دون توفر الأمن، کما یتعذر الأمن دون الجهاد. کما یحتمل تفسیرها علی أنّها اشارة إلی الآیة 26 من سورة الأعراف التی عدت التقوی نعمة الهیة بعد ذکر اللباس الظاهر «وَلِباسُ التَّقْوی ذ لِکَ خَیْرٌ» .

وبناءً علی هذا فالمراد هو أن لباس التقوی الذی ورد فی القرآن إنّما مصداقه الکامل هو الجهاد الذی یجعل المجتمع یعیش الأمن والأمان علی کافة المستویات (1)وهو مصدر الحسن والجمال.

ص:92


1- 1) لابدّ من الالتفات إلی أنّ الاضافة (لباس التقوی) فی التفسیر الأول من قبیل الإضافة اللامیة وفی التفسیرالثانی إضافة بیانیة.

ثم شبه الإمام علیه السلام الجهاد بالدرع الحصینة والجنّة الوثیقة، والوسیلتان من المعدات الدفاعیة فی القتال، حیث لم یکن من أمان لاولئک الذین یخوضون المعارک سابقاً ولم یتدرعوا، وهذا هو حال الاُمّة التی تترک الجهاد فهی ضعیفة خاویة تجاه ضربات العدو. ولعل هذه العبارة تشیر إلی حقیقة وهی أنّ الجهاد لا یراد به الهجوم علی الآخرین ومن أجل التوسع والسیطرة ونهب الأموال والثروات وفرض الأفکار والعقائد، لأننا نؤمن بأنّ الإسلام والقرآن إنّما یستند إلی منطق قوی یغنیه عن شهر السیف بوجه المقابل. وعلیه فانّما شرع الجهاد من أجل حفظ المجتمع الإسلامی وإزالة الموانع التی تعترض أسالیب التبلیغ والقضاء علی الموانع التی تحول دون حریة البیان.

أمّا الحروب المعاصرة فهی وإن نحت الدروع القدیمة إلّاأنّها تعتمد الیوم الوسائل التی تفوقها فی الدفاع من قبیل المدرعات والمصفحات والمواضع المحصنة، کما تلجأ إلی بعض الملابس الخاصة بغیة مواجهة الهجمات الکیمیائیة بحیث لا تتأثر من قریب أو بعید بخطر هذه الأسلحة.

جدیر بالذکر أن ما ذکر بشأن تفسیر عبارة الجهاد الأصغر (العدو الخارجی) یصدق تماماً علی الجهاد الأکبر (جهاد النفس) ؛ حیث لا طاقة للإنسان بهجمات الشیطان دون جهاده لنفسه. ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی الآثار السلبیة التی یتمخض عنها ترک الجهاد لیوجزها فی سبع نقاط، فقال: «فمن ترکه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذل» وقوله علیه السلام (رغبة عنه) إشارة إلی استثناء الأفراد من هذا الحکم ممن یمتلکون الأعذار الموجهة التی لا تجعلهم قادرین علی خوض الجهاد من قبیل العجز والمرض ونحو ذلک؛ الأمر الذی أکدته بعض الآیات القرآنیة. (1)الأثر السلبی الثانی لترک الجهاد «وشمله البلاء» فمثل هذا الفرد أو الأمّة إنّما یعتکف فی موضع أعزل یجعله عرضة لحملات الحیوانات المفترسة بحیث تدخل علیه دون أدنی مقاومة، والجهاد وحده هو الذی یشکل السد الحدیدی إزاء مثل هذا البلاء فینأی بالإنسان بعیداً عن هذه الحیوانات. أمّا الأثر السلبی الثالث فقد أشار إلیه الإمام علیه السلام بقوله «ودیث (2)بالصغار (3)

ص:93


1- 1) سورة التوبة / 91 -92.
2- 2) «دیّث» من مادة «دیث» بمعنی الذلة والهوان، ومن هنا یصطلح بالدیوث علی من لا یکترث لعفة أهله، کأنه قد ذلل حتی صار کذلک.
3- 3) «صغار» بمعنی الذلة.

والقماءة (1)» وکیف لا یعیش الذل والهوان والضعة من ضیع هذا السند العظیم؛ أی الجهاد. وصحیح أنّ العبارتین قریبتان من بعضهما بالمعنی، إلّاأنّ هناک فارقاً طفیفاً، حیث کان الکلام هناک عن الذلة وهنا عن الحقارة والضعة. فالمفهومان مختلفان إلّاأنّها من قبیل اللازم والملزوم. وأمّا المصیبة الأخری التی تطیل تارک الجهاد فهی «وضرب علی قلبه بالأسهاب» (2)فالأفراد الضعفاء والعجزة والمهزومون إنّما یعانون من الأوهام علی الدوام فلا یسعهم تقییم الحقائق کما هی. فخشیة العدو تجعلهم یعیشون فی هالة من الخیالات المرعبة، أو أنّهم یلجأون إلی بعض الخرافات من أجل تحقیق النصر کأن یتخلوا عن السیف والمقاومة ویلوذوا بالسحرة والکهنة.

وقد حفل التأریخ بنماذج حیّة لمثل هؤلاء الأفراد، الذین لا یکشفون بذلک سوی عن ضعفهم وعجزهم، بینما یتنزه المجاهدون الشجعان عن مثل هذه السفاسف.

ثم ذکر الأثر السلبی الخامس بقوله علیه السلام «وأُدیل (3)الحق منه بتضییع الجهاد» ، وذلک لأنّ الحق - کما ورد فی المثل المعروف - یؤخذ ولا یعطی. فالطواغیت وأصحاب المنطق الغاشم والمستبدون لا یفوضون الحق لأصحابه أبداً، ولابدّ من التحلی بالقوة من أجل انتزاع الحق من براثن اولئک الطغاة؛ الأمر الذی نوه له الإمام علیه السلام فی الخطبة التاسعة والعشرین بقوله «لا یدرک الحق الا بالجد» وأمّا الأثر السلبی السادس «وسیم الخسف» وبالالتفات إلی اطلاق الخسف والخسوف علی زوال نور القمر والاختفاء فی الأرض، وان «سیم» من مادة «سوم» بمعنی الحرکة إثر شیء فان مفهوم الجملة سیکون: أنّ تارکی الجهاد فی الواقع إنّما یسیرون باتجاه الزوال والانقراض؛ الأمر الذی لاحظناه بوضوح فی الأمم والبلدان التی آلت إلی السقوط والانهیار إثر تقاعسها عن الجهاد. (4)

ص:94


1- 1) «القماءة» بمعنی الصغار و الذل.
2- 2) الأسهاب ذهاب العقل أو کثرة الکلام، أی حیل بینه و بین الخیر بکثرة الکلام بلافائدة، و قدورت بهذا المعنی فی الخطبة.
3- 3) «أدیل» من مادة «دولة» ، قال صاحب المقاییس لها معنیین؛ الأول التحول و الانتقال، والآخر الضعف، وارید بها هنا المعنی الأول.
4- 4) فسرها جمع من شرّاح نهج البلاغة بالذلة والهوان علی أنّها من قبیل تکرار وتأکید العبارات السابقة، أمّا ما أوردته فی المتن فانه ورغم انسجامه مع المتون اللغویة الا أنه ینطوی علی معنی جدید یأبی التکرار، وعلیه یبدو هو التفسیر الأنسب.

ثم قال علیه السلام فی إطار ذکره للاثر السلبی السابع «ومنع النصف» (1)ودلیل ذلک واضح؛ لأنّ أتباع العدالة عادة ما یشکلون الأقلیة، ولو لم یکونوا کذلک کمیة فهم أقلیة من حیث الکیفیة والقدرة.

ومن هنا فان أصحاب السطوة یندفعون بکل ما اُوتوا من قوة لهضم حقوق الشعوب المظلومة ویسعون لمضاعفة ثرائهم وأموالهم. ولیس لهذه الشعوب من وسیلة لاستعادة حقوقها وخلاصها من براثن الظلم والاضطهاد وتحقیق العدالة الاجتماعیة سوی فی خوض غمار الجهاد. وهنا تکمن أهمیة العبارات التی أوردها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بشأن الجهاد وفلسفته ومعطیاته الایجابیة والسلبیة فیما لو تخلت عنه الشعوب والاُمم.

کما یتضح ممّا أوردنا أنّ الجهاد لم یندب بفعل الثواب المعنوی المترتب علیه، بل بسبب الآثار والمعطیات الکبیرة التی یفضی إلیها فی هذه الحیاة الدنیویة. فهل هناک من یطلب الذل والهوان ویرضی بغصب الحقوق وتضییعها وبالتالی یحث الخطی نحو الزوال والفناء؟ ! فان کان الجواب بالسلب، کان علینا أن نشدد حیازیمنا ونهب لخوض الجهاد والتحلی بالصبر والاستقامة من أجل درک معطیاته العظیمة فی الدنیا والآخرة وتحمل کافة الآلام والمصاعب کاحتمال المریض لمرارة الدواء من أجل التماثل للعافیة والشفاء.

تأمّلان

1 - الجهاد سر رفعة الشعوب وعزتها

کثر الکلام بشأن الجهاد، ولدینا المزید من الکلام بهذا الخصوص طالما توالت خطبه علیه السلام فی نهج البلاغة فی الحدیث عن هذه المسألة.

أمّا الشیء المهم الذی نود التطرق إلیه بصفته مبدأ حیویاً هو أنّ الجهاد قانون الحیاة الذی یمنحها الدوام والبقاء وأنّ الإنسان وکل کائن ینبض بالحیاة مازال مقبلاً علی الجهاد وبخلافه

ص:95


1- 1) النصف والانصاف من مادة واحدة بمعنی العدل.

یبدأ عده العکسی فی الموت والفناء. فالنبات یواجه عدة آفات یسعی للتغلب علیها من أجل البقاء حیاً، وجذور الأشجار هی الاُخری تغوص فی أعماق الأرض من أجل امتصاص الماء والأملاح فاذا ما اعترضت بعض الموانع کالصخور سعت لاختراقها ومواصلة تغلغلها فی أعماق التربة وإن عجزت عن ذلک فتشت عن طریق آخر واستمرت فی مسیرتها. وهکذا الحال بالنسبة للحشرات والحیوانات التی تواجه الأخطار التی تهدد کیانها باستمرار فتبدی مقاومتها من أجل مواصلة حیاتها. فهناک بعض الطیور التی تهاجر إلی مسافات شاسعة قد تنطلق من القطب الشمالی إلی القطب الجنوبی مقاومة کافة الظروف المحیطة بغیة مواصلة حیاتها. أمّا الإنسان فیعیش حرکة جهادیة مریرة علی مستوی أعضائه الداخلیة ودورته الدمویة، فالجنود التی تدافع عن البدن - والتی یصطلح علیها بکریات الدم البیض - طیلة عمر الإنسان إنّما تتصدی ببسالة لکافة الأعداء المتمثلین بالمکروبات والفایروسات التی تحاول اختراق بدن الإنسان عن طریق الماء والغذاء والهواء والشقوق التی تحدث فی الجلد.

وقد الهمت هذه الکریات سبل الصمود بوجه کافة الأسلحة الکیمیائیة والفیزیائیة بحیث تبیدها وتبقی علی البدن سالماً صحیحاً. فاذا ضعفت هذه الجنود لأی سبب من الأسباب وتقاعست فی وظیفتها هجمت جمیع الأمراض علی الإنسان، وما المرض الخطیر الذی یطلق علیه «الایدز» إلّانتیجة طبیعیة لاختلال عمل هذه الکریات وتوقفها عن العمل، ومن هنا فانّ المصابین بهذا المرض الخطیر إنّما یکونون عرضة للاصابة بأخطر الأمراض. وزبدة الکلام فان الجهاد رمز الحیاة وسر السعادة والسبب الرئیسی للنصر والغلبة وعامل الرفعة والعزة، لکن لیس ذلک سوی الجهاد من أجل تحقیق الحق والعدل وإلّا فلیس ذلک سوی الجریمة والظلم والعدوان.

ومن هنا تظافرت الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة بما فیها الخطبة المذکورة التی أکدت علی قضیة الجهاد بما لم تول مثل هذه الأهمیة لغیره من المفاهیم، ولاسیما الجهاد بالمعنی الأشمل الذی یتضمن الوقوف بوجه العدو الخارجی والداخلی. فقد جاء فی الحدیث الشریف عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «من ترک الجهاد ألبسه اللّه ذلاً فی نفسه وفقراً فی معیشته

ص:96

ومحقاً فی دینه» (1)ویستفاد من هذا الحدیث أن ترک الجهاد إنّما یهدد بالخطر الحیاة المعنویة للإنسان فضلاً عن حیاته المادیة. وفی حدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «إغزوا تورثوا أبنائکم مجداً» (2)کما ورد عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی قصار حکمه فی نهج البلاغة ضمن إطار بیانه لفلسفة الأحکام الشرعیة فقال: «والجهاد عزاً للإسلام» (3). وأخیراً فهناک عدة خطب شحن بها نهج البلاغة بشأن الجهاد سنعرض لها فی الأبحاث القادمة.

2 - هل الجهاد الإسلامی دفاعی فقط؟ !

منذ سنوات وقد شغل هذا السؤال أذهان الأوساط الإسلامیة بما فیها العلماء، فقد ذهبت طائفة إلی أنّ کافة غزوات رسول اللّه صلی الله علیه و آله کانت دفاعیة حذراً من اتهام الإسلام من أنّه قد انتشر بالسیف ورهبة السلاح! أو بعبارة اُخری خشیة اتهام الإسلام بالروح السلطویة والفتوحات العسکریة. وبالمقابل هناک طائفة اُخری تری أنّ الغزوات الإسلامیة علی قسمین؛ بعضها هجومیة وبعضها دفاعیة، وتری أنّ هذین القسمین حق ثابت للمسلمین الیوم، وتعتقد أنّ الإسلام موظف بتحریر المسلمین الذین یرزحون تحت نیر السلطات الظالمة؛ الأمر الذی یدخل ضمن الجهاد الهجومی، کماتری أنّ الإسلام مکلّف بتمهید السبیل أمام ممارسة الاعلام المنطقی وإزالة کافة العوائق التی تعترض هذا السبیل ولو اضطر للجوء للقوة وهذا نوع آخر من الجهاد الهجومی. کما هنالک رأی ثالث یقول أنّ طبیعة القتال فی الإسلام هی طبیعة دفاعیة، إلّاأنّ المسائل الدفعاعیة قد تجعل الهجوم ضرورة. مثلاً الدفاع عن المظلومین، أو بعبارة اُخری التدخل الإنسانی وإن کان یبدو ظاهریاً هجوماً إلّاأنّه فی

ص:97


1- 1) بحار الأنوار 98 / 9. [1]
2- 2) اصول الکافی 5 / 8.
3- 3) نهج البلاغة، الکلمات القصار، 252.

الواقع دفاع عن قوم یرزحون تحت الظلم والاضطهاد، وعلیه فالدفاع عنهم ضروری بالنسبة لکافة الأفراد من أهل الإیمان. والهجوم بالمعنی الثانی - یعنی تمهید السبیل أمام حریة الأعلام المنطقی وممارسة التبلیغات - هو الآخر دفاع تجاه بعض الموانع، فانّ الإسلام یأذن بقتال العدو إذا ما خلق بعض الموانع والعراقیل.

أمّا العبارات التی وردت فی بدایة هذه الخطبة إنّما هی دلیل واضح علی دفاعیة طبیعة الجهاد؛ فقد شبه فی موضع باللباس وفی آخر بالدرع وفی ثالث بالجنة، ونعلم بأنّ جمیع هذه الاُمور من قبیل الوسائل الدفاعیة. وأمّا العبارات القادمة فقد تضمنت إشارات إلی الهجوم الذی یختزن بعداً دفاعیاً، ومن ذلک قوله علیه السلام: «قلت لکم: اغزوهم قبل أن یغزوکم» . ویمکن أن یکون هناک استثناء واحد لهذا القانون الکلی وهو الجهاد والقتال من أجل إزالة الصنمیة والوثنیة؛ وذلک لأنّ الإسلام یری فی الوثنیة أکبر خطر یهدد المجتمع البشری من الناحیة المعنویة والمادیة، فیصرح بالجهاد من أجل القضاء علی الوثنیة فی حالة عدم جدوی التبلیغ.

لاشک أنّ بعض الطغاة والجبابرة سیستغلون مسألة الدفاع عن المظلومین أو مواجهة الانحطاط الفکری والثقافی کوسیلة للتغطیة علی أهدافهم العدوانیة والتوسعیة، إلّاأنّ ذلک لایحد من قیمة هذه المفاهیم أبداً. فاستغلال هذه المفاهیم المقدسة لیس بالشیء الجدید. وللوقوف علی أهداف الجهاد فی الإسلام یمکن مراجعة المجلد الثانی من تفسیر الأمثل، الآیة 193 من سورة البقرة.

ص:98

القسم الثانی: الموت کمداً

اشارة

«أَلا وَإِنِّی قَدْ دَعَوْتُکُمْ إِلَی قِتالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لَیْلاً وَنَهاراً، وَسِرّاً وَإِعْلاناً وَقُلْتُ لَکُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ یَغْزُوکُمْ، فَواللّهِ ما غُزِیَ قَوْمٌ قَطُّ فِی عُقْرِ دارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا. فَتَواکَلْتُمْ وَتَخاذَلْتُمْ حَتَّی شُنَّتْ عَلَیْکُمُ الْغاراتُ وَمُلِکَتْ عَلَیْکُمُ الْأَوْطانُ.

وَ هَذا أَخُو غامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَیْلُهُ الْأَنْبارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسّانَ بْنَ حَسّانَ الْبَکْرِیَّ وَأَزالَ خَیْلَکُمْ عَنْ مَسالِحِها، وَلَقَدْ بَلَغَنِی أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ کانَ یَدْخُلُ عَلَی الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَی الْمُعاهِدَةِ فَیَنْتَزِعُ حِجْلَها وَقُلُبَها وَقَلائِدَها وَرُعُثَها، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالِاسْتِرْجاعِ وَالِاسْتِرْحامِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وافِرِینَ ما نالَ رَجُلاً مِنْهُمْ کَلْمٌ، وَلا أُرِیقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا کَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ کانَ بِهِ عِنْدِی جَدِیراً» .

الشرح والتفسیر

بعد أن فرغ الإمام علیه السلام من تلک المقدمة المقتضبة، تطرق إلی نموذج بارز من الافرازات المشؤومة لترک الجهاد فقال علیه السلام: «ألا وإنی قد دعوتکم إلی قتال هؤلاء القوم لیلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً وقلت لکم: اغزوهم قبل أن یغزوکم» یذکر الإمام علیه السلام بأنّه أشار إلی طبیعة هؤلاء الظلمة المردة الذین ینطوون علی الروح العدائیة التی تبرز علی السطح إذا ما سنحت الفرصة فلا یتورعون عن قتل الأبریاء وسبی النساء ونهب الأموال والثروات، وعلیه فان العقل والشرع یجیز الوقوف بوجه هؤلاء الطغاة وقبر مؤامراتهم فی مهدها وکسر شوکتهم

ص:99

وإخماد فتنهم قبل أن یتأهبوا للقتال والعدوان.

ثم یعرض علیه السلام الدلیل علی ما أورده فقال: «فواللّه ما غزی قوم فی عقر (1)دارهم إلا ذلولاً» . ومن الواضح أن من یتعرض للهجوم فی عقر داره إنّما یفقد معنویاته ویشعر بالهزیمة والفشل فی نهایة الأمر من جانب آخر فانّ المهاجم الذی یتعرض إلی قوم فی عقر دارهم لا یفکر أبداً فی حفظ حرمة الدار، بل یدمر کل شیء فیها، أضف إلی ذلک فان مثل هذه الدار تصبح مسرحاً للقتال؛ الأمر الذی یؤدی إلی سفک دماء من فیها بما فیهم الصبیة والنساء، وعلیه فان مثل هذه الاُمور تشکل بمجموعها العناصر التی تؤدی إلی هزیمة القوم الذین یتعرضون للهجوم فی عقر دارهم. ومن هنا ورد التأکید علی المقاتلین فی کافة الغزوات الإسلامیة (باستثناء بعض الغزوات والمعارک التی اکتنفتها بعض الظروف والملابسات کمعرکة الأحزاب) بترک المدن والتصدی للأعداء خارجها. ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة «فتواکلتم (2)وتخاذلتم حتی شنت (3)علیکم الغارات وملکت علیکم الأوطان» . التواکل یعنی إیکال کل فرد عمله إلی آخر، بعبارة اُخری هو تخلی الفرد عن مسؤولیته والقائها علی عاتق الآخرین بحیث تخلو الساحة. والتخاذل یعنی عدم مد ید العون إلی الآخرین، بما یؤدی فی خاتمة المطاف إلی تصدع عری الاتحاد، بحیث لا یشعر العدو بأی رادع أو مانع یحول دون شنه لهجماته، وهذه أحد أبشع الصفات التی تسود المجتمعات البشریة بحیث یتقاعس کل فرد عن مسؤولیته ویقلدها ربقة الآخرین وینهمک کل فی شؤونه الشخصیة دون أن یوفر الدعم والإسناد لأخیه إذا ما تعرض لحملات الأعداء المسعورة، فلا یؤدی ذلک سوی إلی تلک النتیجة التی خلص إلیها الإمام علیه السلام فی أنّ العدو سیری المیدان مفتوحاً أمامه فیشن حملاته - لتسقط المدینة تلو الأخری دون أن یجابه بأدنی مقاومة. ثم یستشهد الإمام علیه السلام بمثال حی متطرقاً إلی واقعة الغامدی فیقول: «وهذا أخو غامد وقد وردت خیله الأنبار وقد قتل حسان بن حسان البکری وأزال خیلکم عن

ص:100


1- 1) «عقر» علی وزن ظُهر بمعنی أساس الشیء وأصله ومنه عقر الناقة، وذلک لزوال أساس الناقة بحیث تفقدتوازنها وتقع علی الأرض.
2- 2) «تواکلتم» من مادة «وکل» ، وکل کل منکم الأمر إلی صاحبه، أی لم یتوله أحد منکم، بل أحاله کل علی الآخر.
3- 3) «شنت» من مادة «شن» ، وشنت الغارات مزقت علیکم من کل جانب کما یشن الماء متفرقاً دفعة بعد دفعة. والعبارة إشارة إلی الغارات المتوالیة التی کان یشنها علیهم الشام.

مسالحها» . ویبدو أنّ الأنبار کانت منطقة حدودیة عراقیة متاخمة للشام، لأنّ مسالح جمع مسلحة تعنی الحدود والثغور - وذلک لأنّ الأسلحة تجمع هناک لتستخدم فی الدفاع عن الحدود - وقوله علیه السلام: «أزال خیلکم عن مسالحها» تفید اجتیاز العدود لهذه الحدود دون مقاومة وقد مرّ علینا شرح ذلک. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی الجنایات التی ارتکبها الغامدی بحق أهل الأنبار من المسلمین والمجاهدین من أهل الکتاب الذین ینبغی الدفاع عنهم من قبل الدولة الإسلامیة، فقال علیه السلام: «ولقد بلغنی أنّ الرجل منهم کان یدخل علی المرأة المسلمة، والأخری المعاهدة فینتزع حجلها (1)وقلبها (2)وقلائدها (3)ورعثها (4)ما تمتنع منه إلّا بالاسترجاع والاسترحام» ، فالإمام علیه السلام أشار بوضوح إلی أنّ أحداً من المسلمین لم یهب للدفاع عن هذه النسوة المسلمات أو تلک المعاهدات. أمّا الاسترجاع فقد فسرّه بعض شرّاح نهج البلاغة بالبکاء المصحوب بالعویل فی حین فسره البعض الآخر بکلمة «إنا للّه وإنا إلیه راجعون» التی تقال عادة عند النوائب والشدائد التی یتعرض لها الإنسان. ثم قال علیه السلام «ثَّم انصرفوا وافرین مانال رجلاً منهم کلم ولا أریق لهم دم» آنذاک یخلص علیه السلام إلی هذه النتیجة «فلو أن أمراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً، بل کان به عندی جدیراً» فقد کشف الإمام علیه السلام عن عمق اللوعة التی کانت تعتلج فی صدره مستغرباً ما حدث، کیف یضعف المسلمون إلی هذه الدرجة ولا تهتز لهم قصبة تجاه هذه الحملات المروعة التی أهلکت الحرث والنسل وقد طالت الأموال والأنفس والأعراض، وقد رجع المهاجمون غانمین سالمین دون أن یتکبدوا أیة خسارة! أجل لا یسع المسلم الغیور تحمل مثل هذه الحادثة المأساویة قط، بل لو مات کمداً من جرائها لما کانت علیه من لائمة. والجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام لم یفرق بین المرأة المسلمة والمعاهدة لما تعرضت له من انتهاک الحرمة والتطاول علی حلیها ووسائلها، کما یکشف عن مدی ضرورة التزام الدولة الإسلامیة بالدفاع عن حقوق الأقلیات الدینیة التی تعیش ضمن المجتمع الإسلامی، مع ذلک فان غرض الإمام علیه السلام کان یکمن فی تصویر عمق

ص:101


1- 1) «حجل» علی وزن فعل و «حجل» علی وزن فَصل بمعنی الخلخال التی تزین به النساء العربیات أرجلهن.
2- 2) «قلب» بضمتین جمع قلب بالضم فسکون بمعنی السوار المصمت وتعنی فی الأصل التغییر.
3- 3) «قلائد» جمع «قلادة» علی وزن اجارة، تطلق علی کل شیء یحیط بآخر.
4- 4) «رعث» بضم الراء والعین جمع «رعث» علی وزن رأس ما تعلقه المرأة [1]من الزینة فی أذنها.

الفاجعة المأساویة. وبالطبع فان هذا الکلام لا یختص بزمان دون آخر، کما لا یقتصر علی هجوم جیش معاویة علی الأنبار، بل یتضمن قاعدة کلیة یجب أن تسود الحیاة الإسلامیة علی الدوام. وکأنّی بالإمام علیه السلام قد خاطب بهذه العبارات کافة المسلمین الذین یتعرضون الیوم لأبشع هجمات الشرق والغرب التی تنوی السیطرة علی أموالهم وثرواتهم ومسخ قیمهم وضرورة التصدی لهم والدفاع عن حیاض بلدانهم، بحیث لو مات أحدهم غصة وکمداً لما یرتکبه العدو الطامع من جرائم وجنایات لما کان ملوماً بل کان جدیراً.

تأمّلات

1 - معادلات الهزیمة والانتصار

لقد أشار الإمام علیه السلام من خلال بصیرته الثاقبة وروحه السامیة وخبرته الوافیة فی میادین الحرب والقتال إلی العناصر المهمّة التی تقف وراء الهزیمة والانتصار والتی ینبغی أن یجعلها المسلمون نصب أعینهم من أجل دحر الأعداء والحفاظ علی بیضة الإسلام. فقد تطرق الإمام علیه السلام إلی أخلاء الساحة أمام العدو ومنحه الفرصة بشن هجماته بفضلها تشکل أحد عوامل الفشل والانهزام؛ الأمر الذی لا یختلف علیه إثنان وقد خضنا فی تفاصیله سابقاً.

العامل الآخر التواکل (بمعنی وکل کل الأمر إلی صاحبه، أی لم یتوله أحد بل أحاله کل علی الآخر) . فلو قام کل فرد فی المجتمع بوظیفته ولم یحمل الآخرین مسؤولیة أعماله لما کان هناک من مجال للفشل والهزیمة، بینما لیس هنالک من سبیل للهروب من الفشل والهزیمة المنکرة أمام العدو اذا ما تخلی کل فرد عن مسؤولیاته ووظائفه وأوکلها إلی الآخرین من أفراد المجتمع.

العامل الثالث التخاذل بمعنی ترک الآخرین ومشاکلهم دون معونتهم ومساعدتهم، فاذا تعرضت منطقة إلی غارة أو غزوة لم تنجدها سائر المناطق. وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی الخطبة 166 «أیا الناس! لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحق ولم تهنوا عن توهین الباطل لم یطمع فیکم من لیس مثلکم ولم یقو من قوی علیکم» .

2 - حمایة الأقلیات الدینیة

ص:102

لعل البعض یتصور أن قضیة احترام الأقلیات الدینیة التی تعیش فی کنف الإسلام وتکفل بحفظ أموالها وأرواحها إنّما هی شعار لا یرقی إلی العمل والتطبیق، إلّاأنّ أدنی نظرة إلی الفقه الإسلامی فی کیفیة تعامله مع أهل الذمة وکلمات المعصومین علیهم السلام بما فیها کلام الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة، تکشف بجلاء أنّ الإسلام یری نفسه السند والدعم الحقیقی لهم ما دامهم لم ینقضوا العهود ویشهروا السلاح ضد الإسلام والمسلمین، وعلیه فأموالهم وأرواحهم محترمة ومحفوظة. فقد أعرب الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عن بالغ حزنه وأسفه لما تعرضت له المرأة الیهودیة أو النصرانیة التی تعیش کمواطنة فی المجتمع الإسلامی ولم یفرق بینها وبین المرأة المسلمة قط، ثم ذم أهل العراق ووبخهم علی ما أبدوه من ضعف وعجز حیال العدو وعدم الدفاع عن هذه النساء.

3 - الغیرة الدینیة

المراد بالغیرة الدینیة الحساسیة تجاه أی خروج عن مسار الحق والعدل وتجاهل الأحکام الشرعیة والتعامل بشدة وصرامة مع هذه الحالة بما یتناسب وحجمها والابتعاد عن اللامبالاة، ویفتقر لهذه الغیرة کل من تعامل ببرود مع هذه الاُمور ولم یبد أیة حساسیة تجاهها. وقد صرح القرآن الکریم بخصوص بعض المقاتلین المؤمنین الذین لا یمتلکون المعدات التی تؤهلهم للاشتراک فی المعارک قائلاً «وَلا عَلی الَّذِینَ إِذا ما أَتَوْکَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُکُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْیُنُهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَ لّایَجِدُوا ما یُنْفِقُونَ» (1).

فالآیة تشیر إلی مسألة تجعل الأفراد الذین لا یمتلکون الوسائل المطلوبة فی القتال وتحول دون التحاقهم بصفوف المقاتلین یتحولون إلی دموع غزیرة؛ القضیة لا یمکن تفسیرها سوی بالغیرة الدینیة. وقد أشارت الخطبة إلی أحد مظاهر هذه الغیرة، حین قال علیه السلام: «فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً، بل کان به عندی جدیراً» . فالغیرة تشکل أحد العوامل المهمّة من أجل الدفاع عن حریم القوانین الإسلامیة وإحیاء الأمر بالمعروف

ص:103


1- 1) سورة التوبة / 92. [1]

والنهی عن المنکر. فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام عن بعض أصحابه قال: إنّ اللّه بعث ملکین إلی أهل المدینة لیقلباها علی أهلها فلما انتهیا إلی المدینة وجدا رجلاً یدعو اللّه ویتضرع إلیه، فقال أحدهما للآخر: أماتری هذا الداعی فقال: قد رأیته ولکن أمضی لما أمرنی به ربی فقال: ولکنی لا أحدث شیئاً حتی أرجع إلی ربّی، فعاد إلی اللّه تبارک وتعالی فقال: یا ربّ إنی إنتهیت إلی المدینة فوجدت عبدک فلاناً یدعوک ویتضرع إلیک فقال: إمض لما أمرتک فان ذلک رجل لم یتغیّر وجهه غضباً لی قط. (1)

ج ج

ص:104


1- 1) بحار الأنوار 97 / 64 ح 60. [1]

القسم الثالث: الاجتماع علی الباطل والفرقة عن الحق

اشارة

«فَیا عَجَباً! عَجَباً - وَاللّهِ - یُمِیتُ الْقَلْبَ وَیَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِماعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَی باطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِکُمْ عَنْ حَقِّکُمْ! فَقُبْحاً لَکُمْ وَتَرَحاً، حِینَ صِرْتُمْ غَرَضاً یُرْمَی: یُغارُ عَلَیْکُمْ وَلا تُغِیرُونَ وَتُغْزَوْنَ، وَلا تَغْزُونَ وَیُعْصَی اللّهُ وَتَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُکُمْ بِالسَّیْرِ إِلَیْهِمْ فِی أَیّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِهِ حَمارَّةُ الْقَیْظِ؛ أَمْهِلْنا یُسَبَّخْ عَنّا الْحَرُّ. وَإِذا أَمَرْتُکُمْ بِالسَّیْرِ إِلَیْهِمْ فِی الشِّتاءِ، قُلْتُمْ: «هَذِهِ صَبارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنا یَنْسَلِخْ عَنّا الْبَرْدُ! کُلُّ هَذا فِراراً مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ فَإِذَا کُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ تَفِرُّونَ؛ فَأَنْتُمْ - وَاللّهِ - مِنَ السَّیْفِ أَفَرُّ!» .

الشرح والتفسیر

یتناول الإمام علیه السلام بالتحلیل العوامل الاُخری لتقهقر أهل الکوفة وتراجعهم إلی جانب ذمهم ولومهم، بما یوقظ ضمائرهم ویدفع بهم باتجاه الصمود بوجه العدو والحؤول دون تسلله إلی البلاد، فقد قال علیه السلام «فیا عجباً (1)عجباً - واللّه - یمیت القلب ویجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم علی باطلهم، وتفرقکم عن حقکم» . إنّما یکون التعجب والاندهاش حیث الاُمور التی تخرج عن المسار الطبیعی أو تکتنفها العوامل المجهولة أو غیر المألوفة؛ الأمر الذی یطالب أنصار الحق ویوازع من إیمانهم القوی بالدفاع والصمود والمقاومة، بینما یقف أتباع الباطل

ص:105


1- 1) یا عجباً عجباً، قال بعض شرّاح نهج البلاغة أن العبارة «فیا عجباً عجباً» أصلها «عجبت عجباً. . .» ؛ أی منصوبةعلی أنها مفعول مطلق. کما احتمل أن تکون عجباً الأولی من قبیل المفعول المطلق والثانیة للتکرار والتأکید (شرح نهج البلاغة لابن میثم 2 / 36) [1] وقال البعض تقدیرها «یا عجبی احضر» (شرح نهج البلاغة للعلامة الخوئی 3 / 392) ویبدو هنا التفسیر أنسب لأن تکون «عجباً» منادی.

مکتوفی الأیدی وعدم الدفاع عن الحق لافتقارهم للدوافع التی تؤدی إلی ذلک الدفاع، ومن هنا فاذا شوهد أصحاب الحق یعیشون الفرقة والاختلاف وضعف الإرادة، بینما تحکم الوحدة والأخاء أتباع الباطل، فان ذلک مدعاة للذهول والعجب. فإمام أهل العراق هو علی بن أبی طالب علیه السلام الذی نص رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی ولایته إلی جانب مبایعته من قبل أهل المدینة ومکة من المهاجرین والأنصار وسائر المسلمین من المناطق الإسلامیة، کما کانت دلائل أحقیته من زهد وعلم وفضیلة وعدالة واضحة للجمیع، بینما کان إمام الشام معاویة المعروف بطغواه وحبه للجاه والمنصب وسوابقه المشینة فی الإسلام والجاهلیة والتی لم تکن خافیة علی أحد، أفلیس من العجب أن یهب أهل الشام لنصرة باطلهم ویقفون بوجه الحق، وینفرج أهل الحق عن الإمام علیه السلام فینقضون میثاقهم وینکثون بیعتهم؟ ! ومن هنا اشتد استیاء الإمام علیه السلام علیهم فجعل یذمهم ویلومهم، بعد أن جعلوا أنفسهم فی هذه الحالة المزریة «فقبحاً لکم وترحاً (1)حین صرتم غرضاً یرمی، یغار علیکم ولا تغیرون، وتُغزون ولا تَغزون، ویعصی اللّه وترضون» . فالواقع یوجز الإمام علیه السلام ما یدعوه لذمهم فی أمر واحد یکمن فی الضعف والتواکل والخذلان إلی الحد الذی یمنح الأعداء الجرأة فی شن الحملات تلو الحملات والغارات تلو الغارات فیسفکون دماء الأبریاء، ولیس لهؤلاء من ردود فعل سوی الصمت والسکوت تجاه هذه المجازر المروعة!

ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی دلیل آخر دعاه لذم هؤلاء والذی أدی بهم إلی ذلک الضعف والذی یکمن فی التعلل بحر الجو وبرودته التی لا تلعب دوراً فی القتال، فقال علیه السلام: «فاذا أمرتکم بالسیر إلیهم فی أیام الحر قلتم هذه حمارة (2)القیظ (3)؛ أمهلنا یسبخ (4)عنا الحر. وإذا أمرتکم بالسیر إلیهم فی الشتاء، قلتم: هذه صبارة (5)القر، أمهلنا ینسلخ (6)عنا البرد؛ کل

ص:106


1- 1) «ترحاً» تعنی الحزن والغم فقد دعا علیهم الإمام علیه السلام بهذه العبارة بالحزن والهم.
2- 2) «حمارة» من مادة «حمر» بمعنی اللون الأحمر، ویطلق علی شدة حرارة الصیف المحرقة، وکأن شدةالحرارة کحمرة النار.
3- 3) «قیظ» علی وزن فیض بمعنی الحرارة الشدیدة للصیف، وعلیه فاضافة حمارة إلی قیظ تأکید للحرارة.
4- 4) «یسبخ» من مادة «سبخ» بمعنی التخفیف والتسکین.
5- 5) «صبارة» من مادة «صبر» بمعنی حبس الشیء وحفظه، وتطلق الصبارة علی شدة البرودة.
6- 6) «ینسلخ» من مادة «سلخ» بمعنی إزالة القشر ومن هنا یطلق السلاخ علی من یزیل جلد الحیوان، ثم اطلقت علی کل فصل وإزالة.

هذا فراراً من الحر والقر (1)، فاذا کنتم من الحر تفرون، فأنتم - واللّه - من السیف أفر!» .

وکأنّ المیدان لا یصلح للقتال إلّافی أیّام الربیع وفی ظل الأرض المخضرة والحشائش النظرة والطیور المغردة والمیاه المتدفقة، فیدحر الجند أعدائهم بعصا سحریة دون الحاجة إلی العدة والعدد.

وکأن هؤلاء الجهال قد تناسوا تأریخ الإسلام رغم عدم مرور فترة علیه بحیث زحف النبی صلی الله علیه و آله بصحبه من المدینة إلی تبوک بعد أن قطعوا تلک المسافة الشاسعة خلال الصحراء الجرداء وفی ظل حرارة الشمس المحرقة علی تلک الرمضاء ولم یکن لدیهم ما یکفی من الماء والغذاء، وهکذا تحملوا سائر الصعاب والمعضلات فی الحروب والغزوات لیقفوا کاللیوث أمام الأعداء من خصوم الدعوة، ولو کانوا یأتون ما أتی جیش الکوفة ویتعللون بما تعللوا به لما نمت شجرة الإسلام ولا اخضر لها عوداً، بل لم یکتب النصر لأی جیش فی العالم حین یعیش الجنود حالة من الضعف والوهن والجبن، ولم یکن نصیبهم سوی الفشل والهزیمة والذلة والهوان. والواقع أنّ کلام هؤلاء لیشبه ما قاله الکفار والمنافقون من قبل فی صدر الإسلام «لا تنفروا فی الحر» فرد علیهم القرآن بالقول «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ کانُوا یَفْقَهُونَ» (2). فأهل الکوفة کانوا یریدون بهذه الأعذار الواهیة التهرب من مواجهة العدو وقتاله، حیث تسرب إلیهم النفاق بفعل ضعف ایمانهم بمبادئ الإسلام وإمامهم علی بن أبی طالب علیه السلام.

علی کل حال فانّ المجاهدین الحقیقیین الذین یقتحمون المیدان ویخوضون غمار الجهاد ویسطرون الانتصارات إنّما هم اُولئک الذین لا یبالون بمصاعب الطقس والمناخ ولا یکترثون إلی مشاکل الطریق وتحمل العناء فی هذا المجال، وممّا لاشک فیه ان العدو اذا شعر بأنّ خصمه یتحفظ عن القتال بسبب بعض المشاکل الطبیعیة من قبیل حرارة الجو وبرودته فانّه سیستغل هذا الأمر کنقطة ضعف ویوظفها لصالحه بشن الحرب أملاً بتحقیق الانتصار.

ص:107


1- 1) قر له معنیان؛ الأول البرد والثانی الاستقرار فی مکان، ولا یبعد أن یعود المعنی الأول إلی الثانی، لأنّ البرد الشدید یصد الإنسان عن العمل.
2- 2) سورة التوبة / 81. [1]

تأمّل: علة هذا الذم

إنّ أدنی نظرة إلی کلام أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی هذه الخطبة تثیر السؤال التالی: لم کل هذا الذم من الإمام علیه السلام لأهل الکوفة حتی خاطبهم لاحقاً «لوددت أنی لم أرکم ولم أعرفکم معرفة واللّه جرت ندماً وأعقبت سدماً، قاتلکم اللّه لقد ملأتم قلبی قیحاً وشحنتم صدری غیظاً وجر عتمونی نغب التهام أنفاساً، وأفسدتم علی رأیی. . .» . ولعل أدنی نظرة إلی تأریخ الکوفة وأهلها ونقض المواثیق ونکث البیعة والنفاق والضعف والوهن الذی سادها تفسر لنا فلسفة هذا الذم القاسی والشدید. وکأنّ الإمام علیه السلام سلک السبیل الأخیر الذی من شأنه علاج مرضهم العضال حیث لم تعد لهم حساسیة تجاه أی شیء، فقد لجأ الإمام علیه السلام إلی هذا الاسلوب لعله یثیر ما تبقی لدیهم من مشاعر وأحاسیس تجاه عدوهم، وقد أثبتت الدراسات أنّ هذا الاُسلوب عملی جداً تجاه بعض الأفراد من الناحیة النفسیة. فهذه الکلمات فی الواقع تشیر إلی مدی الیأس من تلک العناصر الضعیفة الهزیلة التی لم تجد معها النصائح والمواعظ أیة فائدة. بل الأعجب من ذلک أنّ کل هذه الکلمات اللاذعة لم تتمکن من إثارة یقظة وجدانهم، بحیث لم یلتحق به إلّاالنفر القلیل حین تجهز للقاء الأعداء، ممّا اضطره إلی دعوة اُولئک الأفراد الذین کانوا یقطنون القری والمناطق المتاخمة لأطراف الفرات ویعبئها للقاء العدو. ولعل حالة أهل الکوفة تشبه إلی حد بعید تلک الحالة التی سادت بنی اسرائیل حین حرضهم نبیّهم موسی علیه السلام علی قتال عدوهم وتحریر بیت المقدس، فقد ردوا علیه بالقول: «قالُوا یا مُوسی إِنَّ فِیها قَوْماً جَبّارِینَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّی یَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ یَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ. . . فَاذهَبْ أَنْتَ وَرَبُّکَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ» (1)

ج ج

ص:108


1- 1) سورة المائدة / 22 - 24. [1]

القسم الرابع: إدماء القلب

اشارة

«یا أَشْباهَ الرِّجالِ وَلا رِجالَ! حُلُومُ الْأَطْفالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الْحِجالِ! لَوَدِدْتُ أَنِّی لَمْ أَرَکُمْ وَلَمْ أَعْرِفْکُمْ مَعْرِفَةً - وَاللّهِ - جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعْقَبَتْ سَدَماً، قاتَلَکُمُ اللّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِی قَیْحاً وَشَحَنْتُمْ صَدْرِی غَیْظاً وَجَرَّعْتُمُونِی نُغَبَ التَّهْمامِ أَنْفاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَیَّ رَأْیِی بِالْعِصْیَانِ وَالْخِذْلانِ حَتَّی لَقَدْ قالَتْ قُرَیْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِی طالِبٍ رَجُلٌ شُجاعٌ وَلَکِنْ لا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَها مِراساً، وَأَقْدَمُ فِیها مَقاماً مِنِّی؟ لَقَدْ نَهَضْتُ فِیها وَما بَلَغْتُ الْعِشْرِینَ، وَها أَنا ذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَی السِّتِّینَ وَلَکِنْ لا رَأْیَ لِمَنْ لا یُطَاعُ!» .

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام خطبته بصب جام غضبه علی أولئک الأفراد الضعاف الذین تواکلوا وتقاعسوا عن إداء وظائفهم عله یثیر حفیظتهم فیلتفتوا إلی عظم المخاطر التی کانت تتربص بهم، ولاسیما أهل الشام الذین کانوا یشنون علیهم الغارات تلو الغارات دون أن یتورعوا عن سفک دمائهم وانتهاک حرماتهم وسلب أموالهم، حیث بالغ علیه السلام هذه المرة فی ذمهم فخاطبهم قائلاً: «یا أشباه الرجال ولا رجال» یامن یعیشون آمال الأطفال فیسرع فیهم الخداع «حلوم (1)الأطفال» ویامن یحملون عقول ربات الحجال من العرائس اللائی لا یفکرن سوی برغد العیش ووسائل الزینة «وعقول ربات (2)الحجال (3)» فقد وبخهم الإمام علیه السلام فی العبارة

ص:109


1- 1) «حلوم» من مادة «حلم» بمعنی ضبط النفس وقد وردت هنا بمعنی الآمال الفارغة الشبیهة بأحلام الأطفال.
2- 2) «ربات» جمع «ربة» صاحب الشیء ومالکه، واستناداً إلی تاء التأنیث فانّها تستعمل فی المؤنث.
3- 3) «حجال» جمع «حجلة» وصحیحه حجلة علی وزن عجلة وهی القبة، موضع یزین بالستور، والمراد بربات الحجال النساء.

الأولی بعدم امتلاکهم الشجاعة والحمیة والغیرة والمروءة والرجولة التی کانوا یتمتعون بها ظاهریاً ولم یکن لهم من معانیها شیئاً علی مستوی العمل. ثم اندفع فی ذمهم أکثر لیخاطبهم بقوله: «لوددت أنی لم أرکم ولم أعرفکم معرفة - واللّه - جرت ندماً وأعقبت سدماً» . فالتأریخ یشهد بأنّ ثمرة علاقة أهل الکوفة والعراق بالإمام علیه السلام طیلة فترة خلافته لم تکن سوی الهم والغم الذی تمخض عن ضعفهم ونقضهم العهود وتفرقهم عن الحق وتلبسهم بالنفاق والریاء، فکان من الطبیعی أن یتمنی الإمام علیه السلام عدم رؤیتهم والتعرف علیهم، حتی دعا علیهم «قاتلکم اللّه (1)فقد ملأتم قلبی قیحاً وشحنتم صدری غیظاً وقد جرعتمونی الهموم غصة بعد غصة، فجعلتمونی غرضاً لسهام الأعداء، حتی ذهبت بهم المذاهب أنی رجل شجاع، بینما لیست لی من درایة بالحرب «قاتلکم اللّه لقد ملأتم قلبی قیحاً وشحنتم صدری غیظاً وجرعتمونی نغب (2)التهمام (3)أنفاساً، وأفسدتم علی رأیی بالعصیان والخذلان حتی لقد قالت قریش: إن ابن أبی طالب رجل شجاع ولکن لا علم له بالحرب» . عادة ما تعزی الاُمم والشعوب ضعفها وتخلفها وفشلها إلی قلّة تدبیر زعمائها، بینما قد تکون القضیة بالعکس؛ أی أنّ الزعیم شخصیة کفوءة بینما تعیش الأمّة حالة من التخلف الفکری والثقافی والاجتماعی؛ الأمر الذی یعتبر مأساة حقیقیة بالنسبة للزعیم والقائد الناجح الذی یبتلی بمثل هذه الجماعة المسلوبة الإرادة، وممّا یؤسف له أنّ مسؤولیة النتائج المریرة التی تفرزها طبیعة هذه المسیرة قد یلقیها الناس علی عاتق ذلک الزعیم.

ثم یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالرد علی قریش التی تخرصت بعدم علم الإمام علیه السلام بفنون القتال والحرب رغم شجاعته وبسالته:

«للّه (4)أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراساً (5)وأقدم فیها مقاماً منی» . فقد اقتحمت

ص:110


1- 1) لابد من الالتفات هنا الی ان التعبیر بقتالکم الی انهم کانوا فی مقام محاربة الله و احکامه، و انهم لا محالة ملعونین مطرودین من رحمة الله _و من هنا فان اغلب المفسرین ذهبوا الی ان الایه 30 من سوره التوبه ( [1]قاتلهم الله) تعنی الطرد من رحمه الله (انظر المفردات للراغب و نشر طوبی للمرحوم العلامه الشعرانی) .
2- 2) «نغب» جمع «نغب» علی وزن لقمه بمعنی شربه الماء کجرعه و جرع و قد شبه هنا الحزن بالماء المر الذی شربه الامام جرعه جرعه.
3- 3) «التهام» من مادة «همم» بمعنی الهم، و یستعمل هداالوزن عاده بمعنی المصدر مثل تکرار و تذکار.
4- 4) «لله ابوهم» تقال هذه العباره للمدح، کما تطلق فی بعض الاحیان للتعجب، و مفهومها رحم الله والدیهم.
5- 5) «مراساً» و «ممارسة» بمعنی واحد، أی عالجه وزاوله وعاناه.

میادین الحرب وأنا ابن العشرین وها أنا ذا أخوض غمارها وقد ناهزت الستین من عمری (وعلیه فقد مارست تجربة ضخمة فی الحروب کقائد لمدّة أربعین سنة) ولکن ماذا عسانی أن أفعل ولیس هنالک من یطیع «لقد نهضت فیها وما بلغت العشرین، وها أنا ذا قد ذرفت (1)علی الستین! ولکن لا رأی لمن لا یطاع» .

تأمّلات

1 - الاتباع الطلحاء والقادة الأکفاء

لاشک أنّ معادلات الهزیمة والانتصار لیست عبثیة، وأنّ اولئک الذین ینسبون النصر أو الهزیمة إلی بعض الأسباب المجهولة والعوامل الغامضة من قبیل المصادفة والحظ إنّما یسعون للقرار من الحقائق المریرة والابتعاد عن تحلیلها والوقوف علی کنهها. وعادة ما تذهب التحلیلات إلی أنّ العامل الأصلی الذی یکمن وراء النصر والهزیمة إنّما یتمثل بقدرة القیادة وحکمتها فی إدارة شؤون الأمُة، بینما تکون القضیة معکوسة فی بعض الحالات، فقد تتحلی القیادة بالقوة والاقتدار وارتفاع المعنویة والاحاطة بفنون الإدارة والتعامل مع الاحداث؛ الأمر الذی یفید بما لا یقبل الشک أنّ العنصر الذی یقف وراء الهزیمة إنّما یتمثل بالاتباع الضعفاء الذین لا یتحلون بالارادة إلی جانب سذاجتهم وقلّة تجربتهم بما یجعل من المتعذر علیهم مواکبة قیادتهم فی ادراک الأهداف فضلاً عن تطبیقها فی الواقع، وهنا تتلاشی قدرة الزعیم الکفوء فی ظل فساد وانحراف مثل هؤلاء الأتباع؛ الأمر الذی یؤرق فکر القائد ویقض مضجعه. وهذا هو السر فی تلک الکلمات الشدیدة التی أطلقها الإمام علیه السلام بحق أهل الکوفة، فقد بلغت الفرقة والشقاق والنفاق حداً جعل حتی أصحاب الإمام علیه السلام - فضلاً عن أعدائه - من اُولئک الذین شهدوا بطولات الإمام علیه السلام وصولاته فی الغزوات الإسلامیة یتهمونه بعدم العلم بفنون القتال! فما کان منه علیه السلام إلّاأن ذکرهم بتأریخه المشرق ومواقفه المشهورة التی تنکفی فیها

ص:111


1- 1) «ذرفت» من مادة «ذرف» بمعنی سیل الدمع، وقد وردت هنا بمعنی زدت علی الستین.

الأبطال؛ لقد نهضت بأمر القتال ولم أبلغ العشرین وقد ذرفت الآن علی الستین، فکیف اُتهم بعدم العلم بالحرب؟ نعم قد بلیت باتباع بعیدین عن الانضباط من أهل الهوی والطیش الذین یتصرفون علی ضوء ما تملیه علیهم أهوائهم، وعلیه فلیست هنالک من نتیجة سوی الهزیمة والفشل. وأفضل شاهد علی ذلک النتیجة المریرة لمعرکة صفین والخدعة التی عمد إلیها معاویة وعمرو بن العاص فی حمل المصاحف علی أسنة الرماح، والأنکی من کل ذلک قضیة التحکیم وترشیح أبی موسی الأشعری وفرضه علی الإمام علیه السلام. فیکاد یجمع الجمیع الیوم بما فیهم المحققون وغیرهم أنّ النصر أصبح قاب قوسین أو أدنی فی صفین لولا حالة النفاق والفرقة والعصیان التی دبت فی جیش الإمام علیه السلام ولما وقعت تلک الأحداث التی سود بها الأمویون وجه التأریخ ومن هنا تعتبر موقعة صفین من أقسی الأحداث التی شهدها التأریخ الإسلامی وبالذات سیرة الإمام علی علیه السلام. ولیت ذلک الأمر اقتصر علی زمان علی علیه السلام، بل مازال هنالک الیوم الکثیر من الجهال الذین یشککون فی السیاسة الحربیة لأمیر المؤمنین علیه السلام وکیفیة إدارة شؤون البلاد، وما هذا إلّادلیل صارخ علی عمق مظلومیة الإمام علیه السلام، الإمام علیه السلام الذی جعل التأریخ یدین بالفضل لذلک العهد العظیم الذی عهده لعامله علی مصر مالک الأشتر فی کیفیة إدارة شؤون البلاد، فما زالت مبادئه وأسسه قائمة فاعلة رغم مرور أربعة عشر قرناً علیه، لیکون ذلک العهد مصداقاً لقوله سبحانه «کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِی السَّماءِ * تُؤْتِی أُکُلَها کُلَّ حِینٍ بِإِذنِ رَبِّها» (1). فقد أذعن العدو والصدیق لعمق الأصول والتعالیم التی أوردها الإمام علیه السلام فی نهج البلاغة والتی تمثل عمق سیاسة الإمام علیه السلام، مع ذلک ینبری هذا وذاک من الحین إلی الآخر لاتهام الإمام علیه السلام. وقد أشار الإمام علیه السلام فی عدة مواضع إلی هذه الحقیقة المریرة المتمثلة بالغدر والخیانة ونقض العهود والمواثیق. فقد خطبهم علیه السلام بعد حادثة الأنبار وغارت أهل الشام قائلاً: «واللّه ما تکفوننی أنفسکم فکیف تکفوننی غیرکم إن کانت الرعایا قبلی لتشکوا حیف رعاتها واننی الیوم لأشکو حیف رعیتی کأننی المقود وهم القادة أو الموزوع وهم الوزعة» (2). کما قال علیه السلام فی موضع آخر: «اُرید أن أداوی بکم وأنتم دائی» ، ثم شکاهم علیه السلام بالقول: «اللّهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوی وکلت النزعة بأشطان

ص:112


1- 1) سورة ابراهیم / 24 - 25. [1]
2- 2) نهج البلاغة، [2] الکلمات القصار / 261.

الرکی! أین القوم الذین دعوا إلی الإسلام فقبلوه وقرأوا القرآن فأحکموه وهیجوا إلی القتال فولهوا وله اللقاح إلی أولادها» (1).

2 - الإجابة علی سؤال

لقد أثار بعض شرّاح نهج البلاغة سؤالاً وهو: هل کانت تلک السیاسة التی انتهجها الإمام علیه السلام ازاء الأمّة (بتلک الشدة والحدة من الذم واللوم) صائبة؟ ألم تکن تدعو تلک الکلمات الأفراد إلی النفرة والشعور بالغربة والعزلة؟ ویبدو هذا الإشکال أعمق وأرسخ إذا أخذنا بنظر الاعتبار مدی صبر الإمام علیه السلام وحلمه وعفوه وصفحه، فکیف ارتضی الإمام علیه السلام مخاطبتهم بتلک الکلمات؟ ویتضح الجواب علی هذا السؤال من خلال ما ذکرناه سابقاً من أن ذلک الاسلوب کان یمثل الوسیلة الأخیرة التی من شأنها إثارة عواطف الأمّة وتفعیل حرکتها ونشاطها واخراجها من حالة الضعف والوهن التی کانت تسیطر علیها، ولعل ذلک الاُسلوب یشبه ما تعارف لدی عوام الناس حین تعجز عن اصلاح أحدهم فتقول لابدّ من العمل بما یثیر غیرته ویوقظ ضمیره. وعلیه فان تلک الکلمات تکشف بدورها عن بلاغة الإمام علیه السلام فی ایراده الکلام الذی ینطبق ومقتضی الحال. وهنا لا ینبغی أن ننسی بأنّ الإمام علیه السلام عمد إلی ذلک الاسلوب بعد أن مارس کافة الطرق من قبیل حثهم علی الجهاد وتذکیرهم بالقیم والمبادئ، واطرائهم والثناء علیهم - وعلیه یبدو من المستبعد رأی بعض شرّاح نهج البلاغة (2)، من أن الإمام علیه السلام أورد ذلک الکلام علی ضوء «لا یزیدنی کثرة الناس حولی عزة ولا تفرقهم عنی وحشة» ؛ لأنّ الکثرة المقتدرة فی الحروب والمعارک مطلوبة ولا یسع أحد بمفرده أن یهب القتال جیش جرار طمعاً بتحقیق النصر.

3 - سؤال آخر

لقد قال الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة «لقد نهضت فیها وما بلغت العشرین، وها أنا ذا

ص:113


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 121. [1]
2- 2) فی ظلال نهج البلاغة 1 / 192. [2]

قد ذرفت علی الستین» فیقتدح إلی الذهن هذا السؤال: کان لعلی علیه السلام علی الأقل ثلاث وعشرین عاماً حین الهجرة، واننا لنعلم بأنّ المعارک الإسلامیة وقعت بعد الهجرة، فکیف ینسجم هذا الأمر وما ذکره الإمام علیه السلام ونقول فی الجواب صحیح أنّ الحروب والمعارک وقعت فعلیاً بعد الهجرة، إلّاأنّ السنوات الأخیرة من الدعوة فی مکة قد شهدت تصعیداً فی مجابهة النبی صلی الله علیه و آله بما لا یقل شیئاً عن إعلان حالة الحرب. ونموذج ذلک محاصرة بیت النبی صلی الله علیه و آله من قبل کافة رجالات قریش حین بات الإمام علیه السلام علی فراشه لینجو رسول اللّه صلی الله علیه و آله بنفسه، کما صرحت بعض التواریخ بأنّ المشرکین کانوا قد أعدوا قبل ذلک بعض الخطط لقتل النبی صلی الله علیه و آله؛ الأمر الذی کان یثیر قلق أبی طالب. حتی أورد صاحب البحار أنّ صبیة المشرکین کانوا یرمون رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالحجارة حین یخرج من بیته فی مکة، فکان علی علیه السلام یدافع عنه وینقض علیهم فیولون هاربین (1).

فالواقع تشیر مثل هذه الأحداث وما شابهها أنّ العهد المکی کان یعیش حالة الحرب رغم عدم نشوبها بصورة فعلیة حیث کان المسلمون یشهدون أذی الکفار باستمرار، الأمر الذی کان یتطلب بعض التدبیر والتفکیر من أجل کسب المعرکة.

ولعل قوله علیه السلام: «نهضت فیها وما بلغت العشرین» - الذی ورد فی الخطبة - إشارة إلی التأهب للحرب لا لنشوب الحرب.

4 - الخاتمة المریرة للواقعة

ذکر بعض شراح نهج البلاغة أن علیاً علیه السلام حین اُخبر عن غارة أهل الشام وقتلهم لعامله فخطب الناس.

ثم سکت عنهم رَجَاء أن یجیبوه أو یتکلم منهم متکلم، فلم ینبِس أحدٌ منهم بکلمة، فلما رأی صَْتَهم نزل، وخرج یمشی راجلاً حتی أتی النُّخَیْلة، والناس یمشون خَلْفَه حتی أحاط به قوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع یا أمیرَالمؤمنین ونحن نکفیک، فقال: ما تَکْفوننی ولا تَْفُون

ص:114


1- 1) بحار الأنوار 41 / 62. [1]

أنفسکم. فلم یزالوا به حتی صرفوه إلی منزله، فرجع وهو اجم کئیب، ودعا سعیدبن قیس الهمْدانیّ، فبعثه من النُخَیلة فی ثمانیة آلاف، وذلک أنّه أخبر أنّ القوم جاءوا فی جمع کثیف.

فخرج سعیدبن قیس علی شاطئ الفُرات فی طلب سفیان بن عوف؛ حتی إذا بلغ. عانات، سرّح أمامه هانئ بن الخطاب الهْمدانیّ، فاتبع آثارهم حتی دخل أدانِیَ أرض قِنّسرین وقد فاتوه، فانصرف.

وأتاه قوم یعتذرون، فقام حُجْربن عدیّ الکندیّ وسعیدبن قیس الهَمْدَانیّ، فقالا: لا یسوءک اللّه یا أمیرالمؤمنین، مُرْنَا بأمرک نتبعه، فواللّه ما نَعظم جَزَعاً علی أموالنا إن نفدت، ولا علی عشائرنا إن قُتِلتْ فی طاعتک. فقال: تجهَّزوا للمسیر إلی عدوّنا.

فلما دخل منزله ودخل علیه وجوه أصحابه، قال لهم: أشیروا علیّ برجل صَلِیب ناصح، یحشر الناس من السواد. فقال له: سعیدبن قیس: یا أمیرالمؤمنین، أشیر علیک بالناصح الأریب الشجاع الصلیب، معقِل بن قیس التمیمی، قال: نعم.

ثم دعاه فوجهه، فسار فلم یقدم حتی أصیب أمیرالمؤمنین علیه السلام (1).

ص:115


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 88 - 90. [1]

ص:116

الخطبة الثامنة والعشرون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وهو فصل من الخطبة التی «الحمد لله غیر مقنوط من رحمة»

وفیه احد عشر تنبیها

نظرة إلی الخطبة

هذه من الخطب المعروفة لأمیر المؤمنین علی علیه السلام، وهی کما ذهب الشیخ المفید فی الإرشاد من خطبه الخالدة التی حفظها أرباب الفهم والعقل، أو کما قال السید الرضی: إنّه لو کان کلام یأخذ بالأعناق إلی الزهد فی الدنیا ویضطر إلی عمل الآخرة، لکان هذا الکلام وکفی به قاطعاً لعلائق الآمال وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار. فقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة القصیرة - والتی یراها بعض المحققین جزءاً من الخطبة الخامسة والعشرین - إلی عشرة جوانب مهمّة بشأن الآخرة والزهد فی الدنیا وعدم الاغترار بنعم الدنیا وزبرجها والاستعداد والتأهب للدار الآخرة، والتحذیر من الأخطار التی تهدد سعادة الإنسان - فالحق أنّ الخطبة من الخطب العظیمة التی تسوق الإنسان إلی الزهد فی الدنیا وعدم الإکتراث لزخرفها والانتباه إلی الآخرة، وقد انطوت علی عبارات واضحة صریحة توقظ الإنسان من غفلته ورقدته.

ص:117


1- 1) تعتبر هذه الخطبة من الخطب المهمة لأمیر المؤمنین علی علیه السلام التی رواها کبار علماء الفریقین فی کتبهم ومؤلفاتهم، ومنهم 1 - الجاحظ فی کتاب البیان والتبیین 1 / 171؛ 2 - الباقلانی فی کتاب إعجاز القرآن / 222؛ 3 - الحسن بن علی بن شعبة فی تحف العقول؛ 4 - ابن عبد ربة فی العقد الفرید 2 / 365؛ 5 - ابن قتیبة فی عیون الأخبار 2 - 235؛ 6 - المسعودی فی مروج الذهب 3 / 365؛ کما رواها المرحوم العلّامة المجلسی فی البحار عن کتاب مطالب السئول لمحمد بن طلحة الشافعی وکتاب الإرشاد للمفید مع بعض الاختلاف.

ص:118

القسم الأول: الدنیا والآخرة عند الإمام علی علیه السلام

اشارة

«أَمّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْیَا أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاعٍ، أَلا وَإِنَّ الْیَوْمَ الْمِضْمارَ وَغَداً السِّباقَ وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَالْغایَةُ النّارُ؛ أَ فَلا تائِبٌ مِنْ خَطِیئَتِهِ قَبْلَ مَنِیَّتِهِ أَلا عامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ یَوْمِ بُؤْسِهِ! أَلا وَإِنَّکُمْ فِی أَیّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ فِی أَیّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ. فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ وَلَمْ یَضْرُرْهُ أَجَلُهُ. وَمَنْ قَصَّرَ فِی أَیّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَضَرَّهُ أَجَلُهُ» .

الشرح والتفسیر

أشرنا سابقاً إلی أنّ الإمام علیه السلام تطرق إلی عشرة اُمور مهمّة فی هذه الخطبة الغرّاء لدفع الناس باتجاه الزهد وعدم الاغترار بزخارف الدنیا؛ فقد ورد فی الأخبار - کما أثبتت ذلک التجربة طیلة التأریخ - أنّ حبّ الدنیا رأس کل خطیئة، وعلیه فانّ عدم الإکتراث لهذه الدنیا والزهد فیها یمثل الخطوة الاولی المهمة لإصلاح النفوس ومواجهة الفساد الفردی والاجتماعی.

فقد استهل الإمام علیه السلام کلامه بتصدر الدنیا ووداعها لأهلها «أما بعد فان الدنیا قد أدبرت، وآذنت (1)بوداع» . وهنا یطرح هذا السؤال: کیف آذنت الدنیا بالأدبار والوداع؟ هناک الشواهد والأدلة الحیّة علی هذا الأمر ومن ذلک قبور الماضین التی تضم بقایا رفات وعظام الملوک والسلاطین والحکام والأمراء والکهول والفتیان والصبیان، والأظهر المحدودبة للکهول

ص:119


1- 1) «آذنت» من مادة «اذن» بمعنی الاعلان، ومنه الاذان الذی یعلن وقت دخول الصلاة.

واشتعال الرأس شیباً والأمراض الفتاکة التی تودی بحیاة الأفراد، حقاً لقد أصیبت الدنیا بالصمت والسکوت، إلّاأنّه مازالت تتحدث بلسان العبرة! وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی احدی خطبه «فکفی واعظاً بموتی عاینتموهم، حملوا إلی قبورهم غیر راکبین وانزلوا فیها غیر نازلین، فکأنهم لم یکونوا للدنیا عماراً وکأن الآخرة لم تزل لهم داراً» . (1)

ثم أشار علیه السلام فی النقطة الثانیة إلی موضوع إقبال الآخرة «وإن الآخرة قد أقبلت، وأشرفت باطلاع» (2). إنّ الموت یعد المنزل الأول من منازل الآخرة والذی یبتلع أبناء الدنیا، وهذا بدوره من علامات إقبال الآخرة. ومن هنا فقد أوصی الإمام علیه السلام الجمیع بالاستعداد إلی الآخرة ومغادرة الدنیا والتزود لتلک الدار المحفوفة بالخطر قبل فوات الأوان. وذکر علیه السلام فی النقطة الثالثة بالرابطة القائمة بین داری الدنیا والآخرة فقال «ألا وإن الیوم المضمار (3)وغداالسباق (4)والسبقة الجنّة والغایة النار» فقد شبه علیه السلام بهذه العبارة الرائعة الإنسان بالخیال الذی یخوض السباق، فمن الواضح أنّ مثل هذا الإنسان وعلی غرار الخیال یحتاج إلی التمارین والتدریبات المسبقة، حیث تصطلح العرب بالمضمار علی الموضع أو الزمان الذی یضمر فیه الحیوان، بل یطلق علی الحیوان الذی ینحف إثر التمارین لا علی کل حیوان کما صرح الراغب فی المفردات. آنذاک یبدأ السباق الذی یتضمن الفوز والخسارة وتسلم الجوائز من قبل الفائزین. فالإمام علیه السلام یری الدنیا میدان التأهب والاستعداد والآخرة میدان السباق والجوائز، وسوف تکون جائزة الفائزین الجنّة ونصیب الخاسرین النار. ومن البدیهی أنّ أحداً لا یسعه التمرین فی میدان السباق، بل علیه أن یتمرن ویعد نفسه قبل السباق؛ وهکذا الحال فی المحشر،

ص:120


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 188. [1]
2- 2) «اطلاع» من مادة «طلع» بمعنی الظهور، وطلوع الشمس بمعنی ظهورها، ویری البعض أنّها تطلق علی العلم المفاجئ، وأشرفت باطلاع، أقبلت بغتة.
3- 3) «المضمار» : الموضع والزمن الذی تضمر فیه الخیل، وتضمیر الخیل أن تربط ویکثر علقها وماؤها حتی تسمن، ثم یقلل علفها وماؤها وتجری فی المیدان حتی تهزل، ثم ترد إلی القوت، والمدة أربعون یوماً، وقد یطلق التضمیر علی العمل الأول أو الثانی، واطلاقه علی الأول لأنّه مقدمة للثانی وإلّا فحقیقة التضمیر احداث الضمور وهو الهزل وخفة اللحم، وإنّما یفعل ذلک بالخیل لتخف فی الجری یوم السباق.
4- 4) «السباق» من مادة «سبق» ومسابقة من باب مفاعلة ولسباق نفس المعنی. وسبقة بمعنی الهدف المطلوب الذی یتسابق من أجله أو بمعنی الجائزة.

فلیس هنالک من مجال للحسنات والتوبة من السیئات وتهذیب النفوس وتطهیرها، ولابدّ من إعداد هذه الاُمور فی الحیاة الدنیا. وعلیه فلا ینبغی أن ینسی الأفراد هذه الحقیقة وهی إن عدم التزود فی الدار الدنیا والتأهب الروحی والمعنوی فانّ النتیجة النهائیة للسباق فی الآخرة لن تکون سوی الفشل والخیبة والخسران التی تعنی هناک نار جهنم. والجدیر بالذکر هنا أنّ الفائزین هناک یتفاوتون فی الدرجات، فهناک الفائز الأول والثانی والثالث وهکذا؛ الأمر الذی یتجسد بوضوح فی عالم الآخرة ودرجاتها. فیتضح ممّا تقدم أنّ السباق بمعنی المسابقة والسبقة بمعنی الهدف والغایة التی ینبغی للمتسابق أن یصل إلیها، والسبقة علی وزن لقمة بمعنی الجائزة وقد علق المرحوم السید الرضی (ره) - فی ذیل هذه الخطبة کما سیأتی - علی تعبیر الإمام علیه السلام: «والسبقة الجنّة والغایة النار» فقال: لم یقل علیه السلام السبقة النار کما قال السبقة الجنّة؛ لأنّ الاستباق إنّما یکون إلی أمر محبوب، وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنّة ولیس هذا العنی موجوداً فی النار، فخالف الإمام علیه السلام بین اللفظین لاختلاف المعنیین. ولا یبدو هنالک من تعارض بین کلامه علیه السلام والآیة الشریفة «سابِقُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها کَعَرْضِ السَّماءِ وَالأَرْضِ» (1)؛ لأنّ «سابقوا» لا تعنی السباق فی هذا العالم، بل تعنی التأهب من أجل سباق الآخرة، والدلیل علی ذلک أنّها جعلت الجنّة هی الهدف النهائی لهذه المسابقة، بعبارة اُخری فان السباق هنا نحو الخیرات والصالحات، أمّا السباق هناک نحو الجنّة التی تمثل حصیلة الأعمال. ثم أشار علیه السلام فی النقطة الرابعة إلی واحدة من أهم أمتعة السفر الأخروی الخطیر وهی التوبة فقال: «أفلا تائب من خطیئته قبل منیّته (2)، ألا عامل لنفسه قبل یوم بؤسه» فهذه التعبیرات - التی تهدف إلی إثارة العارفین والعمل علی تشجیعهم إلی جانب تنبیه الغافلین وإیقاظهم - هی فی الواقع تمثل النتیجة المنطقیة للعبارات السابقة، وذلک إذا کانت الدنیا قد أدبرت وآذنت بوداع وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإنّ الیوم المضمار وغداً السباق والسبقة الجنّة والغایة النار فلم لا یتوب أهل الحجی والعقل وینیبوا إلی

ص:121


1- 1) سورة الحدید / 21. [1]
2- 2) «منیة» من مادة «منی» علی وزن نقی، قال صاحب مقاییس اللغة بمعنی تقدیر الشیء، ثم اُطلقت علی الموت والأجل، لأنّ الموت أمر مقدر، وتطلق المنی علی الأمانی التی تدور فی خلد الإنسان.

اللّه ویغتنموا الفرصة بالأعمال الصالحة ویستعدوا لسفر الآخرة؟ ولعل هذا هو الذی أشار له الإمام علیه السلام فی خطبة اُخری «فاعملوا وأنتم فی نفس البقاء، والصحف منشورة والتوبة مبسوطة» (1).

أما تعبیره علیه السلام عن یوم القیامة بیوم البؤس فلما یکتنفه من أحداث مهولة وعذاب شدید وهلع وخوف عظیم. وقد أشارت أغب الآیات القرآنیة لذلک العذاب لتحذر الإنسان وتحثه علی اغتنام الفرصة والتزود لذلک الیوم العصیب الملیء بالمخاطر التی لا ینجی منها سوی العمل الصالح. أمّا فی النقطة الخامسة فقد أشار علیه السلام إلی الفرص التی تمر مرّ السحاب والتی یقود عدم اغتنامها إلی الندم «ألا وإنکم فی أیام أمل من ورائه أجل، فمن عمل فی أیّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ولم یضرره أجله» ویخسر بالمقابل من یقصر فی العمل، کما أنّ أجله یصبح علیه وبال «ومن قصر فی أیام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضرّه أجله» . وتعبیره عن الحیاة الدنیا بأیّام الأمل لهو تعبیر لطیف یشیر إلی قصر وإیجابیة عالم الدنیا؛ لأنّ دقائق عمر الإنسان تمثل أعظم فرصة من أجل بلوغ السعادة والفوز بالفلاح الاُخروی الخالد.

فلعل التوبة فی لحظة من اللحظات تطفئ بحاراً من نیران جهنم کانت تتربص بهذا الإنسان، ولعل العمل الصالح الخالص فی ساعة من عمره ینتهی به إلی جنان الخلود والرضوان.

تأمّلات

1 - الدنیا والآخرة فی الأحادیث

یری الدین الإسلامی الحنیف وجمیع الأدیان السماویة أنّ الدنیا دار طارئة متبدلة جعلت لیتزود منها الإنسان ویکسب فیها السمو والکمال والمعرفة التی تحلق بها إلی عالم الخلود، ومن هنا فإنّ اللّه یبتلی العباد فیها بأنواع البلاء والامتحان من خلال العبادات والطاعات وترک الشهوات وتحمل المصائب والمشکلات التی من شأنها تربیة الإنسان وصقل شخصیته

ص:122


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 237. [1]

وتهیئته لعالم الآخرة المفعم بالخیر والبرکة. وقد تظافرت الروایات التی تعرضت لبیان حقیقة الدنیا بعدة تعبیرات مختلفة رائعة، ومن ذلک الخطبة التی نحن بصددها والتی شبّه فیها الإمام علیه السلام الدنیا بالدورة التدریبیة التی یستعد فیها الإنسان لسباق الآخرة، الذی یحصل فیه الغالب علی الجنّة والخاسر النار. وقد جاء فی الحدیث أن «الدنیا مزرعة الآخرة» (1)ومن الواضح أنّ المزرعة لیست مکاناً للحیاة والاستقرار بل هی مکان للتزود من أجل مکان آخر، وقد عبّر عنها بالمتجر ودار الموعظة والمصلی، کما أورد ذلک الإمام علی علیه السلام فی نهج البلاغة فقال «إنّ الدنیا دار صدق لمن صدقها. . . ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء اللّه ومصلی ملائکة اللّه ومهبط وحی اللّه ومتجر أولیاء اللّه» (2). وروی عن الإمام السجاد علیه السلام أنّ المسیح علیه السلام قال للحواریین: «إنّما الدنیا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها» (3). کما عبر عنها الإمام علی علیه السلام بأنّها «دار ممر» (4)و «دار مجاز» (5). وأخیراً فقد وصفها الإمام الهادی علیه السلام بالسوق الذی یتضمن الربح والخسارة «الدنیا سوق ربح فیها قوم وخسر آخرون» (6). والخلاصة فانّ کل هذه العبارة ترشد إلی عدم النظر إلی الدنیا علی أنّها هی الهدف النهائی، بل هی وسیلة لادخار العمل الصالح وکسب المعارف من أجل الظفر بالدار الآخرة. ولعل البعض یری أنّ هذا الموضوع ساذج، إلّاأنّ الواقع هو أنّ أهم مسألة مصیریة فی حیاة الإنسان فی أنّه کیف یتعامل مع الإمکانات المادیة التی زود بها فی هذه الحیاة وکیف ینظر إلی هذه الدار، هل یراها وسیلة وأداة من أجل الوصول إلی هدف معیّن، أم یراها هی الهدف النهائی ولیس وراءها شیء. والواقع أنّ تأکید الإمام علیه السلام فی بدایة الخطبة علی أن الدنیا میدان الإستعداد لسباق الآخرة إنما یشکل الدعامة الأساسیة الراسخة لسائر المواعظ المهمة التی وردت فی هذه الخطبة.

ص:123


1- 1) ورد هذا الحدیث النبوی فی غوالی اللئالی 1 / 267.
2- 2) نهج البلاغة، [1] الکلمات القصار / 131.
3- 3) بحار الأنوار 14 / 319 ح 21. [2]
4- 4) نهج البلاغة، الکلمات القصار / 133.
5- 5) نهج البلاغة، الخطبة 203. [3]
6- 6) بحار الأنوار 75 / 366، [4] مواعظ الإمام الهادی [5] علیه السلام
2 - الخسارة العظمی

النقطة التی تعرضت لها الخطبة والتی ینبغی الالتفات إلیها، إنّما تکمن فی عدم إمکانیة تدارک الخسران الذی یطیل الإنسان فی هذه الحیاة وفقدانه للفرص التی کان من شأنها أن تجعله یفوز بالدار الآخرة، والواقع إنّ السباق الذی ینتظر الإنسان إنّما یقام لمرة واحدة فقط، فهناک میدان للتمرین وآخر للسیاق لیس للتکرار إلیه من سبیل، ومن خسر فلیس أمامه من فرصة لتدارک خسارته، ومن هنا قال الإمام علیه السلام: «ومن قصر فی أیام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله» . أمّا الندم فلا یداوی جرحاً ولا یصلح فاسداً هناک فلیصرخ الصارخون: «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّی أَعْمَلُ صالِحاً فِیما تَرَکْتُ» (1)فیأتی الجواب «کَلّا» .

ص:124


1- 1) سورة المؤمنون / 100. [1]

القسم الثانی: الرحیل الوشیک

اشارة

«أَلا فاعْمَلُوا فِی الرَّغْبَةِ کَما تَعْمَلُونَ فِی الرَّهْبَةِ! أَلا وَإِنِّی لَمْ أَرَ کالْجَنَّةِ نامَ طالِبُها، وَلا کالنّارِ نامَ هارِبُها، أَلا وَإِنَّهُ مَنْ لا یَنْفَعُهُ الْحَقُّ یَضُرُّهُ الْباطِلُ، وَمَنْ لا یَسْتَقِیمُ بِهِ الْهُدَی، یَجُرُّ بِهِ الضَّلالُ إِلَی الرَّدَی. أَلا وَإِنَّکُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَدُلِلْتُمْ عَلَی الزّادِ وَإِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَیْکُمُ اثْنَتانِ: اتِّباعُ الْهَوَی، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَتَزَوَّدُوا فِی الدُّنْیا مِنَ الدُّنْیا ما تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَکُمْ غَداً» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام إلی مسألة مهمّة ربّما غفل عنها أغلب الناس: «ألا فاعملوا فی الرغبة کما تعملون فی الرهبة» فعبادة اللّه وطاعته لا تعنی الفزع إلیه فی الشدة والبلاء والتولی عنه فی الیسر والرخاء؛ ولو کان الأمر کذلک لکان مشرکوا الجاهلیة من خلص العباد، فقد وصفهم القرآن الکریم بالقول: «فَإِذا رَکِبُوا فِی الفُلْکِ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلی البَرِّ إِذا هُمْ یُشْرِکُونَ» (1)ثم خاطبهم فی آیة اُخری «وَ إِذا مَسَّکُمُ الضُّرُّ فِی البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلّا إِیّاهُ فَلَمّا نَجّاکُمْ إِلی البَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَکانَ الإِنْسانُ کَفُوراً» (2). والواقع أنّ العبرة لیست فی الاقبال علی اللّه عند الفزع، بل العبرة أن یقبل العبد علیه حین الرخاء والرفاه والشعور بالقوة والاقتدار، فما کان مع اللّه فی هذه الظروف کان اللّه معه فی الظروف العصیبة. فعلامة الإیمان الخالص أن یتوجه العبد إلی اللّه ویذکره علی کل حال فی العافیة والسقم والفتوة

ص:125


1- 1) سورة العنکبوت / 65. [1]
2- 2) سورة الاسراء / 67. [2]

والکهولة والفقر والغنی والهزیمة والانتصار والحریة والسجن وما إلی ذلک. ومن هنا نری الأنبیاء والأوصیاء والأولیاء لا ینفکون فی حال من الأحوال عن التضرع إلی اللّه والتوجه إلیه. فالمتتبع لسیرة الإمام علی علیه السلام لا یری فی عبادته من تفاوت بین جلوسه فی البیت حین زحزحت عنه الخلافة ونهوضه بالأمر وإدارته لشؤون البلاد الإسلامیة، فالزهد والتهجد وإعانة الضعفاء والفقراء وطلاق الدنیا إلی غیر رجعة کان من المعانی الواضحة فی عبادة الإمام علیه السلام: ثم قال علیه السلام: «ألا وإنّی لم أر کالجنة نام طالبها، ولا کالنار نام هاربها» . لقد رأینا عدّة أفراد من الذین یعیشون الأرق لیالی حین یهمون ببعض الأسفار القریبة التی تدر علیهم بعض الأرباح والفوائد، فکیف ینام طالب الجنّة الباقیة - النعمة التی لا تفوقها نعمة أو الخائف من نار جهنم التی لا یتصور عذابها وأن رؤیته غیر سماعه - ولا یکترث لهذه الاُمور؟ ! ولعل ذلک یعزی إلی ضعف ایمان الفرد بالعالم الآخر، أو إلی سکر النعم والمنافع التی یتمتع بها فی حیاته، ومهما کان السبب فانّ الغفلة عن الآخرة لمن الظواهر المأساویة الالیمة التی ینبغی للإنسان التوقف عندها ومعالجتها. ولاشک أنّ من وظائف أئمة الدین وزعماء المسلمین ایقاظ الناس من غفلتهم وترسیخ دعائم ایمانهم ولفت أنظارهم إلی الدار الآخرة وتحذیرهم من الاغترار بالدنیا والذوبان فیها. وفی النقطة الثامنة یشیر الإمام علیه السلام إلی مسألة ذات صلة بهذا الموضوع فیقول: «ألا وإنّه من لا ینفعه الحق یضره الباطل، ومن لا یستقیم به الهدی، یجر به الضلال إلی الردی» . طبعاً لا یتضح عمق هذا الکلام مالم نقف علی التعریف الصحیح للحق والباطل. فالحق عبارة عن الواقعیات، سواء کان هذا الحق تکوینیاً أم تشریعیاً. ویراد بالحق التکوینی واقعیات عالم الوجود، ویقابل ذلک الباطل المتمثل بالخیال والسراب الذی لا واقع له ولا وجود سوی فی عالم التصور والوهم. أما الحق التشریعی فیتمثل بالقوانین والتعالیم الإلهیة التی شرعت من أجل الفرد أو مجموعة الأفراد علی ضوء المصالح والکفاءات الذاتیة أو الاکتسابیة، ویقابله الباطل الذی یتجسد بعرقلة القوانین والتمرد علیها باسم القانون وتضییع العدالة وسلب الحریات وذبحها بمرأی ومسمع من الناس. ومن البدیهی أنّ من یولی ظهره للحق سواء علی مستوی التشریع أو التکوین فانّه یقع فی حبائل الباطل من قبل الوهم والخیال والسراب الذی یحسبه الظمآن ماء؛ الأمر الذی لا یرتقی بالإنسان إلی الشیء،

ص:126

والواقعیات هی التی تبلغ بالإنسان الهدف لا الوهم والخیال الذی لا یجر علی الإنسان سوی الخذلان والخسران. ولعل الإنسان یستطیع عن طریق الباطل اغفال الآخرین مدّة من الزمان، إلّاأنّ مصیره المحتوم إنّما یؤول إلی البؤس والشقاء لا محالة فی خاتمة المطاف وعلیه فان قوله علیه السلام: «ألا وإنّه من لا ینفعه الحق، یضره الباطل، ومن لا یستقیم به الهدی، یجر به الضلال إلی الردی» إنّما یمثل حقیقة واقعیة واضحة. طبعاً صحیح أن الاقرار بالحق واقتفاء آثاره إنّما یقترن غالباً بتحمل الشدائد المریرة، إلّاأنّ هذه المرارة تبدو کمرارة الدواء التی تجعل السقیم یتماثل للشفاء، ولا یجنی من تلک المرارة سوی السلامة والصحة والعافیة من المرض الذی ربّما یؤدی بصاحبه إلی الموت. ویتضح ممّا تقدم أنّ الحق والباطل لیسا من قبیل الوجودات الاصطناعیة والاُمور الاعتباریة؛ فالحق فی عالم التکوین هو ذلک الوجود العینی وفی عالم التشریع هو عبارة عن الواجبات والمحظورات التی تستند إلی المصالح والمفاسد والتی تمثل بدورها واقعیات عینیة، وسنتناول هذا الموضوع بالشرح فی الأبحاث القادمة.

علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام هدف بهذه العبارة إلی إفهام الآخرین - علاوة علی تنبیههم إلی أصل کلی له بالغ الأثر فی مصیر الناس - بأنّهم اذا لم یلتزموا بوصایاه المنسجمة والحق والعدل فانّهم سیقعون فی مخالب الظلم والجور والاضطهاد وإن أضرار الباطل ستجتاح حیاتهم؛ الأمر الذی شهدوه فی حیاتهم ومسیرتهم. ثم تعرض الإمام علیه السلام - فی النقطة التاسعة - إلی موضوع مهم یحکم حیاة البشریة شاءت أم أبت «ألا وإنکم قد أمرتم بالظعن (1)ودللتم علی الزاد» . والأمر بالظعن هو قانون الموت الذی یحکم حیاة الناس، فالأطفال یسیرون نحو الشباب، والشباب یتجهون نحو الکهولة وهذه الأخیرة إنّما تنتهی بالموت. فهو قانون شامل جاری لا یعرف الاستثناء والشواذ، کما أنّه قانون لا یقوی أحد علی تجاوزه مهما کانت قوته وقدرته وعلمه ومعرفته فهو القانون الذی شرعته ید القدرة الإلهیة لسمو الإنسانیة وتکاملها وقد تعرضت أغلب آیات کتاب التشریع.

ص:127


1- 1) «ظعن» علی وزن «طعن» بمعنی الرحیل من مکان إلی آخر ومن هنا اطلقت الظعینة علی الهودج لأنّه من وسائل السفر، وتستخدم أحیاناً کنایةً عن النساء، لأنّهم غالباً مایرکبن الهودج.

لهذا الأمر التکوینی کالآیة: «کُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ» (1)والآیة: «أَیْنَما تَکُونُوا یُدْرِککُّمُ المَوْتُ وَلَوْ کُنْتُمْ فِی بُرُوجٍ مُشَیَّدَةٍ» (2). وقد خوطب بهذا الأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله الذی یمثل أشرف کائنات عالم الخلقة «إِنَّکَ مَیِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَیِّتُونَ» (3)والآیة: «کُلُّ شَیءٍ هالِکٌ إِلّا وَجْهَهُ» (4).

کما یحتمل أن یکون المراد بقوله علیه السلام «أمرتم بالظعن» الأمر بالاستعداد للرحیل من الدنیا، کما ورد ذلک فی الخطبة 204 «تجهزوا رحمکم اللّه فقد نودی فیکم بالرحیل» (5). وأمّا الأمر بالتجهز والتزود فانّه یمثل رسالة جمیع الأنبیاء إلی البشریة وتنبیهها إلی الطریق الخطیر الذی ینتظرها؛ وهو طریق طویل یشمل الفاصلة بین الدنیا والآخرة ولا یمکن السیر علیه دون حمل الزاد، ولا معنی للزاد هنا سوی الإیمان والتقوی والورع والعمل الصالح «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزّادِ التَّقْوی» (6)ولا ینفع فی الآخرة سوی القلب السلیم المفعم بالإیمان وحبّ اللّه «یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلّا مَنْ أَتی اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِیمٍ» (7).

وعلیه فلا ینبغی أن یلتفت سالکوا هذا الطریق إلی الدنیا وما فیها وینخدعوا بزخارفها، بل علیهم الهم بالعمل الصالح الذی لا یبلغ بهم الهدف المنشود سواه «المالُ وَالبَنُونَ زِینَةُ الحَیاةِ الدَّنْیا وَالباقِیاتُ الصّالِحاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّکَ ثَواباً وَخَیْرٌ أَمَلاً» (8).

ص:128


1- 1) سورة آل عمران / 185. [1]
2- 2) سورة النساء / 78. [2]
3- 3) سورة الزمر / 30. [3]
4- 4) سورة القصص / 88. [4]
5- 5) علی ضوء المعنی الأول فانّ الأمر فی قوله «أمرتم بالظعن» هو أمر تکوینی وأجل الهی ولکن لیس فی الجملة من تقدیر، وهو أمر تشریعی علی ضوء المعنی الثانی وفی العبارة تقدیر هو التجهز والاستعداد، أو الظعن بالمعنی المجازی.
6- 6) سورة البقرة / 197. [5]
7- 7) سورة الشعراء / 88 - 89. [6]
8- 8) سورة الکهف / 46. [7]

وأخیراً بعد أن لفت انتباه الأمة إلی الآخرة وزهدها فی الدنیا وأوصاها بالتزود لتلک الدار وحذرها من ذلک الطریق الخطیر الذی ینتهی سالکه إلی السعادة والقرب الإلهی إذا سار علیه بعمله الصالح وورعه وتقواه، عاد علیه السلام لیحذر من عقبتین خطیرتین تصدان الإنسان عن السعادة والفلاح «وإن أخوف ما أخاف علیکم إثنتان: إتباع الهوی، وطول الأمل» وهو المعنی الذی ورد فی الخطبة 42 بعد أن تناوله الإمام علیه السلام بشیء من التوضیح فقال: «أیّها الناس وإن أخوف ما أخاف علیکم إثنان: إتباع الهوی وطول الأمل، فأما إتباع الهوی فیصد عن الحق، وأما طول الأمل فینسی الآخرة» . وتفید الإحادیث النبویة والأخبار والروایات أنّ هذه التعالیم قد احتذاها أمیر المؤمنین علیه السلام من معلمه الأول الأکرم صلی الله علیه و آله؛ فقد وردت هذه المعانی فی بحار الأنوار نقلاً عن النبی صلی الله علیه و آله (1).

والواقع هو أنّ هذین المرضین یعدان من أعظم عوامل الذنوب والمعاصی، لأنّ اتباع الهوی لا یعرف معنی للحدود والقیود، فاذا سیطر علی الإنسان أعمی بصره وبصیرته وأصم سمعه بحیث لا یطیق سماع الحق من النبی صلی الله علیه و آله والإمام المعصوم علیه السلام ولا تعد لدیه القدرة علی رؤیة الحقائق التی تحیط به، وعلیه فهو یعیش حیاته الدنیا کالصم البکم العمی الذین لا یفقهون؛ الأمر الذی یجعله عرضة للسقوط فی الهاویة. أمّا طول الأمل فانّه یزین الدنیا بما ینسی الآخرة ویقتصر بهمة الإنسان علی الدنیا التی یری فیها مقامه الأخیر وهدفه النهائی. ثم یختتم الإمام علیه السلام خطتبه بقوله «تزودوا فی الدنیا من الدنیا ما تحرزون (2)به أنفسکم غداً» نعم فهناک سفر طویل علی الأبواب، سفر یتطلب المتاع والزاد الکثیر، وعلیه فینبغی للعاقل أن یلتفت إلی نفسه ویجهزها بما یجعلها تجتاز ذلک السفر الطویل قبل فوات الأوان، ویبتعد عن الأخطار والمطبات التی یمکنها عرقلة هذه السفر، فیطویه بکل إیمان وثبات لیصل إلی هدفه المنشود.

تأمّلان

1 - خیر الزاد

لا نرانا نبالغ إذا شبهنا الناس بالمسافرین الذین یغادرون منطقة صغیرة ملوثة نحو عالم

ص:129


1- 1) بحار الأنوار 70 / 91. [1] فقد روی هذه الحدیث جابر بن عبداللّه الأنصاری عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی باب حب الدنیا.
2- 2) «تحرزون» من مادة «حرز» بمعنی الحفظ، و «الحرز» علی وزن الحرص بمعنی الموضع الآمن لحفظ الأشیاء.

کبیر مفعم بالطهر والخیر والعطاء، بل هذا هو السفر الواقعی والحقیقی الذی ینقل الإنسان من هذا العالم السفلی والمتهافت للدنیا إلی عالم الآخرة العلوی والسامی الخالد، کما أنّ لوازم السفر التی یهیئها المسافر، هی الأخری لابدّ أن توفر فی هذا السفر الشاق من قبیل الزاد والمتاع والمرکب ومعرفة نقطة الانطلاق والغایة ومطبات الطریق والمخاطر التی تعترض السبیل والتی ینبغی دراسة کل واحة منها بصورة مستقلة - فقد صرح القرآن الکریم بأنّ زاد هذا السفر إنّما یکمن فی الورع والتقوی فی اجتناب المعاصی وطاعة أوامر اللّه والإتیان بالأعمال الصالحة. وهو المعنی الذی أکده أمیر المؤمنین علی علیه السلام کراراً فی نهج البلاغة، ومن ذلک ماورد فی الخطبة 183 حیث قال علیه السلام: «وأنتم بنو سبیل علی سفر من دار لیست بدارکم وقد أُوذنتم منها بالارتحال واُمرتم فیها بالزاد» وهن یبرز هذا السؤال: إنّما یستفاد من الزاد والمتاع طیلة السفر لا فی المقصد والغایة، والحال إنّ الورع والتقوی تستفاد فی الآخرة وتشکل مفتاح أبواب الجنان، فکیف اعتبرت التقوی هی الزاد والمتاع؟ وللإجابة علی هذا السؤال لابدّ من القول بأنّ مبدأ هذا السفر طویل یبتدأ من لحظة الموت وسکراته ویستمر حتی عالم البرزخ وما یتخلله من مواقف القیامة ومنازل السؤال والحساب والصراط - والتی تتسم بتعددها وهول مطلعها - حتی تنتهی بالجنان. وممّا لاشک فیه أنّ التقوی هی زاد فی عالم البرزخ کما أنّها الزاد والمتاع فی مواقف القیامة ومنازلها قبل الدخول إلی الجنّة - نعم فانّ زاد التقوی هو الذی یجعل الإنسان یجتاز هذه المنازل الخطیرة بسلام ویقوده إلی منزله الأخیر المتمثل بالجنة.

جدیر بالذکر أنّ الآیة الشریفة «إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ» جعلت التقوی هی المعیار الرئیسی لکرامة الإنسان وقیمته؛ الأمر الذی یؤکد المعنی المذکور فی أنّ السبیل الوحید للنجاة غداً إنّما یکمن فی التقوی والتی عبّر عنه أحیاناً بالزاد وأحیاناً اُخری بصفتها تمثل ملاک الکرامة الإنسانیة. وهذا ما وضحته بعض العبارات الواردة فی الخطبة 204 من نهج البلاغة «وانقلبوا بصالح ما بحضرتکم من الزاد فانّ أمامکم عقبة کؤودا ومنازل مخوفة مهولة لابدّ من الورود علیها والوقوف عندها» . نسأل اللّه سبحانه أن یوفقنا لتوفیر هذا الزاد القیم قبل فوات الأوان، فلا نرد ذلک السفر بأیدی خالیة، والحق أنّها خالیة مقارنة بما علیه تلک الدار.

ص:130

2 - اتباع الهوی وطول الأمل من أعدی أعداء الإنسان
اشارة

لابدّ من التعامل بصورة جادة مع التحذیر الذی اُختتمت به الخطبة بشأن الأخطار الکبری التی یفرزها إتباع الهوی وطول الأمل؛ فهما مکمن الخطر والمأساة التی تصیب الإنسان. فاتباع الهوی یعد أعظم عقبة تعترض سبیل سعادة الإنسان. فالاستسلام المطلق للشهوات والأهواء النفسیة یعد العدو اللدود لسعادة البشریة. القرآن الکریم من جانبه حذر حتی الأنبیاء من هذا العدو الفتاک، ومنهم نبی اللّه داود علیه السلام الذی قال بشأنه «وَلا تَتَّبِعِ الهَوی فَیُضِلَّکَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ» (1)کما صور هوی النفس فی موضع آخر بالصنم الذی یعبد من دون اللّه «أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلی عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلی سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلی بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ یَهْدِیهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَکَّرُونَ» (2). والحق أن إتباع الهوی لیعمی البصیرة ویصم السمع ویختم علی العقل والفکر ویحول دون الإنسان وتمییز بدیهیات الحیاة، فهل هنالک من خطر أعظم وأفدح منه؟ ! ومن هنا اقتصر القرآن بوعده الجنّة لاُولئک الذین یخشون اللّه ویسیطرون علی أهوائهم «وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهی النَّفْسَ عَنِ الهَوی * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِیَ المَأْوی» (3).

طول الأمل هو الآخر من أسوأ وأخطر العقبات التی تعترض سبیل السعادة الإنسانیة؛ فقد دلت التجارب علی مدی التأریخ أنّ آمال الإنسان الخیالیة لا تقف عند حدود، فلا یزداد نحوها إلّاتعطشاً. ومن الطبیعی أنّ مثل هذه الآمال تشل حرکة الإنسان وتسلبه جمیع طاقاته الفکریة والبدنیة ولا تبقی له شیئاً یشده نحو الآخرة. فاننا نعرف بعض الأفراد الذین عاشوا هذه الآمال الکاذبة حتی اللحظات الأخیرة من حیاتهم دون أن یلتفتوا حتی لتربیة فلذات أکبادهم. ومن عجائب هذه الآمال، أنّ الإنسان کلما تقدم أکثر کانت هذه الآمال أکذب بحیث تضاعف غرور الإنسان وتصده عن الواقع. وهذا هو الوضع السائد لدی الکفّار والذی أشار إلیه القرآن فی خطابه لرسول اللّه صلی الله علیه و آله «ذَرْهُمْ یَأْکُلُوا وَیَتَمَتَّعُوا وَیُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ

ص:131


1- 1) سورة ص / 26. [1]
2- 2) سورة الجاثیة / 23. [2]
3- 3) سورة النازعات / 40 - 41. [3]

یَعْلَمُونَ» (1)، المعنی الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی قصار کلماته فی نهج البلاغة «من أطال الأمل أساء العمل» (2).

ویبدو أن تلک الآمال متعذرة النیل من خلال الأسباب المشروعة، وهی لا تتیسر إلّامن خلال خلط الحلال بالحرام وهضم حقوق الآخرین ونسیان اللّه والآخرة. ومن هنا حذر الإمام علیه السلام فی الخطبة 86 من نهج البلاغة أولئک الذین ینشدون السعادة بالقول «واعلموا أنّ الأمل یسهی العقل وینسی الذکر فأکذبوا الأمل فانه غرور وصاحبه مغرور» ویبدو قصر الأمل علی درجة من الأهمیة بحیث اعتبره الإمام علیه السلام الرکن الأصلی للزهد، وهذا ما أورده فی الخطبة 81 من نهج البلاغة «أیها الناس، الزهادة قصر الأمل والشکر عند المنعم والتورع عند المحارم» . وآمال الإنسان کانت ومازالت أبعد وأطول من عمر الإنسان وإمکاناته وقدراته؛ الأمر الذی لا یجعل أهل الهوی وطلاب الدنیا یحققون تلک الآمال ویظفروا بها أبداً، وغالباً ما یودعون الدنیا بمنتهی الانزجار والاستیاء فی لحظات نزع أرواحهم. وبالطبع لا ینبغی الغفلة عن الأمل بشکل الدافع الأساس لسعی الإنسان وجهده وانطلاقته فی هذه الحیاة، وعلیه فالأمل حسن ولیس بقبیح ولا یمکن مواصلة الحیاة من دونه، إلّاأنّ المذموم إساءته وطوله وبعده عن الواقع واستناده إلی الوهم والخیال. ومن هنا ورد فی الحدیث «الأمل رحمة لامتی ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها ولا غرس غارس شجراً» (3).

وبناءً علی ما تقدم فان وظیفة أساتذة الأخلاق خطیرة ثقیلة؛ وذلک لأنّهم لابدّ أن یضیئوا نور الأمل فی قلوب الناس من جهة ومن جهة اُخری ینبغی أن یبقوا علیه متوازناً بعیداً عن الإفراط. والآمال المنطقیة هی تلک التی تنسجم ومتطلبات الإنسان وقدراته الواقعیة بحیث لا تبعده عن هدفه المنشود. وبالطبع فانّ الإسلام لا یعارض التخطیط والبرمجة من أجل المستقبل والتطلع إلی الغد ولا سیما بالنسبة للأنشطة الاجتماعیة التی تعود بالنفع علی المجتمع الإسلامی وتضع حداً للتبعیة لأعداء الإسلام، فانّ مثل هذه الأنشطة لیست مذمومة فحسب،

ص:132


1- 1) سورة الحجر / 3. [1]
2- 2) نهج البلاغة، الکلمات القصار / 36.
3- 3) بحار الأنوار 74 / 173. [2]

بل تعتبر عبادة والمذموم فی الإسلام أنّ الإنسان یغرق فی هالة من الآمال الفارغة التی تنسی الآخرة، وبالتالی لا یظفر الإنسان بها مهما جند طاقته وإمکاناته.

وفی الحیاة الفردیة مطلوب هو التفکیر فی العاقبة والذی إصطلحت علیه الروایات بالحزم. والمذموم فی الإسلام أن یغرق الإنسان فی الأمل حتی ینسی الآخرة، ویفنی کل طاقته وقواه فی ذلک الأمل الذی لن یبلغه قط.

تکملة

قال السید الشرف (رض) وأقول: إنه لو کان کلام یأخذ بالاعناق إلی الزهد فی الدنیا ویضطر إلی عمل الآخرة، لکان هذا الکلام وکفی به قاطعاً لعلائق الآمال وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار ومن أعجبه قوله علیه السلام: «ألا وإنَّ الْیوم المضمار وغداً السِّباق، والسّبقة الجنّة والغایة النّار» ، فإن فیه - مع فخامةِ اللفظ وعظم قدر المعنی وصادق التمثیل، وواقع التشبیه - سرّاً عجیباً ومعنی لطیفاً، وهو قوله علیه السلام: «والسّبقة الجنّة، والغایة النّار» فخالف بین اللفظین لاختلاف المعنیین ولم یقل: «السّبقة النّار» . کما قال، «السّبقة الجنّة» ؛ لأن الاستباق انما یکون إلی امر محبوبٍ وغرض مطلوبٍ وهذه صفة الجنّة ولیس هذا المعنی موجوداً فی النار، نعوذ باللّه منها. . . !

ص:133

ص:134

الخطبة التاسعة والعشرون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

بعد غارة الضحاک بین قیس - صاحب معاویة - علی الحاج بعد قصة الحکمین، وفیها یستنهض أصحابه لما حدث فی الأطراف.

نظرة إلی الخطبة

کما ورد فی أسناد الخطبة فان بعض المحققین یرون أن هذه الخطبة جزء من الخطبة السابعة والعشرین؛ ویبدو أنّها کذلک، لأنّ مضامینها واحدة تفید مدی ضعف أهل الکوفة والعراق تجاه حملات معاویة وأهل الشام، وکأنّهم لم یشعروا بما کان یدور حولهم والجرائم البشعة التی کان یرتکبها الشامیون. فقد جعل الإمام علیه السلام یمطرهم بوابل الذم والتشنیع لعلهم یفیقون إلی أنفسهم وینتبهوا إلی الأخطار التی کانت محدقة بهم. فقد قال ابن أبی الحدید:

ص:135


1- 1) قال صاحب مصادر نهج البلاغة هذه من الخطب المعروفة التی رواها أغلب العلماء والمحدثین الذین عاشوا قبل السید الرضی (ره) ومنهم: 1 - الجاحظ فی البیان والتبیین 1 / 170. 2 - ابن قتیبة الدینوری فی الإمامة والسیاسة 1 / 150. 3 - ابن عبد ربة فی العقد الفرید 4 / 71. 4 - البلاذری فی کتاب أنساب الأشراف (فی شرح سیرة علی علیه السلام) / 380. 5 - القاضی نعمان المصری فی دعائم الإسلام 1 / 391 (مع اختلاف وما ورد فی النهج وقال الشارح الخوئی یستفاد من بحار الأنوار والاحتجاج والإرشاد أنّ هذه الخطبة جزء من الخطبة 27 (شرح نهج البلاغة، الخوئی 4 / 21) .

کانت غارة الضّحاک بن قیس بعد الحکَمَیْن، قبل قتال النّهْرَوَان، وذلک أنّ معاویةَ لَمّا بلغه أنّ علیّاً علیه السلام بعد واقعة الحکمین تحمّل إلیه مُقبلاً، هاله ذلک، فخرَج من دِمَشْق معسکراً، وبعث إلی کُور الشام، فصاح بها: إنّ علیّاً قد سار إلیکم. وکتب إلیهم نسخة وا حدة، فقرِئَتْ علی الناس:

ج ج

فعند ذلک دعا معاویة الضحّاک بن قیس الفِهْریّ، وقال له: سرْ حتی تمرَّ بناحیة الکوفة وترتفعَ عنها ما استطعت، فمَنْ وجدْتَه من الأعراب فی طاعة علیّ علیه السلام فَأغِرْ علیه، وإن وجدتَ له مَسْلَحَةً أو خیلاً فأغِرْ علیها، وإذا أصبحتَ فی بلدة فأمْس فی اُخری، ولا تُقیمنّ لخیلٍ بلغک أنّها فقد سُرِّحت إلیک لتلْقاها فتقاتلها. فسرّحه فیما بین ثلاثة آلاف إلی أربعة آلاف.

فأقبلَ الضّحاک، فنهب الأموال وقتل مَنْ لِقیَ من الأعراب، حتی مر بالثّعْلَبیّة فأغار علی الحاجّ، فأخذ أمتعتهم، ثم أقبل فلقیَ عمرو بن عُمَیس بن مسعود الذُّهْلیّ، وهو ابن أخ عبداللّه بن مسعود، صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، فقتله فی طریق الحاجّ عند القُطْقُطَانة. وقتلَ معه ناساً من أصحابه.

استصرخ أمیرالمؤمنین علیه السلام الناسَ عُقیبَ غارة الضحک بن قیس الفهریّ علی أطراف أعماله، فتقاعدُوا عنه، فخطبهم. (1)

ص:136


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 13 / 117. [1]

القسم الأول: عوامل ضعف أهل الکوفة

«أَیُّها النّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدانُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْواؤُهُمْ! کَلامُکُمْ یُوهِی الصُّمَّ الصِّلابَ، وَفِعْلُکُمْ یُطْمِعُ فِیکُمُ الْأَعْداءَ! تَقُولُونَ فِی الْمَجالِسِ: کَیْتَ وَکَیْتَ، فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ: حِیدِی حَیَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعاکُمْ، وَلا اسْتَراحَ قَلْبُ مَنْ قاساکُمْ، أَعالِیلُ بِأَضالِیلَ وَسَأَلْتُمُونِی التَّطْوِیلَ، دِفَاعَ ذِی الدَّیْنِ الْمَطُولِ» .

الشرح والتفسیر

ذکرنا سابقاً أنّ الخطبة اُلقیت فی ظروف عصیبة جدّاً، حیث شنت الغارات تلو الغارات علی أهل العراق، جعلت الإمام علیه السلام یسعی جاهداً لا عداد الناس، إلّاأنّ الضعف والوهن کان قد بلغ مبلغه منهم بحیث لم تعد لهم من قوة تذکر، فلم یکن أمام الإمام علیه السلام من سبیل سوی اللجوء إلی آخر حربة من أجل تعبئتهم واستنفار طاقاتهم وهی توبیخهم وذمهم علهم یلتفتون إلی أنفسهم ویبصروا الأخطار التی کانت تتربص بهم.

فقد استهل الإمام علیه السلام خطبته بالتعرض إلی العامل الرئیسی الذی یقف وراء ذلک الضعف والذلة والهوان والذی یعزی إلی عدم الانسجام بین الأقوال والأفعال الذی یستند إلی ضعف الاعتقاد الباطنی بالأهداف المقدسة النبیلة فقال علیه السلام: «أیّها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم» ، أمّا کلامهم فقد کان شدید یخترق الصخور، أمّا أعمالهم فقد کانت هزیلة لا تنسجم وذلک الکلام «کلامکم یوهی (1)الصم (2)الصلاب، وفعلکم یطمع فیکم الأعداء» .

ص:137


1- 1) «یوهی» من مادة «وهی» ، عناها صاحب المقاییس بالضعف ومن هنا یصطلح علی الکلام الضعیف بالواهی. فالعبارة تعنی أن کلامکم یضعف ویفتت.
2- 2) «الصم» جمع «أصم» وهو من الحجارة الصلب المصمت، و «الصلاب» جمع صلیب، والصلیب الشدید.

أجل إنّ ذلکم وهوانکم إنّما أفرزه شقاقکم وفرقتکم. إنّکم متحدون ظاهراً، مختلفون باطناً، وهذا ما أدی بکم إلی الاکتفاء بالأقوال الطنانة الرنانة بدلاً من الأفعال والأعمال؛ الأمر الذی یؤدی إلی تآکل المجتمعات وانهیارها إذا ما عاشت هذه الحالة «تقولون فی المجالس: کیت وکیت (1)، فاذا جاء القتال قلتم: حیدی حیاد (2)» .

فالواقع هذه بعض الصفات البارزة للمنافقین والأفراد الضعاف النفس المسلوبی الإرادة الذین یکثرون الحدیث فی المجالس الخاصة والعامة ویستعرضون معانی الشجاعة والبسالة والعزم والإرادة الراسخة، وکأن قدرة هؤلاء لا تتجاوز هذه الأحادیث، فاذا وردوا میدان القتال استحوذ علیهم الخوف والهلع وکأنّهم یصرخون، إلیک عنّا أیّها القتال فارقنا وابتعد، بل هم مرعبون من میدان الحرب والقتال ویختلقون مختلف الأعذار للفرار من المیدان. والعبارة «حیدی حیاد» من مادة حید بمعنی المیل والانحراف عن الشیء وتقابلها العبارة «فیحی فیاح» بمعنی الرغبة فی الشیء. ولعل المخاطب بالعبارة «حیدی حیاد» الجنود والمقاتلون الذین تدعوهم عناصر النفاق والانهزام إلی اعتزال المیدان، وعلی العکس من ذلک دعوة عناصر القوة والاقتدار إلی القتال بقولها «فیحی فیاح» . کما یحتمل أن یکون المراد قولهم للمعرکة ابتعدی عنا؛ الأمر الذی یکشف عمق خوفهم من قتال العدو، کما یمکن أن یکون المراد أنّهم کانوا یخاطبون أنفسهم بهذه العبارة بغیة الاسراع فی الابتعاد والاعتزال. وما أشبه هذه الطائفة المنافقة بمنافقی عصر الرسالة الذین صورتهم سورة الأحزاب: «قَدْ یَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقِینَ مِنْکُمْ وَالقائِلِینَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَیْنا وَلا یَأْتُونَ البَأْسَ إِلّا قَلِیلاً * أَشِحَّةً عَلَیْکُمْ فَإِذا جاءَ الخَوْفُ رَأَیْتَهُمْ یَنْظُرُونَ إِلَیْکَ تَدُورُ أَعْیُنُهُمْ کَالَّذِی یُغْشی عَلَیْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوکُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلی الخَیْرِ أُولئِکَ لَمْ یُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ

ص:138


1- 1) «کیت وکیت» من مادة «تکییت» بمعنی اعداد جهاز الناقة أو ملأ ظرف الماء، إلّاأنّ العبارة کیت وکیت تستعمل حیث یرید الفرد عمل کل شیء عن طریق الکلام، وهما کلمتان لا تستعملان إلّامکررتین ککنایة عن الحدیث.
2- 2) «حیدی حیاد» : صیغة فعل أمر من مادة «حیود» کنزال بمعنی أنزل، وهی کلمة یقولها الهارب عند الفرار والکتمان تأکید لاحداهما الأخری حیث تعنی المیل والانحراف عن الشیء.

أَعْمالَهُمْ وَکانَ ذ لِکَ عَلی اللّهِ یَسِیراً» (1). لقد کانت هناک عدّة معدودة علی هذه الشاکلة علی عهد النبی صلی الله علیه و آله، غیر أنّه من المؤسف أنّ الأکثریة الساحقة لأهل الکوفة - التی کانت تمثل جیش الإمام علیه السلام - کانت کذلک. ثم قال علیه السلام: «ما عزت دعوة من دعاکم، ولا استراح قلب من قاساکم» یبدون أنّ هذه العبارة تشکل رداً علی أولئک الذین یشکلون علی مثل هذه الخطب فی أنّ الإمام علیه السلام لم یکتف بالموعظة ولا یمارس الضغوط من أجل حشدهم للجهاد؛ الأمر المتعارف لدی الحکام فی کافة أرجاء المعمورة؟ فالإمام علیه السلام یقول: لو ترکتکم وحالکم أحراراً ودعوتکم للجهاد لم تلبوا دعوتی، ولو شددت علیکم فی هذه الدعوة فأنتم کذلک، وما ذلک منکم بعجیب فأنتم أفراد ضعاف النفس والإرادة ولستم إلّاإلباً لأعدائکم علی أولیائکم. وقد أثبت التأریخ أن هؤلاء الأفراد أصبحوا جنوداً مجندة لبنی أمیة ومن کان علی شاکلة ابن زیاد والحجاج إثر خشیتهم من التهدیدات التی تطیل أموالهم وأعراضهم، ولکن لیس لحکام العدل ولا سیما علی علیه السلام من اتباع هذا الاسلوب فی تعبئة الأفراد. ثم قال علیه السلام «أعالیل بأضالیل (2)» کل ذلک قعوداً عن الجهاد ودفعاً بی إلی تأخیره، کالمدین الذی یناشد الدائن تمدید الأجل «وسألتمونی التطویل دفاع ذی الدین المطول» نعم هذا هو حال الأفراد الضعاف من أهل المزاعم والإدعاءات دون الأفعال، لیس لهم من هم سوی خلق الأعذار والتشبث بالذرائع من أجل التهرب من المسؤولیة، القرآن من جانبه صور حالة المنافقین علی عهد النبی صلی الله علیه و آله الذین کانوا یحاولون بشتی الطرق التملص من خوض القتال فعزی ذلک إلی حبهم للدنیا وإیثارها علی الآخرة «یا أَ یُّها الَّذِینَ آمَنُوا ما لَکُمْ إِذا قِیلَ لَکُمُ انْفِرُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلی الأَرضِ أَرَضِیتُمْ بِالحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَیاةِ الدُّنْیا فِی الآخِرَةِ إِلّا قَلِیلٌ» . (3)

ص:139


1- 1) سورة الاحزاب / 28.
2- 2) «أعالیل» جمع اعلولة، ما یتعلل به و «أضالیل» جمع اضلولة بمعنی أسباب الضلالة، أی انکم تتشبثون بأسباب واهیة من أجل إضلال أنفسکم والآخرین.
3- 3) سورة التوبة / 38. [1]

هنالک سؤال یطرح نفسه وهو: لم کل هذا الضعف الذی ساد أهل الکوفة مع وجود ذلک الإمام العادل والحکیم المعروف والمجرب فی ساحات الوغی، فی حین کان أهل الشام أکثر قوة وفاعلیة منهم والحال کان حاکمهم معاویة؟ ویبدو أنّ الجواب علی هذا السؤال کما أشرنا سابقاً یکمن فی الآلیة الاجتماعیة التی کانت علیها الناس آنذاک. فالکوفة لم تکن تتمتع بسابقة تأریخیة تذکر، بل کانت منطقة حدیثة ضمت أقواماً مختلفة ذات ثقافات متنوعة، عاشت حالة من التنافس الظاهری والباطنی، خلافاً لأهل الشام الذین کانوا یتمتعون بالوحدة واللحمة. أضف إلی ذلک فانّ أغلب خصوم الدعوة من منافقی المدینة وسائر المناطق کانوا قد اتجهوا صوب الکوفة وأخذوا یمارسون دعایاتهم المغرضة التی تهدف إلی شق الصفوف وزرع بذور الفرقة والاختلاف فی صفوف أهل الکوفة، إلی جانب العمل علی إضعافهم فی مجابهة العدو. من جانب آخر فان الفتّوحات الإسلامیة آنذاک قد جرت ثروات طائلة، ولا یخفی أن طبیعة الثروة إنّما تختزن الدعة والرفاه والعافیة؛ الطبیعة التی لا تنسجم وروح القتال والجهاد.

ومن هنا کان أهل الکوفة یقتنصون الأعذار التی تمکنهم من أداء وظیفتهم الجهادیة حتی فی أحلک الظروف التی شنت علیهم الغارات وجرعوا فیها غصص الذل والهوان من قبل بنی أمیة وجیوش الشام. نعم إنّ الأمّة کانت تلهث وراء الحکام الذین عبثوا ببیت المال وأغدقوا مافیه علی الرعیة، ولم یکن أمیر المؤمنین علیه السلام مستعداً للتفریط بصاع من بیت مال المسلمین لأقرب المقربین کائناً من کان. وهذه هی العلة الاُخری التی ساقها أمیر المؤمنین فی کشفه النقاب عن روحیة الأمّة «وإنّی لعالم بما یصلحکم ویقیم أودکم ولکنی لا أری صلاحکم بافساد نفسی» (1).

ص:140


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 69. [1]

القسم الثانی

اشارة

«لا یَمْنَعُ الضَّیْمَ الذَّلِیلُ وَلا یُدْرَکُ الْحَقُّ إِلاَّ بِالْجِدِّ! أَیَّ دارٍ بَعْدَ دارِکُمْ تَمْنَعُونَ، وَمَعَ أَیِّ إِمامٍ بَعْدِی تُقاتِلُونَ؟ الْمَغْرُورُ - وَاللّهِ - مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمَنْ فازَ بِکُمْ، فَقَدْ فازَ - وَاللّهِ - بِالسَّهْمِ الْأَخْیَبِ، وَمَنْ رَمَی بِکُمْ فَقَدْ رَمَی بِأَفْوَقَ ناصِلٍ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام إلی رکن مهم فی الحیاة الإنسانیة فقال «لا یمنع الضیم (1)الذلیل، ولا یدرک الحق إلّابالجد» ما أجدر أن تکتب هذه العبارة بماء الذهب وتتلی صباح مساء فی أفنیة مستضعفی العالم حتی تصبح جزءاً من ثقافتهم وتترسخ فی أعماقهم. نعم إن الطغاة جرعوا الأذلاء والعجزة صنوف العذاب والظلم والاضطهاد ولم ینصفوهم ویمنحوهم حقوقهم، فالحق یؤخذ بالقوة إستناداً لمعانی العمل والسعی الدؤوب والاثرة وحمل السلاح وخوض غمار القتال، فالطغاة الجبابرة لا یفهمون سوی لغة الحدید والنار ولابدّ من مجابهتهم بالقوة. ویبدو أنّ طبیعة العالم کذلک فی أن سبیل بلوغ الأهداف العلیا المادیة والمعنویة إنّما عبد بالمطبات والعقبات الکؤود، ولا یظفر بهذه الأهداف من لم یقاوم هذه العقبات. ثم یقطع الإمام علیه السلام کافة الأعذار علی هؤلاء فیخاطبهم ماذا تنتظرون، وعن أی دار تدافعون، ومع من تقاتلون وأنا بین أظهرکم «أی دار بعد دارکم تمنعون ومع أی إمام بعدی تقاتلون؟» . نعم لن یسعکم الدفاع عن أی دار طالما تخاذلتم فی الدفاع عن دارکم بصفتها دار الإسلام، وإذا لم تلتحقوا بی فی القتال

ص:141


1- 1) «الضیم» یعنی الظلم والاضطهاد.

فلن یسعکم القتال مع أی أحد بعدی. وعلیه فلیس أمامکم سوی الأسر والعبودیة للعدو فیسلبوکم الإرادة والاختیار - فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أراد حثهم علی القتال من خلال بعض المعانی التی تثیر فی نفوسهم الحمیة والغیرة، فالوطن لا یسلم دون الدفاع عنه، وإن کانت لهم أدنی رابطة بإمامهم فهم مطالبون بالقتال فما عسی أن یکون الإمام من بعده والذی یسعهم القتال معه. ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی عدم إمکانیة خوض القتال بمثل هذه العناصر الضعیفة الهزیلة التی فقدت مقومات المقاومة والثبات «المغرور - واللّه - من غررتموه» (1).

فالمحتال الخادع قد یتلاعب ببعض ممتلکات الناس ویمدّ یده إلی بعض حاجاتهم، أما أنتم فقد سلبتمونی کل شیء وقد ولیتم ظهورکم للعدل والطهر والتقوی والعزة والرفعة فضیعتم حقوق المسلمین ولاسیما المستضعفین والمحرومین. ثم قال علیه السلام: «ومن فاز بکم، فقد فاز - واللّه - بالسهم الأخیب» (2). إشارة إلی أنّ مساعدتکم ونصرتکم لیست بشیء، ومن یعتمد علیکم کمن یشترک فی اقتراح لا تنطوی نتیجته سوی علی الخسران.

فالإمام علیه السلام یری فی نصرة أهل الکوفة الهزیمة الفشل وقد شبهها تشبیه رائع فی أنّ الفوز بهم کالفوز بالسهم الأخیب الخاسر. ثم أورد شبهاً آخر فقال علیه السلام: «ومن رمی بکم فقد رمی بأفوق ناصل» فی إشارة إلی أنّ أهل الکوفة فاقدون لکافة مقومات الهجوم علی العدو من قبیل قوة الإیمان التقوی والشجاعة، وقد فقدوا کافة القیم إثر تعلقهم بالحیاة الدنیا والاغترار بزخارفها وزبرجها.

تأمّلان

1 - الحق یؤخذ ولا یُعطی

ما نفهمه من قوله علیه السلام «لا یدرک الحق إلّابالجد» أنّ الحق یؤخذ ولا یعطی؛ أی لا یمکن التطلع إلی الحصول علی الحق فی ظل الحکومات الغاشمة التی تعتمد اسلوب القوة وتمارس الظلم والاضطهاد بحق الطبقات المحرومة والمستضعفة؛ ولا غرو فأساس قوتهم وقدرتهم إنّما

ص:142


1- 1) ان تقدیم المغمور - الخبر للمبتدأ - یفید الحصر، أی المغرور الواقعی هو هذا الفرد.
2- 2) «أخیب» من مادة «خیب» بمعنی فقدان الشیء.

تکمن فی غصبهم لحقوق الآخرین، وعلیه فلا تعنی إعادة هذه الحقوق المغتصبة سوی تجریدهم من هذه القوة؛ الأمر الذی لن یحدث قط. وهنا یحث الإمام علیه السلام کافة المحرومین والمستضعفین علی الوحدة ورص الصفوف لاستعادة حقوقهم السلیبة من الظلمة والطواغیت وأنّهم غالبون لا محالة، فالطغاة لیسوا مستعدین للتضحیة، بینما یضحی المستضعفون بالغالی والنفیس من أجل إحقاق حقوقهم. طبعاً ملئت الدنیا الیوم بالشعارات التی تتبنی حقوق الإنسان وتطالب بإعادة حقوق المحرومین، غیر أنّ التجربة أثبتت بالأدلة القاطعة أن هذه الشعارات لاتعد کونها مصائد تهدف اغفال الطبقات المسحوقة والمعدمة والاستسلام إلی ارادة الأقویاء؛ الأمر الذی یثبت أنّ الحق یؤخذ ولا یعطی. فالمؤمنون لا یسعهم الوقوف مکتوفی الأیدی حیال الظالمین الذین یتلاعبون بمقدراتهم. وعلیهم أن یتعلموا الدروس والعبر التی لقّنها الإمام الحسین علیه السلام البشریة جمعاء فی الصبر والتضحیة والفداء، فما زالت صرخاته تدوی فی الاسماع «ألا وإنّ الدعی ابن الدعی قد ترکنی بین السلة والذلة! وهیهات له ذلک! هیهات منی الذلة! أبی اللّه لنا ذلک ورسوله والمؤمنون وحدود طهرت وحجور طابت، أن نؤثر طاعة اللئام علی مصارع الکرام» (1). کما أکد القرآن الکریم علی جانب الصبر والصمود والمقاومة لدی المؤمنین، ومن ذلک الآیة 214 من سورة البقرة «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا یَأْتِکُمْ مَثَلُ الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِکُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّی یَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ مَتی نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِیبٌ» . وهی الحقیقة التی نلمسها بوضوح فی کافة الغزوات الإسلامیة من قبیل بدر وأحد والأحزاب وتبوک وحنین، التی کان ینتصر فیها المسلمون بسلاح الإیمان والصبر، صحیح أنّ النصر من عند اللّه، إلّا أنّ الامداد الغیبی والعنایة الإلهیة کانت مکملة للأسباب الظاهریة والعدة والعدد التی کان علیها المسلمون. فهذا أحد القوانین التأریخیة الثابتة، فلا یقتصر علی صحب النبی صلی الله علیه و آله والإمام الحسین علیه السلام، کما لایرتبط بالأمس والیوم، بل یشمل المستقبل کالماضی علی حد سواء.

ص:143


1- 1) بحار الأنوار 45 / 83. [1]
2 - الدفاع عن الوطن

لقد لجأ الإمام علی علیه السلام إلی مختلف الأسالیب من أجل إثارة مشاعر أهل الکوفة وتعبئتهم لقتال العدو، ومن ذلک تأکیده علی مسألة الدفاع عن الوطن «أی دار بعد دارکم تمنعون» ؟ فی إشارة واضحة إلی علاقة کل فرد بوطنه وأنّه یهب للدفاع عن هذا الوطن إذا تعرض للخطر مهما کانت المدرسة والفکرة التی یؤمن بها وینتمی إلیها، إلّاأنّ المؤسف له أنّ هذه الروح هی الاخری قد ماتت فیهم. وهنا یبرز هذا السؤال: هل حرمة الوطن فی الإسلام بصفته یمثل دار الإسلام أم هناک شیء آخر؟ أی البلد الإسلامی یکتسب حرمته کونه بلداً إسلامیاً، أم هناک حرمة ذاتیة لکل بلد بحیث تتضاعف هذه الحرمة لو أصبح جزءاً من دار الإسلام؟ یمکن العثور علی أجوبة هذه الاسئلة فی الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة؛ الأمر الذی یؤکده العقل أیضاً. فقد توالت الآیات التی ذهبت إلی أنّ الاخراج من الوطن إنّما یضاد القیم الإنسانیة؛ الأمر الذی یعنی حرمة الوطن الذاتیة، وهذا ما نلمسه بوضوح فی الآیات القرآنیة الثامنة والتاسعة من سورة الممتحنة «لا یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَلَمْ یُخْرِجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ المُقْسِطِینَ * إِنَّما یَنْهاکُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ قاتَلُوکُمْ فِی الدِّینِ وَأَخْرَجُوکُمْ مِنْ دِیارِکُمْ وَظاهَرُوا عَلی إِخْراجِکُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ یَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِک َ هُمُ الظّالِمُونَ» فقد اعتبرت الآیتین الکریمتین الاخراج من الوطن بمثابة المقاتلة فی الدین، الأمر الذی یؤکد قیمة الوطن کما صرحت بذلک الآیة 246 من سورة البقرة علی لسان بنی اسرائیل «قالُوا وَما لَنا أَ لّانُقاتِلَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِیارِنا وَأَبْنائِنا» فهی تدل علی أنّ دافعهم الجهادی إلی جانب حفظ الدین ینطوی علی انقاذ الوطن، وقد أقر نبیّهم هذا الدافع دون أن یعترض علیه، ونوکل الحدیث فی الآیات الاُخری الواردة بهذا المجال إلی محلها.

رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان شدید التأثر اثر هجرته من مکة، طبعاً صحیح أنّ مکة کانت تمثل قیمة دینیة کبیرة، إلّاأنّها کانت تعنی إلی جانب ذلک بالنسبة للنبی صلی الله علیه و آله وطنه ومسقط رأسه، ومن هنا خفف عنه القرآن بقوله «إِنَّ الَّذِی فَرَضَ عَلَیْکَ القُرْآنَ لَرادُّکَ إِلی مَعادٍ» (1).

ص:144


1- 1) سورة القصص / 85. [1]

وورد فی الحدیث عن علی علیه السلام: «عمرت البلدان بحب الاوطان» (1)وقال أیضاً «من کرم المرء بکائه علی ما مضی من زمانه وحنینه إلی أوطانه» (2).

وجاء فی الحدیث المعروف «حبّ الوطن من الإیمان» (3).

فالذی نخلص إلیه أنّ حبّ الوطن والتعلق به یستند إلی جذور قرآنیة ونبویة إلی جانب تأیید العقل والمنطق. الا ان هذا لا یعنی تعلق الفرد بوطنه بصورة مطلقة بحیث لا یترکه طلب العلم والتکامل ونیل المنافع المعنویة والقیم الإلهیة ومن هنا ورد الحدیث عن علی علیه السلام: «لیس بلد بأحق بک من بلد، خیر البلاد ما حملک» (4). وأخیراً فان الوطن یکتسب قیمة مضاعفة إذا ما انضمت إلیه الجوانب المعنویة علاوة علی الجوانب المادیة، فیصبح دار الإسلام، فیهب الفرد بکل ما أوتی من قوة للدفاع عنه والذود عن کیانه.

ص:145


1- 1) بحار الأنوار 75 / 45. [1]
2- 2) بحار الأنوار 7 / 264. [2]
3- 3) سفینة البحار، مادة وطن.
4- 4) نهج البلاغة، [3] الکلمات القصار، 442.

ص:146

القسم الثالث: الیأس من القوم

اشارة

«أَصْبَحْتُ وَاللّهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَکُمْ، وَلا أَطْمَعُ فِی نَصْرِکُمْ، وَلا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِکُمْ. ما بالُکُمْ؟ ما دَواؤُکُمْ؟ ما طِبُّکُمْ؟ الْقَوْمُ رِجالٌ أَمْثالُکُمْ أَقَوْلاً بِغَیْرِ عِلْمٍ؟ وَغَفْلةً مِنْ غَیْرِ وَرَعٍ؟ ! وَطَمَعاً فِی غَیْرِ حَقٍّ؟»

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام هذه الخطبة - التی تعدّ من الخطب الألیمة للإمام علیه السلام بمعاودة ذم اُولئک القوم الذین ماتت أرواحهم علهم یفیقون قلیلاً فیعبئوا أنفسهم ویستغلوا إمکاناتهم ویهبوا للقاء عدّوهم فیریحوا الاُمّة الإسلامیة من شر أهل الشام الذین یمثلون حثالات زمان الجاهلیة، فقد قال علیه السلام: «اَصبحت والله لا أصدق قولکم، ولا أطمع فی نصرکم، ولا أوعد العدو بکم» .

نعم إنّ الإدارة الناجعة تتطلب ثقة متبادلة بین الاُمّة والقائد، وإنّ ثقة القائد بالاُمّة والعمل علی تشجِیعها وغض الطرف عن أخطائها وتذکیرها بنقاط قوتها من شأنه أن امال القائد وأحلامه قد تتبدد من جراد الاُمّة التی تعیش الخواء الروحی والضعف والتشتت والتمزق والجهل بحیث لا یعد للتشجیع والثقة من دور فی إثاوتها وحشد طاقاتها، بحیث یستفعل مرضها بما یجعل من الصعقة الاسلوب الامثل للشقاء.

- فالعبارة وإن کانت تصور الأوضاع المزریة لأهل الکوفة، إلّاأنّها تشیر إلی مدی عمق المشاکل التی إستنزفت أمیرالمؤمنین علی علیه السلام فی ذلک الزمان، فقد کان محقاً فی اعلانه عدم الوثوق بهم، فقد خالفوا کراراً وعودهم ونقضوا محارم عهودهم ونکثوا بیعتهم.

لم یکونوا یحسنون سوی الکلام فی المجالس وإطلاق الشعارات الرنانة والکلمات

ص:147

الحساسة، فاذا دقت ساعة القتال ولوا زحفاً إلی مخادعهم وهربروا هرب الشاة من الذئب.

ثم قال علیه السلام: «ما بالکم؟ مادواؤکم؟ ماطبکم؟ القوم رجال أمثالکم» .

أو تعتقدون أنّ أهل الشام خلقوا من غیر طینتکم، أم لهم بقیة جسمیة وروحیة تختلف عنکم؟ کلا.

اللّهم الافارق واحد بینکما هو الاخلاق والمعنویات.

فهم یعملون ماذا یلزمهم من أجل القتال، إلّاأنکم لستم کذلک رعتم النعمة العظیمة التی من اللّه بها علیکم بان جعل لکم إماماً عادلاً مقتدراً. . . لقد أرعبتکم إمکاناتهم حتی انتهی بکم ذلک إلی الذل والهوان.

یا للاسف أن یبتلی زعیم مثلی برعیة مثلکم.

نعم دواؤهم کان فیهم کما ورد ذلک فی الشعر الذی یتسب إلی الإمام علیه السلام: دواؤک فیک وما تبصر وداؤک منک وما تشعر

ثم یختتم علیه السلام خطبته بالقول «أقولاً بغیر علم؟ وغفلة من غیر ورع؟ وطمعا فی غیر حق؟» .

أجل هذه هی العناصر التی تقف وراء بؤسکم وتعاستکم، فأنتم ترسلون الکلام علی عواهته دون أن تستندوا إلی علم أو معرفته، ثم ولیتم ظهورکم للورع والتقوی وانهمکتم فی الدنیا وغفلتم عن الآخرة، وأخیرا فانّکم تحلمون بالنصر دون أن تعدوا له عدّته.

هذه هی العوامل الثلاث (القول دون العمل والجهل المشوب بعدم التقوی والأمل بالنصر دون إعداد مقدماته) التی تهدد بالفشل والهزیمة کل أمّة وقوم.

أسباب الهزیمة والفشل

لاشک أن جیش الإمام علیه السلام وبفضل زعیمه الربانی المعروف بالجهاد والشجاعة فی میدان الحرب کان یمتلک کافة أسباب الانتصار علی العدو من جمیع النواحی، إلّاأنّه وللأسف قد شهد حالة من الضعف سلبته زمام المبادرة وزعزعت عوامل النصر، والمفروغ منه ان ذلک الضعف والوهن إذا دبّ فی أمّة فانّها لن تنتظر مصیراً أحسن من ذلک المصیر الذی ساد جیش الکوفة.

ص:148

وقد أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة التی نحن بصدرها إلی عناصر هذا الضعف والتی کان فی مقدمتها ترکهم للعمل وتمسکهم بالقول.

فقد کانت مجالسهم عامرة بالکلام ولا سیما عن القتال والحرب دون أن یعدوا العدة اللازمة و یأخذوا للحرب اهبتها، یکثرون من الکلام خلف الجبهات دون أن یجرأ أحدهم علی الاقتراب من الخطوط الأمامیة.

وکأنّ قدرة الأفراد الضعاف العجزة تترکز عادة فی الأقوال والمزاعم، ولعل الإمام علیه السلام أشار إلی هذا المعنی بقوله: «أقوالاً بغیر علم؟» سواء کان هذا العلم یعنی المعرفة أو الاعتقاد أو العمل، فالنتیجة واحدة لکل من هذه التفاسیر الثلاثة، لأنّ المعرفة بالشیء والاعتقاد به تدعو إلی العمل، أما ضعف العمل فانما یستند إلی عدم المعرفة والاعتقاد، الأمر الذی صرح به الإمام علیه السلام بقوله «العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل» (1)

العامل الآخر هو الغفلة وفقدان الورع، وبعبارة اُخری فانّ عدم الالتفات إلی الحقائق والواقعیات - الذی تفرزه حالة عدم التقوی.

إنّما یؤدی إلی إختراق الصفوف من قبل العدو، فی حین لا تصیب سهام هذا العدو اذا ما تحلت الاُمّة بالفطنة والذکاء المشوب بالتقوی بدلاً من الغفلة والتحلل من الورع والتقوی.

والعامل الاخیر هو الطمع فی ما لا یستحقون، أو بعبارة اُخری الطمع فی الشیء دون توفیر أسبابه.

فاننا نعلم بأنّ هنالک الأسباب التی ینبغی توفرها لتحقیق بعض الأهداف.

فقانون العلة والمعلول إلی جانب الإرادة الإلهیة هی التی تحکم الوجود برمته، وإن ظن بعض الجهال بیعض الاوهام والخیالات والمعادلات الساذجة کمقدمة لتحقیق الاهداف.

وقوله علیه السلام «طمعاً فی غیر حق» یمکن أن یکون إشارة إلی هذا المعنی، فانّهم کانوا یطمعون فی شئ لایستحقونه، إلّاأنّ بعض شرّاح نهج البلاغة ذهبوا إلی أنّ المراد بهذه العبارة أنّهم کانوا یطمعون بالمزید من عطائهم فی بیت المال، ویتمنون علی الإمام علیه السلام أن یعطیهم من بیت

ص:149


1- 1) نهج البلاغة، [1] الکلمات القصار، 366

المال أکثر من إستحقاقهم، فلما لم یلب الإمام علیه السلام طلبهم غیر المشروع صابهم الضعف والوهن فی القتال.

ومن الطبیعی أن یکون هذا التفکیر المادی أینما کان عاملاً من عوامل الفشل والهزیمة، کما فشل الجیش الإسلامی فی معرکة اُحد إثر انهماک الجنود فی جمع الغنائم واهتمامهم بالجوانب المادیة فی ذلک المیدان الجهادی العظیم.

علی کل حال فانّ هذه العوامل التی تؤدی إلی الهزیمة والفشل لاتقتصر علی جیش الکوفة فحسب، بل تهدد بالفشل کافة الجیوش علی مدی الدهور والعصور وأخیراً فالخطبة تصور مدی لوعة الإمام علیه السلام.

وذروة إستیائه، وهی کافیة فی توضیح عمق الظروف العصیبة التی عاشها الإمام علیه السلام.

ص:150

الخطبة الثلاثون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

فی معنی قتل عثمان وهو حکم له علی عثمان وعلیه وعلی الناس بما فعلوا وبراءة له من دمه.

نظرة إلی الخطبة

نعلم بأنّ الآراء قد اختلفت فی قتل عثمان، فهناک من ذهب إلی تقصیر عثمان وأنّه کان مستحقاً للقتل؛ فقد سلط بطانته علی بیت المال وأغدق علیهم المناصب الحساسة فی الحکومة، حتی قام الناس ضده دون أن یهب أحد من المسلمین لنجدته فکان الجمیع راضیاً بقتله.

بینما هناک من یعتقد بعدم صوابیة قتله وکان ینبغی أن یمنح فرصة التوبة لیتدارک بعدها ما فرط منه، وإن کان ولابدّ یخلعونه من الخلافة، أمّا قتله بتلک الصورة العلنیة إنّما هو بدعة، أضف إلی ذلک فانّ قتله أصبح ذریعة للمنافقین من أجل بث الفرقة والشقاق فی صفوف المسلمین.

و أخیراً هناک طائفة ضیقة النظر ممن لا تکلف نفسها عناء التحقیق والتفکیر فی سیرة

ص:151


1- 1) جاء فی مصادر نهج البلاغه أن هذه الخطبة جزء من رسالة کتبها الإمام علیه السلام حین خلافته، ثم ضمنها الحوادث التی أعقبت وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثم أمر علیه السلام بقراءتها علی الناس من أجل وحدة الرأی العام بهذا الشأن، کما احتمل أن تکون الخطب 26،54،78 هی الاُخری جزء من هذه الرسالة. ثم صرح بانّ هذه الخطبة وردت مع بعض التغییرات فی کتاب أنساب الاشراف (مصادر نهج البلاغه، 1 / 408) .

الخلیفة الثالث تراه الخلیفة المظلموم الذی قتل شهیداً، کما تنزه ساحته من کل نقص وعیب.

الإمام علیه السلام من جانبه وفی خضم هذه الآراء المتضاربة یکشف النقاب عن الحقیقة ویعرض بالتحلیل للمسائل المرتبطة بقتل عثمان.

ص:152

«لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَکُنْتُ قاتِلاً أَوْ نَهَیْتُ عَنْهُ، لَکُنْتُ ناصِراً، غَیْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ، لا یَسْتَطِیعُ أَنْ یَقُولَ: «خَذَلَهُ مَنْ أَنا خَیْرٌ مِنْهُ» وَمَنْ خَذَلَهُ، لا یَسْتَطِیعُ أَنْ یَقُولَ: «نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَیْرٌ مِنِّی» وَأَنا جامِعٌ لَکُمْ أَمْرَهُ، اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الْأَثَرَةَ، وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ وَلِلَّهِ حُکْمٌ وَاقِعٌ فِی الْمُسْتَأْثِرِ وَالْجَازِعِ» .

الشرح والتفسیر

عوامل قتل عثمان

کما ذکر فی بدایة الخطبة فانّها تعالج قضیة قتل عثمان والتعرض إلی العوامل التی دفعت إلی هذا القتل. فکلنا نعلم بان لقتل عثمان جذور معلومة نابعة من طبیعة أعماله وأفعاله، فقد أجمع المحققون علی أنّ سوء تدبیر عثمان فی ادارة دفة الحکم وتبدیل الحکومة بموروث قبلی والتطاول علی بیت المال والظلم والاضطهاد الذی مارسه أقربائه وبطانته بحق الناس قد أدی إلی غضب عام حتی انبرت طائفة مؤلفة من بضعة مئات لتحاصره فی داره وتهجم علیه وتقتله، وقد وقف ذلک الجیش الجرار الذی فتح مصر وبلاد الروم متفرجاً دون أن یحرک ساکنا؛ فقد کان ذلک الجیش ساخطاً علیه ویری ضرورة قتله، غیر أنّ الناس إنقسموا طائفتین بعد قتله:

طائفة - لعلها کانت تشکل الاکثریة - کانت راضیة بهذا القتل أو علی الأقل غیر مکترثة له بینما تری الطائفة الثانیة أنّه قتل مظلوماً.

وفی ظل هذه الظروف إنتهز المنافقون الفرصة لبث بذور الفرقة فی صفوف المسلمین وحرف مسیر الخلافة عن محورها الأصیل أمیر المؤمنین علی علیه السلام - والذی کان یخطی بتایید کافة أفراد الاُمّة - واستغلوا قضیة قتل عثمان کذریعة لتحقیق أطماعهم ومآربهم، وبعبارة اُخری فانّهم أحالوا قمیص عثمان إلی مناورة سیاسیة هدفها إغفال الاُمّة وصدها عن الحق.

ص:153

وبالطبع فانّ أفراد من کلا الطائفتین کانوا من ضمن صحب الإمام علیه السلام واتباعه، وإن کانت الطائفة الثانیة وعلی ضوء تصریحات بعضی المؤرخین تشکل الأقلیة، وعلیه فمن الطبیعی أن تکثر هذه الطائفة من سوالها لعلی علیه السلام عن قتل عثمان، فلم یکن أمام الإمام علیه السلام من بد سوی الاجابة التی تتضمن عکس الحقائق التأریخیة من جانبه وعدم منح هذا وذاک الفرصة بغیة إستغلالها ضد الدین.

فالخطیة رد علی مثل هذه الاسئلة الذی یتطرق فیه الإمام علیه السلام إلی بیان الحقائق التأریخیة دون منح العناصر الفاسدة الحجج والذرائع فقد قال علیه السلام: «لو أمرت به، لکنت قاتلاً، أو نهیت عنه، لکنت ناصراً» .

فمفهوم هذه العبارة هی أنی کنت محایداً فلم ألطخ یدی بدمه ولم أدافع عن زلاته، فالأمران ینطویان علی محاذیر.

و هنا یبرز هذا السؤال: کیف یمکن التوفیق بین مضمون هذه العبارة والوقائع التأریخیة؟

لاننّا نعلم جمیعا (و قد ذکر ذلک أغلب المؤرخین) أنّ الإمام علیه السلام نهی الناس عن قتل عثمان و قد بعث بالحسن والحسین علیه السلام إلی دار عثمان لیحولا دون زحف المعترضین، بل دخل علیه الإمام علیه السلام بالماء حین منعوه منه. وقد أورد الشرّاح جوابین علی السؤال المذکور:

فقال البعض المراد من عدم النهی هو النهی العملی؛ أی أننی لم أشهر السیف عملیاً ولم أقتحم المیدان دفاعاً عنه، وهذا لایتنافی ونهیه اللفظی علیه السلام وبعثه بالحسنین علیه السلام هناک.

بینما یری البعض لاخر أنّ هذا الکلام یفید أن الإمام علیه السلام لم یأمر قط بقتل عثمان، وإن کان یراه مستحقاً للعقاب علی أعماله، وعلیه وبغیة عدم تردی الاوضاع لأسوأ ممّا کانت علیه فقد دعا الناس إلی ضبط النفس والتخلی عن العنف، إلّاأنّه لم یفعل ما من شأنه توفیر الدعم الصریح لعثمان وأعماله وما یدر منه؛ وذلک لأنّه کما أن سفک دمه یخلق بعض المشاکل فی المجتمع الإسلامی، فانّ توفیر الدعم له والدفاع عن أعماله هو الآخر یسبب مشاکل لاتقل عن سابقتها، وعلیه فانّ الإمام علیه السلام لم یر فی أی من الأمرین (الأمر بالقتل والنهی عنه) ممّا تملیه علیه وظیفته الإسلامیة.

و قد أراد الإمام علیه السلام أن یعلن موقفه الصریح ویحول دون تفاقم الخلافات بشأن قتل عثمان من قبل الطائفتین التی تذهب إحداهما لضرورة قتله وتلک التی لاتراه مستحقاً للقتل.

ص:154

ثم قال علیه السلام: «غیر أن من نصره، لایستطیع أن یقول خذله من أنا خیر منه، ومن خذله لایستطیع أن یقول نصره من هو خیر منّی» ،

فالعبارتان تبینان موضوعاً واحداً وهو إتفاق الجمیع علی أن حماة عثمان آنذاک کانوا من طلحاء الاُمّة، بینما کان الأفراد الذین لم یمدوا له ید العون من کبار الصحابة من المهاجرین والأنصار.

فالشواهد التأریخیة تفید تواجد کبار صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله من المهاجرین والأنصار حین هجم الناس علی بیت عثمان، ولو کانوا یرتضون عثمان وأعماله لحالوا دون وصول الناس إلیه، الأمر الذی یدل علی تخلیهم عنه وعدم تقدیم أی دعم أو إسناد له.

أمّا الأفراد الذین هبوا للدفاع عن عثمان آنذاک فقد کانوا یمثلون أراذل المجتمع الإسلامی، و ما ذلک الدفاع إلّالمنافعهم اللامشروعة التی کانوا یحظون بها آنذاک.

وعلیه فقد کانت هذه المسألة واضحة فی أنّ حماة عثمان من أمثال مروان لم یجرأوا علی الزعم أنّهم خیر من المهاجرین والأنصار الذین لم یدعموا عثمان.

ومن المسلم به أن أولئک الذین تخلوا عن دعم عثمان لم یکونوا یرووا أن حاشیة عثمان وبطانته أفضل منهم، ومن هنا فقد إتفقت الآراء علی أن حماة عثمان لم یکونوا من أخیار الاُمّة.

فالعبارة غایة فی الروعة وقد أماطت اللثام عن أعمال عثمان بالشکل الذی أثار حفیظة کافة المسلمین.

ومن ذلک توزیعه أموال بیت المال علی قرابته وبطانته وتسلیطهم علی رقاب الناس إلی جانب الظلم والجور والاضطهاد وتضییع العدل والقسط.

وقد صرح بعض شرّاح نهج البلاغة (1)بان الکلام هو ردّ الإمام علیه السلام علی من قال بحضرته أنّ الفتنة من اُولئک الذین لم ینصروا عثمان، فلو نصره کبار الصحابة لما إجترأ جهال الاُمّة علی سفک دمه، ولو رأی کبار الصحابة وجوب قتله لکان علیهم إعلان ذلک وإزالة الشبهات عن أذهان الاُمّة.

فعلم الإمام علیه السلام أنه المقصور بذلک الکلام، فاورد هذه الکلمات.

ص:155


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم 2/57. [1]

علی کل حال فانّ الخطبة تبین أنّ الإمام علیه السلام إذا لم ینصر عثمان فانه لم یکن وحیداً فی هذا الأمر، بل کان هذا موقف کبار الصحابة، فلم الإشکال علی الإمام علیه السلام؟ ثم إختتم الإمام علیه السلام خطبته بتحلیل دقیق عن قتل عثمان، فقال علیه السلام: «و أنا جامع لکم أمره، استأثر (1)فأساء الاثرة، و جزعتم فأسأتم الجزع، ولله حکم واقع فی المستأثر والجازع» .

لقد صرح أحد الادباء العرب المشهورین بأنّ عبارات الإمام علیه السلام إتصفت بقلة الألفاظ وسعة المعانی، فالعبارة علی قلّة لفظها جامعة شاملة حیث أوضح الإمام علیه السلام فیها أنّ عثمان إرتکب خطاً جسیماً وأنتم کذلک.

فقد انتهج اسلوب الاستبداد والحکم الفردی وسلط بنی اُمیة علی رقاب الناس وأغدق علیهم بیت المال فلما تعالت أصوات المعارضة وقام المسلمون لم یعرهم آذانا صاغیة، فحاصروه وهجموا علیه فترکه کبار الصحابة من الأنصار والمهاجرون، من جانب آخر فانّ الناس لم یکتفوا بهدا الحد، وبدلاً من خلعه من الخلافة وطرد أزلامه من مواقع الحکومة عمدوا إلی اراقة دمه فخلقوا فتنة إمتدت لسنوات فی التأریخ الإسلامی، إلی جانب استغلالها من جانب المنافقین الذین تذرعوا بالمطالبة بدم عثمان لیسفکوا کثیرا من الدماء.

وبناءاً علی ما تقدم فانّ الفریقین قد سلکوا الافراط، وعلیه فانّ الله جازی کل منها بأعماله.

لقد کثر الکلام بشأن خلافة عثمان وآثارها: إلّاأنّ کلام الإمام علیه السلام ورغم قصر عباراته إلّا أنه أوجز کبد الحقیقة إلی جانب اصداره الحکم العادل بشأنه وشأن الجماهیر التی قتلته.

کما یستفاد من العبارة أن الاستبداد - رغم إنّه سیئ مهما کان - علی أنواع بعضها أسوأ من البعضی الآخر، واستبداد عثمان کان من النوع الاخیر.

کما أنّ التعبیر بالجزع عن الناس یشیر إلی مدی الغضب والاستیاء الذی سیطر علی الناس إثر الأعمال الشائنة لعثمان وبطانته.

ج ج

ص:156


1- 1) «إستأثر» من مادة «اثر» ، بمعنی الاستبداد کما صرح بذلک القاموس ومنه الحکومة الاستبدادیة لأنّهاحکومة فردیة، یستعبد فیها الفرد سائر الناس.

الخطبة الحادیة والثلاثون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

لما أنفذ عبد اللّه بن عباس إلی الزبیر یستفیئه إلی طاعته قبل حرب الجمل.

«لا تَلْقَیَنَّ طَلْحَةَ، فَإِنَّکَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ کَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، یَرْکَبُ الصَّعْبَ وَیَقُولُ «هُوَ الذَّلُولُ» وَلَکِنِ الْقَ الزُّبَیْرَ فَإِنَّهُ أَلْیَنُ عَرِیکَةً فَقُلْ لَهُ: «یَقُولُ لَکَ ابْنُ خالِکَ: عَرَفْتَنِی بِالْحِجازِ وَأَنْکَرْتَنِی بِالْعِراقِ فَما عَدا مِمّا بَدا»» .

الشرح والتفسیر

السعی لانقاذ الخاطئین

نعلم أنّ المعرکة الاولی التی فرضت علی أمیر المؤمنین علیه السلام کانت معرکة الجمل، حیث إتحد أنصار عثمان ومعارضیه بعد أن إصطحبوا معهم زوج رسول اللّه صلی الله علیه و آله عائشة فنقضوا البیعة واشعلوا فتیل واقعة الجمل طمعاً فی الخلافة.

ثم انتهت المعرکة بهزیمتهم وقتل مؤججی تلک النار طلحة والزبیر.

وتفید کافة الشواهد التاریخیه أنّ الإمام علیه السلام کان حریصاً علی عدم وقوع القتال لیس فی

ص:157


1- 1) قال صاحب مصادر نهج البلاغة [1]نقل هذا الکلام طائفة من العلماء ممن سبقوا المرحوم السید الرضی، منهم الزبیر بن بکار (طبق نقل ابن أبی الحدید والجاحظ. . .) وابن قتیبة فی عیون الأخبار وابن عبد ربّه فی العقد الفرید. والطریف، نقله حتی إبن خلکان فی وفیات الأعیان وشهد بصحته وهو من رفع رایة مخالفة نهج البلاغة. [2]مصادر نهج البلاغة 1 / 418. [3]

الجمل فحسب، بل فی صفین والنهروان، وکان یسعی جاهدا لاطفاء نار الحرب.

والخطبة التی نحن بصددها تعد أحد تلک الشواهد، فقد بعث الإمام علیه السلام قبل نشوب القتال برسوله عبد الله بن عباس إلی الزبیر بهذه الکلمات، فأثرت علیه وانسحب من المعرکة، حتی أدرکه إبن جرموز فی صحراء البصرة فقتله.

فقد خاطب الإمام علیه السلام ابن عباس قائلاً: «لاتلقین طلحة فانک إن تلقه تجده کالثور عاقصاً (1)قرنه، یرکب الصعب ویقول: هو الذلول» .

تشبیهه لطلحة بالثور الذی یعقص قرنه إما أن یکون أراد به طغیانه وسوء خلقه، أو عدم سماعه للحق بفعل طاعته لهوی نفسه.

فالواقع أنّ العبارة تفید تحلیله لنفسیة طلحة ویأسه من تأثیر الکلام فیه بشأن الکف عن القتال وإلّا فانسعاب من المعرکة، إلّاأنّه لم یقطع أمله من الزبیر (و قد دلت الحوادث اللاحقة أنّ الإمام علیه السلام کان محقا فی أمله) فأضاف علیه السلام قائلاً: «ولکن الق الزبیر فانّه ألین عریکة» . (2)

فالعبارة: «ألین عریکة» واستنادا إلی «عریکة» التی تعنی الطبیعة، تفید تسلیم الزبیر للحق إذا سمعه، ولا سیما إذا کان قد صدر من رسول الله صلی الله علیه و آله، علی العکس من طلحة الذی کان یتصف بالأنانیة واللجاجة والطغوی وحبّ الجاه والمقام الذی أعمی بصره وبصیرته وأصم سمعه عن سماع الحق.

ومن هنا ذکر المؤرخون أنّ الزبیر أخذته رعدة شدیدة حین دخل البصرة وعلم أنّ عمار فی جیش الإمام علیه السلام حیث تذکر حدیث رسول الله صلی الله علیه و آله لعمار:

«و یحک یابن سمیة تقتلک الفئة الباغیة» .

فخشی أن یقتل عمار فی المعرکة، فیکون هو جزءاً من الفئة الباغیة.

علی کل حال قال الإمام علیه السلام لابن عباس: «فقل له یقول لک ابن خالک: عرفتنی بالحجاز وأنکرتنی بالعراق؟ فما عدا ممّا بدأ؟» .

ص:158


1- 1) «عاقصا» من مادة «عقص» بمعنی التوی قرناه علی أذنیه
2- 2) «عریکة» من مادة «عرک» بمعنی الطبیعة، ولین العریکة بمعنی السلس، کما تأتی بمعنی إشتباک الشئ ومن هنا إطلقت المعرکة علی إشتباک الأفراد.

فالعبارة إشارة إلی التأریخ الجهادی العظیم للإمام علی علیه السلام علی عهد النبی صلی الله علیه و آله والذی لم یکن خافیاً علی أحد بما فیهم الزبیر الذی کان یقاتل إلی جانب رسول الله صلی الله علیه و آله.

فقد ورد فی الاخبار أنّ علیاً علیه السلام برز بین الصفین حاسراً، وقال: لیبرز الیّ الزبیر، فبرز إلیه مدججاً، فقیل لعائشة: قد برز الزبیر إلی علی علیه السلام، فصاحت: وزبیراه!

فقیل لها: لا بأس علیه منه، إنّه حاسر والزبیر دارع.

فقال له علیه السلام: ما حملک یا أبا عبدالله علی ما صنعت؟ قال: أطلب بدم عثمان، قال: أنت وطلحة ولیتماه، وإنّما نوبتک من ذلک أن تقید به نفسک وتسلمها إلی ورثته، ثم قال له: نشدتک الله أتذکر یوم مررت بی ورسول الله صلی الله علیه و آله متکی علی یدک، وهو جاء من بنی عمرو بن عوف، فسلم علیَّ وضحک فی وجهی، فضحکت إلیه، لم أزده علی ذلک، فقلت: لا یترک ابن أبی طالب یا رسول الله زهوه!

فقال لک «مه إنه لیس بذی زهو، أما إنّک ستقاتله وأنت له ظالم»

فقال الزبیر: إنا لله وإنا إلیه راجعون، لقد کان کذلک، ولکن الدهر أنسانیه، ولانصرفن عنک. فانصرف من المعرکة (1).

فالعبارة السابقة قد تکون إشارة إلی هذا الأمر. جدیر بالذکر أن الزبیر کان من محبی علی علیه السلام وقد هب للدفاع عنه حتی فی حادثة السقیفة وشهر سیفه، فقام له القوم وکسروا سیفه، إلی جانب ذلک فقد منح رأیه لعلی علیه السلام فی الشوری التی شکلها عمر لانتخاب الخلیفة من بعده.

علی کل حال فان هذه العبارة أثرت فی الزبیر وکان شکه یتزاید یوماً بعد آخر.

بمشروعیة الطریق الذی سلکه حتی إتخذ قراره باعتزال القتال فاتجة الصحراء لیکمن له أحد الظلمة - ابن جرموز - فارداه قتیلاً ولم یسعه تدارک ما فرط منه.

أمّا قوله علیه السلام: «ابن خالک» فهو تعبیر لطیف جدا، وهو من باب الاستمالة والاذکار بالنسب والرحم، فقد کان الزبیر ابن صفیة أخت أبی طالب، وعلیه فالزبیر ابن عمة علی علیه السلام وعلی علیه السلام ابن خاله.

ص:159


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 167. [1]

والعبارة تهدف إلی بیان کافة الاُمور التی سمعها الزبیر من رسول الله صلی الله علیه و آله بشأن علی علیه السلام ومن هنا فقد کان شدید الحب لعلی، إلّاأنّ حب الجاه - الذی کان الدافع الرئیسی لحرب الجمل - کالحجاب الذی حال دون رویته لتلک الحقائق، فکان لهذه العبارة فعلها فی نفسه حیث أزالت عنه ذلک الحجاب وجعلته یعود إلی الحق.

قال المرحوم السید الرضی فی ذیل هذه الخطبة: «وهو علیه السلام أول من سمعت منه هذه الثلمة؛ أعنی فما عدا ممّا بدا» .

وهی عبارة بعیدة المعنی، تشیر إلی مسألة وهی: ما الذی صرفک عن الحق بعد أن اتضح لدیک إلی الباطل (1). والعبارة من الروعة واللطافة بحیث أصبحت مثلاً فی الادب العربی.

تأمّلات

1- رد فعل الزبیر تجاه رسالة الإمام علیه السلام

ورد فی بعض الروایات أنّ ابن عباس قال: حین أبلغت الزبیر رسالة الإمام علیه السلام أجابنی: قل لعلی علیه السلام إنی اُرید ما ترید. (2)

أی إنّک تبتغی الحکومة، فلم لا أطلبها أنا. فقد بلغ به الطمع وحبّ الجاه درجة جعلته یعتقد بأنّ علیاً علیه السلام إنّما نهض بالأمر طلباً للحکومة - ولکن وکما أوردنا سابقاً فانّ الزبیر لم یستطع الوقوف بوجه الحق، فما کان منه إلّاأنّ إعتزل القتال وانصرف وإن کانت خطوته متأخرة.

2- قطوف من سیرة طلحة والزبیر

طلحة من قریش وأبوه عبدالله بن عثمان من السابقین فی الإسلام وقد شهد غزوات رسول الله صلی الله علیه و آله، ولم یشهد یدرا حیث وجهه رسول الله صلی الله علیه و آله حینها إلی الشام فلما عاد طالب بسهمه من الغنائم.

ص:160


1- 1) «عدا» به معنی الصرف والاعادة، وفاعله ضمیر مستتر یعود إلی ما، ویحتمل أن تکون من فی ممّا بمعنی عن، و بدا من مادة بدو بمعنی الظهور.
2- 2) مصادر نهج البلاغة 1 / 411. [1]

فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله: لک سهمک وأجرک. وقیل آخی رسول الله صلی الله علیه و آله فی مکة بین طلحة و الزبیر، وآخی بین طلحه وأبی أیوب فی المدینة. وروی عن طلحة أنّ النبی صلی الله علیه و آله أسماه یوم أحد طلحة الخیر. أمّا قتاله مع رسول الله صلی الله علیه و آله فی حرو به فمما لا شک فیه مع ذلک فقد کان محباً للجاه و المقام حتی تغییر نهجه بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله، کما کانت تسمع منه بعض الکلمات ومن ذلک قوله أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله یأمر بنات أعمامنا بالاحتجاب منا، ویتزوج بنسائنا بعد إنفصالهن عنا: فما الذی یغنیه حجابهن الیوم وسیموت غدا فننکحهن، وهنا نزلت آیة التحریم بالزواج من نساء النبی صلی الله علیه و آله (1)فقد ذکر الفخر الرازی فی سبب نزول الآیة أن طلحة قال: «سأتزوج من عائشة إذا مات رسول الله صلی الله علیه و آله» . فنزلت آیة تحریم الزواج من نساء النبی صلی الله علیه و آله بعد وفاته. (2)

وورد فی قصة الشوری التی شکلها عمر أنه أقبل علی طلحة وقال: أقول أم أسکت؟ فقال طلحة: قل، فانّک لا تقول من الخیر شیئاً. فقال عمر: لقد مات رسول الله صلی الله علیه و آله ساخطاً علیک بالکلمة التی قلتها یوم اُنزلت آیة الحجاب. (3)

علی کل حال کان من أشد الناقمین علی عثمان، ومن هنا کان یراه مروان من قتلة عثمان، وقد رماه بسهم فی الجمل فقتله، وقال: الآن أدرکت دم عثمان من طلحة. وقد دفعه حبّ الجاه لاشعال فتیل الجمل وسفک دماء المسلمین ولم یظفر بالخلافة حتی قتل فی معرکة الجمل. وذکر البعض أنّ الإمام علیه السلام حدثه ببعض الکلمات عی غرار الزبیر فندم وانصرف من المعرکة فرماه مروان بسهم فقتله. إلّاأنّ الخطبة تفند هذا الکلام، فهی تفید یأس الإمام علیه السلام من هدایته وعودته إلی الحق. وفی روایة أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام مر یقتلی الجمل فقال بشأن طلحة هذا من نکث بیعتی و أشعل نار الفتنة وألب الناس علی قتلی وأهل بیتی» ثم خاطبه علیه السلام: یا طلحة إنّی وجدت ما وعدنی ربّی حقاً فهل وجدت ما وعد ربک حقاً، ثم انصرف. فقال له بعض أصحابه: أتکلمه بعد الموت یا أمیرالمؤمنین. فقال علیه السلام والله لقد سمعنی کما سمع الکفّار کلام رسول الله صلی الله علیه و آله وهم قتلی فی قلیب یدر (4).

ص:161


1- 1) سورة الاحزاب / 53؛ الدر المنثور 5 / 214.
2- 2) تفسیر الفخر الرازی 25 / 225.
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 184. [1]
4- 4) الاحتجاج للطبرسی، نقلا عن سفینة البحار، مادة (طلح) .

وهنا یبرز هذا السؤال وهو أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یثنی أحیانا علی طلحة، حتی ذهب البعض إلی أنّه من العشرة المبشرة بالجنّة، فکیف یصح هذا الثناء؟ ونقول فی الجواب علی فرض أنّ هذا الکلام صحیح، فانّ الإنسان یعیش بعض المراحل المتألقة فی سنی حیاته بحیث یکون یوماً إلی جانب الحق ویستحق الجنّة، ویوماً یخرج من هذا الحق ویلتحق فی صفوف الباطل فیستحق غضب الله وسخطه. فالتأریخ الإسلامی حافل بالأفراد الذین کانوا علی الحق وهجروه إلی الباطل أو بالعکس، وإلّا فمن یسعه القول بأحقیة من أجج نار الحرب ضد إمام زمانه وسفک کل هذه الدماء؟ فهل من انسجام بین هذا الکلام والمنطق؟ والشاهد علی ما قلنا ما صرح به القرآن الکریم بشأن السابقین فی الإسلام من المهاجرین والأنصار والتابعین، الذین وعدهم بالجنّة «وَالسّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِینَ وَالأَنْصارِ وَالَّذِینَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِی تَحْتَها الأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها أَبَداً ذ لِکَ الفَوْزُ العَظِیمُ» . (1)

فالآیة تشمل جمیع المهاجرین والأنصار، بینما نعلم هنالک من انحرف منهم عن الحق کعبد الله بن أبی سرح (2)وثعلبة ابن حاطب الأنصاری (3)فاستحقوا غضب الله وسخطه، وقد کانوا من المهاجرین والأنصار الذین وقفوا إلی جانب رسول الله صلی الله علیه و آله؟ کما نعلم أن بعض المنافقین الذین ذمّهم القرآن بشدّة کانوا من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله. وعلی هذا الضوء فلابدّ من تقییم أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله علی ضوء أعمالهم حتی آخر أعمارهم، وإلّا شهدنا حالة من التناقض لا یمکن الخروج منها بتبریر وأما الزبیر فهو الزبیر بن العوام واُمّه صفیة عمة رسول الله صلی الله علیه و آله اسلم فی الخامسة عشرة من عمره وهو رابع أو خامس من أسلم، هاجر إلی الحبشة ثم قدم

ص:162


1- 1) سورة التوبة / 100. [1]
2- 2) ورد ذمه فی تفسیر الآیة 93 من سورة الانعام فی الدر المنثور (الدر المنثور 3 / 30) [2] وذکر صاحب أسدالغابة أنه کان من کتاب الوحی ثم ارتد فأمر رسول الله صلی الله علیه و آله بقتله (اسد الغابة، شرح أخبار عبدالله بن سعد بن أبی سرح) .
3- 3) جاء فی أسد الغایة فی معرفة الصحابة فی أخبار هذا الرجل أن النبی صلی الله علیه و آله طرده، کما طردهالخلقاء الثلاثة (ابوبکر وعمر وعثمان) ولم یقبلوا زکاته، رغم قوله أنه من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله حتی توفی فی خلافة عثمان.

المدینة، وقد أخی رسول الله صلی الله علیه و آله بینه وبین عبدالله بن مسعود. شهد غزوات رسول الله صلی الله علیه و آله فی بدر وأحد والخندق وحنین وقد اُبلی فیها بلاءً حسناً حتی أثنی علیه رسول الله صلی الله علیه و آله. وکان أحد أعضاء الشوری الذی بایع علیاً علیه السلام ولم یبایعه طلحة. وللاسف فانّ حب الجاه وتأثیر طلحة قد دفعه للانحراف عن الحق فاشترک مع طلحة فی تأجیج نار الجمل التی فرقت صفوف المسلمین وأراقت دمائهم بعد أن نقض البیعة. وقد ذکر المؤرخون انه إستمع لمواعظ علی علیه السلام قبل بدء المعرکة فعاد إلی الحق وانسحب من المیدان فاتجه صوب صحراء تعرف باسم «وادی السباع» فلما وقف للصلاة تقدم نحوه ابن جرموز فقتله حین الصلاة وانتزع خاتمه وسیفه فاتی بها إلی الإمام علیه السلام.

فاستاء الإمام علیه السلام وقال: «هذا السیف طالما فرج الکرب عن وجه رسول الله» وقیل إنّ الإمام علیه السلام لم یأذن لابن جرموز بالدخول علیه وقال: «بشر قاتل ابن صفیة بالنار» وقال البعض أنّ ابن جرموز غضب غضباً شدیداً فقتل نفسه. وقد صرحت بعض المصادر التأریخیة أن معاویة هو الذی شجع طلحة والزبیر علی نقض البیعة والقیام ضد علی علیه السلام (1).

لا شک إنّ قضیة طلحة والزبیر بینبغی أن تکون لنا درساً وعبرة فلا ننغر بأعمالنا، وکیف أنّ الإنسان یعیش مع الحق ویجاهد فی سبیله ثم یستلل حب الدنیا والحیاه إلی قلبه فیقوده إلی الباطل اللّهم إجعل عاقبة أمرنا خیراً.

3- شروط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر

لقد تضمنت رسالة الإمام علیه السلام الإشارة إلی أحد الشروط المهمّة للأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، ألا وهو إحتمال التأثیر.

فقد قال علیه السلام: «لا تلقین طلحة فانک إن تلقه تجده کالثور عاقصاً قرنه، ولکن إلق الزبیر فانه ألین عریکة» فمن الطبیعی أنّ طاقة الإنسان وقدرته محدودة ولابدّ له من استهلاکها فی محلها الذی یتوقع فیه التأثیر.

فاذا أحتمل عدم التأثیر فلا ینبغی له أن یصرف جهده عبثاً، وبالطبع فقد قلنا احتمال التأثیر ولیس الیقین فیتعلل بعدم الأمر لعدم وجود الیقین فی التأثیر! کلا إلی جانب ذلک

ص:163


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 231.

ینبغی معرفة المعروف والمنکر وعدم وجود الخطر آنذاک تبرز وظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

ویفهم من رسالة الإمام علیه السلام أنّ لبعض الناس طباع کطباع الحیوانات فالبعض کالثعلب أو الذئب وبعضهم شجاع کالأسد وآخر من أهل الشهوات کالخنزیر وبعضهم جاهل کالبقر و. . . و قد شبه الإمام علیه السلام طلحة بالبقر العاقص القرن حیث یستکبر فی التسلیم إلی الحق ویخطی فی إدراک الواقع وتمییزه، وإذا اتجه صوب الأعمال العصیة ظنها سهلة حتی تؤدی به إلی الفشل.

ص:164

الخطبة الثانیة و الثلاثون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها یصف زمانه بالجور، ویقسم الناس فیه خمسة أصناف، ثم یزهد فی الدنیا.

نظرة إلی الخطبة

تتألف الخطبة من أربعة أقسام:

القسم الأول یتحدث عن الوضع المأساوی للمجتمع علی عهد الإمام علیه السلام والمشاکل التی کانت تعترض سبیل الصلحاء والأتقیاء. ویصنف الإمام علیه السلام الناس فی القسم الثانی آنذاک (ولعله فی کل عصر ومصر) إلی أربعة أصناف:

أ - الصنف الأول من یقعد به عن طلب الإمرة قلّة ماله، وحقارته فی نفسه. فهو مغتم فی الواقع لعدم إمتلاکه الامکانات.

ب - الصنف الثانی من یشمر ویطلب الامارة ویفسد فی الأرض ویکاشف

ج - الصنف الثالث من یتظاهر بالدین ویطلب به الدنیا لا الآخرة

د - الصنف الرابع من لامال له أصلاً، ولا یکاشف، ویطلب الملک ولا یطلب الدنیا بالریاء والناموس، بل تنقطع أسبابه کلها فیخلد إلی القناعة، ویتحلی بحلیة الزهادة فی اللذات الدنیویة، لاطلباً للدنیا، بل عجزاً عن الحرکة فیها، ولیس بزاهد علی الحقیقة.

ص:165


1- 1) نقل هذه الخطبة محمد بن طلحة الشافعی فی کتاب مطالب السئول وأضاف أنّ الإمام علیه السلام خطبها فی مسجد الکوفة، ویتضح من هذا أنّ له سند غیر نهج البلاغة، لأنّ نهج البلاغة لم یشر إلی موضع الخطبة. کما رواها الجاحظ فی البیان والتبیین، وأنّ أخطأ فی البدایة حیث نسبها إلی معاویة إلّاأنّه یعترف أخیراً بأنها لاتشبه کلام معاویة وهی من کلمات علی بن أبی طالب. مصادر نهج البلاغة 1 / 417.

ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی بیان خصائص کل صنف من هذه الأصناف الأربعة - التی تعیش فی کل مجتمع، ویتحدث القسم الثالث عن صنف آخر ذکره الإمام علیه السلام بصورة مستقلة وهم الأبرار الأتقیاء الذین أراق دموعهم خوف الآخرة.

ثم یقسمهم الإمام علیه السلام إلی عدّة أقسام ویذکر صفات کل قسم منهم، أمّا القسم الرابع والأخیر من الخطبة فیدعو فیه الإمام علیه السلام الناس إلی الزهد وعدم الاغترار بالدنیا الذی یقود إلی الذنوب والمعاصی. وقد بین حق الکلام بعبارات قصیرة.

ج ج

ص:166

القسم الأول: الدهر وضیاع القیم

اشارة

«أَیُّها النّاسُ إِنّا قَدْ أَصْبَحْنا فِی دَهْرٍ عَنُودٍ، وَزَمَنٍ کَنُودٍ، یُعَدُّ فِیهِ الْمُحْسِنُ مُسِیئاً وَیَزْدادُ الظّالِمُ فِیهِ عُتُوّاً. لا نَنْتَفِعُ بِما عَلِمْنا، وَلا نَسْأَلُ عَمّا جَهِلْنا وَلا نَتَخَوَّفُ قارِعَةً حَتَّی تَحُلَّ بِنا» .

الشرح والتفسیر

إستهل الإمام علیه السلام الکلام بخطاب عامة الناس ثم أشار الإمام علیه السلام فی الخطبة إلی الزمن الذی کان علیه الناس فقال:

«أیّها الناس أنا قد أصبحنا فی دهر عنود، وزمن کنود» .

طبعا لیس المراد بالزمن الأیام والیالی والشهور والسنین بحیث توصف بالقبح والحسن والبغض والتنکر، بل أهل العصر والزمان الذین یتصفون بهذه الصفات، فاذا ما ذکر الزمان بالحسن والقبح فالمراد الناس، وإلّا فلیس هنالک من تغییر فی شروق الشمس أو القمر ولا فی حرکة القمر حول نفسه أو حول الشمس.

فالشمس تشرق والمطر ینزل والأرض تخرج برکاتها للبشر ولا من تغییر، إلّاأنّ الناس هم الذین یوصفون بسوء الأعمال وحسنها.

فقد عاش الإمام علیه السلام فی عصر لم یسع أغلب أفراده - سوی النزر الیسیر - إدراک عظمة روحه وسعة فکره والاحاطة بفضائله ومناقبه، وقد أدت بهم الثروات العظیمة التی أفرزنها الفتوحات الإسلامیة واتساع رقعة البلاد إلی التکالب علی الدنیا والتهافت علی زینتها والحرص علی جمع الأموال وحب الجاه والمقام وتناسی القیم والمبادئ.

ص:167

ثم تناول الإمام علیه السلام بعض خصائص الزمان آنذاک والذی یتصف بعناد الناس وجحودهم لیصفه فی خمس عبارات فقال: «یعد فیه المحسن مسیئاً ویزداد الظالم فیه عتوا» أو یمکن أن یتهم المحسن بالاثم ویثنی علی الظالم؟ بلی إذا تغیّرت قیم المجتمع عد المحسن مسیئاً والمسییء محسناً.

فإذا کان المال والثراء والقوة هی القیم ومعاییر الشخصیة، فستکون الصدارة فی ذلک المجتمع للظلمة والطغاة والجبابرة، بینما تمیع فی هذا المجتمع شخصیة المحسنین الذین یمدون ید العون إلی الفقراء والضعفاء وینفقون علیهم الأموال وینعتونهم بالحماقة والبلاهة.

وقد أشار القرآن الکریم إلی بعض نماذج الفساد الذی طال المجتمعات البشریة بفعل فساد التعامل مع القیم والتنکر لها ومن ذلک ما أورده بشأن قوم لوط الذین عزموا علی إخراج نبیّهم ومن معه من المؤمنین الصالحین ولا ذنب لهم سوی الطهر والعفاف «وَما کانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْیَتِکُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ یَتَطَهَّرُونَ» (1).

کما اعتبر الظلمة من قوم نوح تلک الثلة الخیرة التی آمنت باللّه والنبی بأنّها من أراذل القوم والسذج الذین لیس لهم من مزیة علی من سواهم « «ما نَراکَ إِلّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراک اتَّبَعَکَ إِلّا الَّذِینَ هُمْ أَراذِلُنا بادِیَ الرَّأْیِ وَما نَری لَکُمْ عَلَیْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّکُمْ کاذِبِینَ» . (2)

نعم إذا فسد الناس وازداد حجم الظلم والاضطهاد تغیر وجه المجتمع وغیبت فیه القیم، وازداد الظالم طغیاناً وتجبرا وعدّ المحسن مجرما فیقصی من ذلک المجتمع.

ولیس هنالک من نتیجة سوی ما أشار إلیها الإمام علیه السلام: «لاننتفع بما علمنا، ولا نسأل عمّا جهلنا» .

والواقع أنّ هذه أسوأ حالة یعیشها الفرد أو المجتمع، أی أنّه لایستثمر علومه ومعارفه فی حل مشاکله ولایهم بالقضاء علی الجهل و الاقبال علی العلم، ولیس هنالک من نتیجة لهذین الأمرین سوی العوم فی بحر الجهل والجریمة، وهذا هو حال کافة الأفراد الذین یغضون الطرف عن مفاسد المجتمع ولایرون لأنفسهم من مسؤولیة فی ردعها سواء من خلال الیأس من

ص:168


1- 1) سورة النمل / 56. [1]
2- 2) سورة هود / 27. [2]

الإصلاح أو التعود علی هذا الفساد والتکیف معه.

ثم قال: «ولا نتخوف قارعة حتی تحل بنا.» الجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام أورد العبارات الأخیرة بصیغة التکلم مع الغیر وینسبها إلی نفسه ومن حوله؛ مع القطع بأنّه مبرأ من ذلک بفضل عصمته وورعه وتقواه، ولعل العبارة تهدف عدم جرح مشاعرهم وإثارة حفیظتهم فیجعل نفسه کأحدهم فی مثل هذه الاُمور.

تأمّلان

1- ما مفهوم فساد الزمان؟

ذکرنا آنفا أنّ الزمان لایراد به هنا المّدة الزمنیة لحرکة الشمس والقمر (أو دوران الأرض حول نفسها والشمس) فالأزمنة متشابهة ذاتاً، والأشخاص هم الذین یتغیرون والحوادث والواقائع التی تجعل العصر والحیاة حلوة أو مرة.

و علیه فاذا قیل بفساد الزمان فالمراد فساد الناس.

ویصدق هذا الأمر علی المکان أیضاً، فاذا قیل أنّ المنطقة الفلانیة أو البلد الفلانی فاسد فالمقصود فساد أهل تلک المنطقة أو ذلک البلد.

وبالطبع فان هنالک من یحاول استغلال هذه العبارات لیجعل من فساد الزمان أو المکان ذریعة لفساده وانحطاطه.

فاذا سئل عن سبب فساده وانحرافه، إنبری للجواب: وماذا أفعل فقد فسد العصر أو البیئة التی أعیش فیها، والحال هو ومن حوله مصدر الفساد. ولعلنا نلمس هذا المعنی فی الاشعار التی تنسب إلی عبدالمطلب جد النبی صلی الله علیه و آله حیث أنشد قائلاً: و یعیب الناس کلهم زمانا

و من البدیهی أنّ زوال فساد الزمان مرهون بتغییر الناس فیشملوا بلطف الله وعنایته «إِنَّ اللّهَ لا یُغَیِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّی یُغَیِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (1). وبذلک فالإنسان هو المقصر الأصلی علی کل حال.

2- التنکر للقیم

المسألة التی تلعب دوراً مهما فی مصیر المجتمعات البشریة والتی قد یغفل عنها الأعم الأغلب من الناس إنّما تتمثل بنظام القیم والمبادی التی تسود المجتمع.

فالمجتمع إنّما ینطلق فی مسیرته نحو المثل والقیم التی یلهمها لأفراده والمقرة من قبلهم، وعلیه فالمجتمع یتجه نحو التأکل والزوال إذا ما شهد تغیبب القیم والمبادئ.

ونقصد بالمجتمع حرکة جمیع أفراده ولایقتصر ذلک علی بعض الأفراد الذین یتحلون بالایمان والتقوی فیقفون دائما ضد حالات الفساد والانحراف.

وبناءاً علی ما تقدم فانّ القیم المقرة فی المجتمع إذا کانت تتجسد فی المال والثروة فانّ کافة الأفراد سیتجهون نحو الثراء کهدف دون الإکتراث لمسائل الحلال والحرام.

والإنسان یتجه بوحی من طبعه إلی صنع الشخصیة ولایأل جهدا فی السعی لتحقیق هذا الأمر، فاذا کانت القیم السائدة تتمثل بالشخصیة الکاذبة فان الأفراد سیتحرکون لامحالة لمثل هذه الشخصیة.

والشباب عادة یلهثون خلف السمعة والشهرة ویعشقون الابطال، و علیه فلا یبدو غریباً تقلید الشباب لهؤلاء الابطال حتی فی الثیاب واسلوب المشی، ولو کان هؤلاء الابطال هم العلماء والمفکرین فمن الطبیعی أن ینطلق الشباب نحو العلم والمعرفة.

بالمناسبة هنالک قصة طریفة مشهورة بشأن العلّامة الکبیر الشیخ البهائی، حیث قرر الشاه عباس الصفوی مکافئة جهوده العلمیة وخدماته العمرانیة بتقدیم هدیة تلیق بشأنه، فطلب الشیخ أن یستقل مرکبه الخاص ویمشی الشاه خلفه لمسافة معینة فی الشوارع والازمة -

ص:169


1- 1) سورة الرعد / 11. [1]

و من البدیهی أن زوال فساد الزمان مرهون بتغییر الناس فیشملوا بلطف الله وعنایته «إِنَّ اللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّی یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (1)» وبذلک فالإنسان هو المقصر الأصلی علی کل حال.

٢- التنکر للقیم

المسألة التی تلعب دورا مهما فی مصیر المجتمعات البشریة والتی قد یغفل عنها الأعم الأغلب من الناس إنما تتمثل بنظام القیم والمبادی التی تسود المجتمع.

فالمجتمع إنما ینطلق فی مسیرته نحو المثل والقیم التی یلهمها لأفراده والمقرة من قبلهم، وعلیه فالمجتمع یتجه نحو التأکل والزوال إذا ما شهد تغیبب القیم والمبادئ.

ونقصد بالمجتمع حرکة جمیع أفراده ولا یقتصر ذلک علی بعض الأفراد الذین یتحلون بالامان والتقوی فیقفون دائما ضد حالات الفساد والانحراف

وبناء علی ما تقدم فان القیم المقرة فی المجتمع إذا کانت تتجسد فی المال والثروة فان کانة الأفراد سیتجهون نحو الثراء کهدف دون الإکتراث لمسائل الحلال والحرام والإنسان یتجه بوحی من طبعه إلی صنع الشخصیة ولایأل جهدا فی السعی لتحقیق هذا الأمر، فاذا کانت القیم السائدة تتمثل بالشخصیة الکاذبة فان الأفراد سیتحرکون لامحالة لمثل هذه الشخصیة.

والشباب عادة یلهثون خلف السمعة والشهرة ویعشقون الأبطال، و علیه فلا یبدو غریبة تقلید الشباب لهؤلاء الأبطال حتی فی الثیاب واسلوب المشی، ولو کان هؤلاء الأبطال هم العلماء والمفکرین فمن الطبیعی أن ینطلق الشباب نحو العلم والمعرفة.

بالمناسبة هنالک قصة طریفة مشهورة بشأن العلامة الکبیر الشیخ البهائی، حیث قرر الشاه عباس الصفوی مکافئة جهوده العلمیة وخدماته العمرانیة بتقدیم هدیة تلیق بشأنه، فطلب الشیخ أن یستقل مرکبه الخاص ویشی الشأه خلفه لمسافة معینة فی الشوارع والازمة

ص:170


1- سورة الرعد 11.

فالواقع أراد الشیخ بهذا العمل أن یثبت بأنّ القیم والمثل التی تسود المجتمع ینبغی أن تتمحور حول العلم والمعرفة.

و قد قیل أنّ إقبالاً منقطع النظیر قد حدث للعلم بما لم یشهده أبداً فی السابق. جدیر بالذکر أنّ القیم والمثل التی کانت تحکم المجتمع الجاهلی قبل الإسلام مصداقاً لقوله علیه السلام: «بأرض عالمها ملجم وجاهلها مکرم» . (1)

حیث أبطالها هم أبوسفیان وأبوجهل وأمثالهما، حتی انبثق الإسلام لیرفع شعار التقوی «إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ» فیقضی علی اولئک الابطال الکاذبین ویستبدلها بالابطال من قبل أبی ذر وأمثاله. وممّا یؤسف له أن هناک بعض الأعمال الخاطئة التی وقعت فی عصر الخلافة الراشدة فادت إلی تغییب تلک القیم الإسلامیة المثلی لتعود النعرة الجاهلیة من جدید فتصدر المجتمع عمرو بن العاص وأبو موسی الاشعری بدلاً من مالک الاشتر وأبی ذر وعمار بن یاسر؛ الأمر الذی کان یدمی قلب الإمام علیه السلام، وأدنی ذلک ما أورده علیه السلام بقوله «یعد فیه المحسن، مسیئا ویزداد الظالم فیه عتواً» .

ومن هنا کان هدف الإمام علیه السلام فی أغلب خطبه فی نهج البلاغة یکمن فی إحیاء القیم والمثل التی کانت سائدة فی صدر الإسلام.

ج ج

ص:171


1- 1) نهج البلاغة، الکلمات القصار، 126.

ص:172

القسم الثانی: الناس أربعة أصناف

اشارة

«فَالنّاسُ عَلَی أَرْبَعَةِ أَصْنافٍ: مِنْهُمْ مَنْ لا یَمْنَعُهُ الْفَسادَ فِی الْأَرْضِ إِلاَّ مَهانَةُ نَفْسِهِ، وَکَلالَةُ حَدِّهِ، وَنَضِیضُ وَفْرِهِ. وَمِنْهُمْ الْمُصْلِتُ لِسَیْفِهِ، وَالْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ، وَالْمُجْلِبُ بِخَیْلِهِ وَرَجِلِهِ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ، وَأَوْبَقَ دِینَهُ لِحُطامٍ یَنْتَهِزُهُ، أَوْ مِقْنَبٍ یَقُودُهُ، أَوْ مِنْبَرٍ یَفْرَعُهُ. وَلَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَی الدُّنْیا لِنَفْسِکَ ثَمَناً، وَمِمّا لَکَ عِنْدَ اللّهِ عِوَضاً!

وَمِنْهُمْ مَنْ یَطْلُبُ الدُّنْیا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَلا یَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْیا قَدْ طامَنَ مِنْ شَخْصِهِ، وَقارَبَ مِنْ خَطْوِهِ وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمانَةِ، وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللّهِ ذَرِیعَةً إِلَی الْمَعْصِیَةِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ الْمُلْکِ ضُئُولَةُ نَفْسِهِ، وَانْقِطاعُ سَبَبِهِ فَقَصَرَتْهُ الْحالُ عَلَی حالِهِ، فَتَحَلَّی بِاسْمِ الْقَناعَةِ، وَتَزَیَّنَ بِلِباسِ أَهْلِ الزَّهادَةِ، وَلَیْسَ مِنْ ذَلِکَ فِی مَراحٍ وَلا مَغْدًی» .

الشرح والتفسیر

یعرض الإمام علیه السلام - فی هذا القسم من الخطبة - بالتحلیل لطلاب الدنیا الذین یصنفهم فی أربعة أصناف وبالطبع فانّ هذه الأصناف لا تختص بمجتمع دون آخر ولا زمان دون آخر بل هی عامة شاملة فقال علیه السلام:

«فالناس علی أربعة أصناف، منهم من لا یمنعه الفساد فی الأرض إلّامهانة نفسه،

ص:173

وکلالة (1)حده ونضیض (2)وفره» .

فالمشکلة فی عدم وجود الماء والا فهم سباحون ماهرون، فباطنهم مفعم بالشر والفساد الا أنهم یفتقرون للالة التی یمارسون بها الظلم والفساد، ومن الطبیعی أن مثل هولاء الأفراد إنّما یتربصون بظاهرهم الودیع الذی لایشوبه أذی.

کما یتوجب علی قادة المجتمع إذا ما تعرفوا علی هولاء الأفراد الحذار من تزویدهم بالا مکانات فیعیثوا فی الأرض فسادا، وقد أشار القرآن إلی ذلک «وَمِنَ النّاسِ مَنْ یُعْجِبُکَ قَوْلُهُ فِی الحَیاةِ الدُّنْیا وَیُشْهِدُ اللّهَ عَلی ما فِی قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصامِ * وَ إِذا تَوَلّی سَعی فِی الأَرضِ لِیُفْسِدَ فِیها وَیُهْلِکَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لا یُحِبُّ الفَسادَ» . (3)

ثم تطرق علیه السلام إلی الصنف الثانی «و منهم المصلت (4)لسیفه والمعلن بشره والمجلب بخیله ورجله» فقد أعد هذا الصنف من الناس باطنه للظلم والفساد ومحق دینه «قد أشرط (5)نفسه وأوبق (6)دینه» .

ولکن ما هدف هولاء؟ لا شک أن هدفهم ما أشار إلیه الإمام علیه السلام ولیس ذاک سوی الحصول علی شی من متاع الدنیا أو الأمرة علی بعض الأفراد او إرتقاء المنبر لیظهر نفسه للناس بمظهر الخطیب الواعظ «لحطام (7)ینتهزه (8)، أو مقتب (9)یقوده، أو منبر یفرعه (10)» .

ص:174


1- 1) «کلالة» علی وزن ضلالة بمعنی ضعف السلاح عن القطع فیقال کل السیف إذا لم یقطع.
2- 2) «نضیض» بمعنی قلیل، والنضیض و فره، بمعنی القلیل ماله.
3- 3) سورة البقره /204-205. [1]
4- 4) «مصلت» من مادة «صلت» بمعنی الاظهار و السیف الصلت بمعنی السیف المشهور المصقول، ویقال المصلت لمن شهر سیفه.
5- 5) أشرط من مادة شرط بمعنی العلامة، و معنی العبارة أنه أعد نفسه للفساد و الاهلاک، و کانه میز نفسه بهذالامر.
6- 6) «اویق» من مادة «وبق» بمعنی الهلاک، أی اهلک نفسه.
7- 7) «الحطام» علی وزن الغلام بمعنی المتکسر الذی لا قیمة له، و من هنا یطلق علی المال حطام الدنیا لزهادة قیمته.
8- 8) «ینتهزه» من مادة «نهز» بمعنی الحرکة من أجل القیام بعمل، کما وردت بمعنی الحرکة من أجل نیل غنیمة، و علیه ینتهز بمعنی یغتنمه.
9- 9) «مقتب» علی وزن محور تعنی طائفة من الخیل، وقد وردت فی العبارة بمعنی طائفة من الناس، ولعل العبارة أشارة لجهلهم وعدم علمهم.
10- 10) «یفرع» من مادة «فرع» أعلی الشئ وقد وردت هنا بمعنی علا المنبر وارتقاه.

فالعبارة رغم قصرها فقد أشارت إلی أعمالهم الظاهریة إلی جانِب فسادهم الباطنی واهدافهم الرخیصة، فهؤلاء الأفراد یستفرغون ما فی وسعهم لیصبحوا علی غرار فرعون أو قارون أو السامری. وما اُولئک الذین أججوا نیران الجمل وصفین إلّامصادیق بارزة لذلک الصنف من الأفراد، فالبفض اندفع من أجل المال وآخر من أجل المقام والمنصب والآخر من أجل الخلافة. ثم تطرق علیه السلام إلی نتیجة أعمال هؤلاء فقال «و لبئس المتجر أن تری الدنیا لنفسک ثمنا، وممالک عند اللّه عوضا» ، ومن الطبیعی أنّ هذا الصنف من الناس الفاسد والشریر - الذی یخبط خبطا عشواء من أجل الظفر بالمال والمقام - لا یقیم لأحکام اللّه وزنا ولا یصغی لصوت الضمیر والوجدان ولا ینقاد لدلیل العقل، فقد باع هذا الخزین الثمین بذلک الثمن البخس، باع الدین بالدنیا «أُولئِکَ الَّذِینَ اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدی فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما کانُوا مُهْتَدِینَ» (1).

بینما تظافرت الروایات التی تؤکد علی قیمة الإنسان وأنّه لا ینبغی له بیع نفسه إلّابثمنها وثمتها الجنّة. کما صرحت الآیه القرآنیة بأن بیع النفس بغیر الجنّة ورضی اللّه لا یستبطن سوی الخسران المبین «وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤوفٌ بِالعِبادِ» (2).

فالآیة تفید أنّ بعض الناس (کعلی علیه السلام الذی نام علی فراش رسول اللّه صلی الله علیه و آله لیلة الهجرة) یبیعون أنفسهم من أجل رضی اللّه سبحانه. وقد ورد عن الإمام علی علیه السلام أنّه قال: «إنّه لیس لأنفسکم ثمن إلّاالجنّة فلا تبیعوها إلّابها» (3).

ثم تعرض علیه السلام للصنف الثالث الذی یتصف بالتزویر - وأوضح صفاته «و منهم من یطلب الدنیا بعمل الآخرة، ولا یطلب الآخرة بعمل الدنیا» .

فهدف هذا الصنف هو ذات الهدف الذی ینشده الصنف الثانی المذکور مع فارق بسیط هو أنّ اُولئک یجنون حطام الدنیا من خلال المنطق الغاشم والظالم والجور، بینما یعتمد هؤلاء علی التزویر والخداع والغرور.

ص:175


1- 1) سورة البقرة / 16. [1]
2- 2) سورة البقرة / 207. [2]
3- 3) نهج البلاغة، الکلمات القصار 456.

فالصنفان وإن کانا ضالین ظالمین وخاطئین، إلّاأنّ حال هذا الصنف أسوأ من الصنف الذی سبقة؛ وذلک لأنّه جعل دین الله جسراً لدنیاه، وعلیه فقد أهلکوا دنیا الآخرین إلی جانب إهلاک دینهم.

آنذاک خاض الإمام علیه السلام فی صفات هذا الصنف «قد طامن (1)من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر (2)من ثوبه، وزخرف من نفسه للامانة، واتخذ ستر الله ذریعة إلی المعصیة.»

فالعبارة تشیر إلی ظاهر متواضع وسکین ووقار وعدم إلتفات إلی الدنیا وحطامها والتزین بشعار الصالحین واستغلال ستر الله سبحانه للعیوب فی حین هنالک حرکة نحو الذنب والمعصیة.

وقد یؤمن هذا الصنف بالله والیوم الآخر علی مستوی الظاهر، إلّاأنّ هذا الإیمان یقتصر علی الظاهر ولم یخترق قلوبهم أبداً، وإلّا فکیف إرتضوا لأنفسهم هذه المعاملة المجحفة بحیث باعوا آخرتهم بدنیاهم ومن هنا وردت الروایات التی تصرح بأنّ هؤلاء الخاسرین یوم القیامة - حین تطرح الحجب وتتضح حقیقة کل فرد کما هی - ینادون یا کافر!

یا فاجر! یا غادر! یا خاسر! وینادون «حبط عملک وبطل أجرک فلا خلاص لک الیوم فالتمس أجرک ممن کنت تعمل له» (3).

وممّا لاشک فیه أن هذا الصنف - کسائر الأصناف الأربعة - لایقتصر فی وجوده علی عصر الإمام علیه السلام، بل هو موجود فی کل عصر و مصر وأنّه لأعظم خطراً من سائر الأصناف علی دین المجتمع ودنیاه.

وعلیه فلابدّ لاتباع الحق من مراقبة هؤلاء والحذار من الوقوع فی فخهم ولحسن الحظ فانّ أغلب هولاء الأفراد یفتضحون عملیاً فاذا بلغوا مفترق طرق بین الدین والدنیا ولوا ظهورهم للدین وتهافتوا علی الدنیا وآثروا سخط الله علی رضی خلقه طمعاً فی الدنیا

ص:176


1- 1) «طامن» و «اطمینان» من مادة واحدة بمعنی السکینة والهدوء، وهی تشیر فی العبارة إلی الوقار والتواضع الصوری والظاهری.
2- 2) «شمر» من مادة «شمر» بمعنی الترتیب والاعداد.
3- 3) وسائل الشیعة 1 / 51. [1]

وحطامها، فأفکارهم منحطة وهمتهم وضیعة وروحهم ملوثة وباطنهم قبیح والازدواج هو الغالب علی شخصیتهم.

وأخیرا یتعرض الإمام علیه السلام للصنف الرابع - أهل التقی الکاذب والزهد الفارغ - فیقول «ومنهم من أقعده عن طلب الملک ضؤولة (1)نفسه، وإنقطاع سببه فقصرته الحال علی حاله، فتحلی باسم القناعة، وتزین بلباس أهل الزهادة ولیس من ذلک فی مراح (2)ولا مغدی» . (3)

فهم أفراد ضعفاء عجزة لا کفاءة لهم یحاولون التستر بالزهد للتغطیة علی عجزهم وانعدام جدارتهم والتظاهر بالقوة لاخفاء ضعفهم، والحال لیس لدیهم شمة من الزهد والقناعة باطنهم وهم علی قسمین: فمنهم من یتستر لخداع النفس ومنهم یخدع نفسه محاولاً إقناع نفسه بأنّه من أهل الزهد والتقوی لا الضعف والعجز یدفعه للتظاهر بذلک. أمّا المراح والمغدی فقد ذهب أغلب أرباب اللغة وشرّاح نهج البلاغة إلی أنّها اسم مکان لاستقرار الماشیة فی الصباح والمساء بینما ذهب البعض الآخر إلی أنّها اسم زمان بمعنی الذهاب والایاب لیل نهار.

کیفما کان فان المفردتین تعبران عن حماقة هؤلاء الأفراد وبلاهتهم التی تجعلهم بهیئة الزهد والقناعة. هناک کلام کثیر بین بین المفسرین بشأن فارق الصنف الرابع والأول من جهة والصنف الرابع والثالث من جهة اُخری.

ویبدو أنّ الصنف الأول الذی ینشد الدنیا قد قبع فی زاویة إثر ضعفه وعجزه ولم ینطلق نحو المال والحیاه والمقام، وهو لا یصر علی ابراز ضعفه وعجزه علی أنّه قوة وإقتدار، فی حین یحاول الصنف الرابع أستغلال ضعفه وعجزه بغیة الظفر بمکانته فی المجتمع علی أنّ ذلک الضعف زهد وقناعة. أمّا فارق الصنف الرابع مع الصنف الثالث هو أنّ الصنف الثالث یعتمد النفاق والتزویر لتحقیق أطماعه ومآربه، بعبارة اُخری ما یجنیه الظلمة من حطام الدنیا بواسطة الظلم والجور یحصل علیه هؤلاء من خلال الریاء وخداع الناس.

ص:177


1- 1) «ضوولة» بمعنی الضعف و العجز.
2- 2) «مراح» من مادة «روح» مصدر میمی من راح إذا ذهب فی العشی
3- 3) «مغدی» من مادة «غدو» مصدر میمی من غدا إذا ذهب فی الصباح، وقیل مکان الحیوانات فی النهار فی مقابل المراح فی اللیل.

فهم یبیعون دینهم بدنیاهم ویحصلون علی الدنیا ومتاعها من خلال الدین، أمّا الصنف الرابع فهو لا یحصل علی جاه ومقام، ویکتفی بأن المجتمع ینظر إلیه کزاهد قانع.

وأخیراً یشترک الصنف الأول والرابع فی أنّه لیس أقل تکالباً من الصنفین الآخرین إذا ما توفرت الأرضیة الخصبة أمامهما للظلم والفساد.

الأصناف الأربعة فی کل مجتمع.

لقد أماط اللثام عن حقیقة هذه الأصناف الأربعة ولفت إنتباه المجتمع إلی الأخطار التی تفرزها حرکتها فی المجتمع بفعل فسادها وظلمها وریائها وزهدها الکاذب، ثم خاض علیه السلام فی صفات کل صنف لیتعرف علیه أفراد المجتمع فلا یقعوا فی شباکهم.

وتشترک هذه الأصناف جمیعاً فی الفساد العقائدی والتعلق بالدنیا والجاه والمقام، إلّاأنّها تختلف فی إعداد الأسباب والمقدمات التی تمکنها من الوصول إلی أهدافها، وبعبارة اُخری فانّ الأصناف الأربعة یمکن تقسیمها إلی طائقتین:

طائفة تحقق أهدافها الرخیصة عن طریق الریاء والتزویر: وطائفة لا تحقق أهدافها إلّاأنّها تخفی هذا الفشل فی الزهد والقناعة، ولو تأملنا التأریخ لرأینا هذه الأصناف فی کل عصر ومصر.

وممّا یؤسف له الیوم أنّ المجتمعات الإسلامیة هی الاُخری تشهد تغلغل هذه الأصناف؛ الأمر الذی جر علیها الویلات والمصائب. والحق لیس هنالک من وسیلة للحد من أخطار هذه النماذج سوی فی اتباع کلام الإمام علیه السلام وتشخیص هولاء الأفراد وفضح مخططاتهم وموامرتهم وتحذیر الاُمّة من الوقوع فی شباکهم أو الاغترار بزهدهم الکاذب.

ص:178

القسم الثالث: الصنف الخامس: أولیاء الله

«وَبَقِیَ رِجالٌ غَضَّ أَبْصارَهُمْ ذِکْرُ الْمَرْجِعِ وَأَراقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ، فَهُمْ بَیْنَ شَرِیدٍ نادٍّ، وَخائِفٍ مَقْمُوعٍ وَساکِتٍ مَکْعُومٍ وَداعٍ مُخْلِصٍ وَثَکْلانَ مُوجَعٍ قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ التَّقِیَّةُ وَشَمِلَتْهُمُ الذِّلَّةُ فَهُمْ فِی بَحْرٍ أُجاجٍ أَفْواهُهُمْ ضامِزَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ، قَدْ وَعَظُوا حَتَّی مَلُّوا وَقُهِرُوا حَتَّی ذَلُّوا، وَقُتِلُوا حَتَّی قَلُّوا» .

الشرح والتفسیر

بعد أن فرغ الإمام علیه السلام من ذکر الأصناف الأربعة، تطرق إلی الصنف الخامس، وهم أولیاء الله وجنود الحق وأخیار الاُمّة الذین اقصوا عن المجتمع وعادوا غرباء فیه بفعل تسلم زمام الاُمور من قبل الأصناف الأربعة المذکورة.

وقد لفت الانتباه إلی عظمتهم بالتعبیر عنهم بالرجال، بینما عبر عن الأصناف الأربعة بالناس.

والحق أنّ الإمام علیه السلام یری الصنف الخامس هو محور المجتمع ویحث أتباعه لان یکونوا ضمن هذا الصنف. فقد قال علیه السلام: «وبقی رجال غض أبصارهم ذکر المرجع وأراق دموعهم خوف المحشر» .

وقوله: «غض أبصارهم» لایراد به إغماض العین، بل النظرة الشمولیة والشعور بمسؤولیتهم تجاه الله سبحانه ویوم القیامة، الشعور الذی إرعش قلوبهم وأراق دموعهم.

فلیس هنالک أکثر خشیة من ذلک الیوم لمن آمن باللّه والیوم الآخر ومحکمة العدل الإلهی،

ص:179

کیف لا وهو الیوم الذی تطرح فیه الحجب وتبلی فیه السرائر وتتمثل الأعمال التی صدرت من الإنسان طیلة عمره فتنتظر الحساب والجزاء.

ویری بعض شرّاح نهج البلاغة (1)أنّ المرجع فی العبارة المذکورة بمعنی القبر والمحشر القیامة، ولکن بالاستناد إلی التعبیرات القرآنیة فان المفردتین وردتا بمعنی واحد، وعلیه فیبدو الفارق فی عدم تکرار اللفظ لا المعنی.

والواقع أنّ هذه التعبیرات قد اُقتبست من الآیة القرآنیة الشریفة «رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِیتاءِ الزَّکاةِ یَخافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ القُلُوبُ وَالأَبْصار» . (2)

ثم تطرق علیه السلام إلی مصیر هذا الصنف فی المجتمعات التی تسودها الأصناف الأربعة، بحیث لاینجو کل فرد فیه من خمس: النزوح من البلد والتشرید والتغریب، الخوف واللواذ فی زاویة، السکوت والصمت، الاشتباک بفعل عدم إعارتهم الاذان الصاغیة وسماع کلماتهم الحق أو الدعوة إلی اللّه باخلاص بعیون باکیة وقلوب حری أملا فی التأثیر «فهم بین شرید (3)ناد (4)وخائف مقموع (5)وساکت مکعوم (6)وداع مخلص وثکلان (7)موجع» .

وبالالتفات إلی «شرید» وناد من مادة فد بمعنی المنفرد الهارب من الجماعة إلی الوحدة (8)فانّ العبارات المذکورة إشارة إلی أنّ هولاء الأفراد لیسوا مع بعضهم حتی فی المنفی، وکل واحد منهم قد قذف فی بقعة؛ فالطغاة یخشون حتی اجتماعهم فی المهجر والعبارة «خائف مقموع» إشارة إلی أنّ الطغاة لایکتفون بتهدید هؤلاء الأفراد وإرعابهم، بل لایتورعون عن التضییق

ص:180


1- 1) فی ظلال نهج البلاغة، الخطبة المذکورة.
2- 2) سورة النور / 37. [1]
3- 3) «شرید» من مادة «شرد» بمعنی هروب الناقة، ثم اطلقت علی کل من یهرب من قومه.
4- 4) «ناد» من مادة «ند» بمعنی المنفرد الهارب من الجماعة إلی الوحدة.
5- 5) «مقموع» من مادة «قمع» بمعنی المقهور والمغلوب، وتعنی الاقتلاع أیضاً.
6- 6) «مکعوم» من مادة «کعم» ، کعم البعیر بمعنی شد فاه، ثم اتسعت لتطلق علی کل فم یشد.
7- 7) «ثکلان» من مادة «ثکل» بمعنی فقد الاحبة، کما وردت بالنسبة للإنسان الذی یعیش العزاء بمعنی الشخص الباکی الحزین.
8- 8) شرح نهج البلاغة محمد عبده والعلامة الخوئی وابن أبی الحدید.

علیهم واستئصال شأفتهم واجتثاث جذورهم.

والعبارة «ساکت مکعوم» أنّ الظلمة لایقتنعون بصمت هؤلاء الأفراد وسکوتهم، بل یسعون دائما لکم أفواههم دون أن ینبسوا ببنت شفة.

والعبارة «داع مخلص» لا تفید دعوة الناس من أجل نیل المقام والثروة أو لیست هی دعوة دنیویة، بل الدافع من هذه الدعوة هو رضی اللّه وقیل بل المراد بالعبارة والداعی المخلص من یدعو الناس إلی اللّه والارتقاء بالمجتمع.

وأخیراً تشیر العبارة «ثکلان موجع» إلی أنّ الحزن والآسی، یخترق ظاهرهم لیعیشوه فی قلوبهم وأرواحهم. ثم عرض علیه السلام إلی سائر صفاتهم بعبارات قصیرة بعیدة المعانی یتخللها الاسی والأسف فقال علیه السلام: «قد أخملتهم (1)التقیة» .

فهؤلاء وإن کانوا مجاهدین أشداء، ولکن لما کان جهادهم لاینطوی سوی علی أبادتهم فلم یعد أمامهم من سبیل سوی اللجوء إلی التقیة؛ التقیة التی تؤدی بهم فی خاتمة المطاف إلی العزلة والانطواء لیراهم الأعداء علی أنهم أفراد جبناء، کما یراهم الأصدقاء خاملین لیسوا بذات قیمة، والحال أنّ الظروف تجعل من تقیتهم جهاداً ونهوضاً بالوظیفة «وشملتهم الذلة» هم أعزة عند اللّه وفی أنفسهم إلّاأنّ غیاب القیم والمثل فی المجتمع جعله یراهم ضعفاء أذلة «فهم فی بحر أجاج» . (2)

کیف لایعومون فی بحر مالح لایسعهم شرب ماء والاُمّة لم تقف إلی جانبهم وتدعم نهضتهم «أفواههم ضامزة (3)، وقلوبهم قرحة» .

لیس هنالک من قلق لدی الأفراد الذین یعیشون اللااُبالیة فی مثل هذه المجتمعات، ولایقلقهم سوی منافعهم الشخصیة، أمّا المجاهدون الذین تکف أفواههم بالقوة، إنّما یتحرقون الماً وقلوبهم تشعر عمق الفاجعة ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة (4)إلی أنّ المراد بقلوبهم قرحة أنّها تخاف اللّه، بینما تشیر قرینة الکلام إلی أنّ قروح قلوبهم إنّما تعزی الی الفساد الذی

ص:181


1- 1) «أخمل» من مادة «خمل» بمعنی أسقط ذکره حتی لم یعد له بین الناس نباهة.
2- 2) «اجاج» من مادة «أجج» بمعنی الملوحة والمرارة.
3- 3) «ضامزة» من مادة «ضمز» بمعنی السکوت والتحفظ عن الکلام
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن میثم، والعلّامة الخوئی وفی ظلال نهج البلاغة لمحمد عبده.

لایستطیعون القضاء علیه ولعل هناک من ینسب هذه المفردات من قبیل الضعف والعجز والسکوت والتقیة إلیهم کنتیجة لأعمالهم وعدم قیامهم فی الوقت المطلوب، ومن هنا نبه الإمام علیه السلام إلی إزالة هذا الظن فقال علیه السلام: «قد وعظوا حتی ملوا، وقهروا حتی ذلوا، وقتلوا حتی قلّوا» .

فقد خاضوا الجهاد علی کافة المستویات وبشتی الطرق والاسالیب، من خلال الوعظ باللسان إلی جانب النهضة المسلحة وتقدیم الضحایا حتی کثر القتل فی صفوفهم فقل عددهم، وذلک لأنّه لم یکن لهم نصیر و لم یکن هنالک من توازن فی القوی مع أعدائهم الذین یفوقونهم عددا وعدة. فقد قاتلوا علی أمل تحقیق النصر وإجتثاث جذور الفساد ولم تبق منهم إلّاقلّة لم یکن أمامها سوی التقیة حفظا لنفسها ودینها.

والعبارة «قتلوا حتی قلوا» لا تعنی أنّهم وتروا ولم یبق منهم إلّاالقلیل، بل تعنی أستشهد فریق منهم وبقی فریق آخر، والعبارة من قبیل إسناد أوصاف الجزء إلی الکل.

وهنا یطرح هذا السؤال: الاستضعاف المذکور یتعلق بأی زمان، والإمام علیه السلام کان هو الذی یحکم المجتمع؟ وتأمل تأریخ عصر الإمام علیه السلام یوضح الاجابة علی هذا السؤال، کما ورد ذلک فی بعض کلماته من أنّ الفساد الاجتماعی کلمة فی عصره بلغ درجة بحیث خفت شعاع شمس حکومة الإمام علیه السلام فی الکوفة وأطرافها، وقد اجتمعت لکمة سائر المناطق من قبیل الشام ومصر التی عاشت ذروة الشر والفساد والانحراف علی إقصاء الصالحین عن مرح الأحداث.

ص:182

القسم الرابع: الاتعاظ بالماضین

«فَلْتَکُنِ الدُّنْیا فِی أَعْیُنِکُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثالَةِ الْقَرَظِ وَقُراضَةِ الْجَلَمِ وَاتَّعِظُوا بِمَنْ کانَ قَبْلَکُمْ، قَبْلَ أَنْ یَتَّعِظَ بِکُمْ مَنْ بَعْدَکُمْ، وَارْفُضُوها ذَمِیمَةً، فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ کَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْکُمْ» .

الشرح والتفسیر

یدعو الإمام علیه السلام الناس فی ختام هذه الخطبة بعبارات مقتضبة بعیده المعانی إلی الزهد فی الدنیا بصفته مفتاح سعادة الإنسان بعد أن ذکر صفات الأصناف الأربعة الأثیمة والصنف الخامس الذی یمثل الاتقیاء من أولیاء اللّه، مؤکدا علی أن البؤس والشقاء الذی طال الأصناف الأربعة إنّما یستند إلی حب الدنیا والتعلق بزخارفها.

فقال علیه السلام: «فلتکن الدنیا فی أعینکم أصغر من حثالة (1)القرظ وقراضة (2)الجلم (3)» .

والتشبیهات رائعة غایة فی الدقة، فالقرظ (علی وزن مرض) بمعنی ورق الأشجار الذی یستفاد منه لدبع الجلود حتی یشدها ویجعلها أکثر فائدة، وبالطبع فإن الحثالة التی تطرح بعد الاستفادة تکون قذرة ومتعفنة ومدعاة للنفرة، وکذلک حین تقص أصواف الحیوانات تطرح بعض القطعات الصغیرة منه علی الأرض دون أن یکون لها أدنی فائدة. فالتشبیه الأول

ص:183


1- 1) «حثالة» بالضم: القشاوة وما لاخیر فیه، واَصله ما یسقط من کل ذی قشر، ومن هنا تطلق الحثالة علی حشاشة الدهن المتساقطة.
2- 2) «قراضة» من مادة «قرض» بمعنی قطف الشی وتطلق علی القطع الصغیرة المتناثرة من المقراض ومن هنا یطلق المقراض علی المقص.
3- 3) «جلم» علی وزن قلم بمعنی المقراض.

استبطن النفرة والثانی التفاهة وعدم القیمة والاعتبار، والإمام علیه السلام یوصی بأن تکون الدنیا أهون من هذا فی الأعین، الدنیا التی أدی عشق أموالها إلی ظهور القوارین، وعشق مناصبها إلی ظهور الفراعنة والطواغیت الظلمة، وأنّ حبّها رأس کل خطیئة.

من جانب آخر فقد أشار علیه السلام إلی قصر مدة الدنیا وضرورة الاتعاظ بها «واتعظوا بمن کان قبلکم قبل أن یتعظ بکم من بعدکم» .

لقد جمعوا لها وجهدوا من أجلها وانصرفوا، ولم تعد قصورهم الخاویة وتیجانهم البالیة وقدرتهم الجوفاء التی خلفوها هنا وهناک سوی عبرة لمن اعتبر، فان اعتبربها فهو المطلوب، وإلّا ستکونون أنتم عبرة یعتبر بکم من یأتی بعدکم.

القرآن الکریم من جانبه لم ینفک عن دعوةالناس للاعتبار بالماضین، فقد أورد عبارات توقظ الضمیر وتهز الاعماق بشأن الفراعنة وضرورة الاتعاظ بهم «کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُیُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ کَرِیمٍ * وَنَعْمَةٍ کانُوا فِیها فاکِهِینَ * کَذ لِکَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِینَ * فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما کانُوا مُنْظَرِینَ» . (1)

غیر أنّه من المؤسف أن بنی إسرائیل لم یعتبروا بهذه الدروس حتی أصبح مصیرهم عبرة لغیرهم.

ثم قال علیه السلام: وارفضوها ذمیمة، فانّها قد رفضت من کان أشغف (2)بها منکم» .

ومن الطبیعی أن یکون مراد الإمام علیه السلام بهذه الدنیا المذمومة هی الدنیا التی تقود صاحبها إلی الظلم والطغیان والهوی والفساد لا الدنیا التی تشکل الجسر لعبور أولیاء الله إلی الآخرة.

کلام السید الرضی

قال الشریف الرضی: وهذه الخطبة ربما نسبها من لاعلم له إلی معاویة، وهی کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام الذی لایشک فیه، وأین الذهب من الرغام، وأین العذب من الاجاج! وقد دل علی ذلک الدلیل الخریت ونقده الناقد الباصر عمرو بن بحر الجاحظ، فانّه ذکر هذه الخطبة

ص:184


1- 1) سورة الدخان / 25 - 29. [1]
2- 2) «أشغف» من مادة «شغف» بمعنی اَکثر تعلق بالدنیا و حبالها. وقد أخذت فی الأصل من شغاف وهو الغلاف الذی یضم القلب، کما تستعمل فی العشق الشدید الذی یجتاح القلب وینفذ إلی أعماقه.

فی کتاب البیان والتبیین وذکر من نسبها إلی معاویة، ثم تکلم من بعدها بکلام فی معناها، جملته أنّه قال: وهذا الکلام بکلام علی علیه السلام أشیه، وبمذهبه فی تصنیف الناس، وفی الأخبار عما هم علیه من القهر والاذلال، ومن التقیة والخوف، ألیق. قال: ومتی وجدنا معاویة فی حال من الأحوال یسلک فی کلامه مسلک الزهاد ومذهب العباد.

الدنیا فی عین أولیاء الله.

ماورد فی الخطبة بشأن الأصناف الخمسة فی عصر الإمام علیه السلام (من یقعد به عن طلب الإمرة قلّة ماله، ومن یطلب الامارة ویفسد فی الأرض، ومن یظهر ناموس الدین ویطلب به الدنیا، ومن لامال له أصلاً ویطلب الملک ولایطلب الدنیا، وأولیاء اللّه الاتقیاء الأبرار) لا یقتصر علی عصر الإمام علیه السلام وزمانه، وهم متواجدون فی کافة المجتمعات الماضیة والمعاصرة والآتیة، وإنّ کافة المشاکل التی تعانی منها المجتمعات إنّما تنشا من الأصناف الأربعة المذکورة، التی سفکت الدماء وأحرقت الاخضر والیابس وجرعت اتباع الحق صنفوف الأذی والعذاب.

مع ذلک فان الدنیا لم تف لهم وقد أتت علیهم حتی آخرهم لیکونوا عبرة لمن بعدهم.

أما العبارات التی أوردها الإمام علیه السلام بشأن کل صنف وعلاماته وصفاته جعلت من الیسیر التعرف علیهم.

ولما کان حبّ الدنیا والتعلق بحطامها هو مصدر الشر والفساد الذی سلکته هذه الأصناف، فانّ الإمام علیه السلام إختتم خطبته بتصویر حقیقته الدنیا بما یجعل العاقل لا یعیرها أدنی أهمیة، فقد وصفها بادی ذی بدء بانها اتفه من حثالة القرظ (و هو ما یسقط من ورق السلم أو ثمر السط یدبغ به ممّا لاخیر فیه ولا قیمته له) ، ثم أشار إلی تقلب حال الدنیا وعدم دوامها وکیف قضت علی الماضین وجعلتهم عبرة للآخرین.

فقد ورد فی حدیث أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله مر بجثة حیوان متعفنة ملقاة علی الطریق فأومأ إلیها قائلاً: أترون هذه هنیة علی أهلها؟ فو اللّه الدنیا أهون علی اللّه من هذه علی أهلها» ثم واصل صلی الله علیه و آله حدیثه عن الدنیا قائلاً: الدنیا دار من لادار له ومال من لامال له ولها یجمع من لاعقل له وشهواتها یطلب من لافهم له وعلیها یعادی من لا علم له وعلیها یحسد من لا فقه له ولها یسعی من لایقین له» (1).

ص:185


1- 1) بحار الانوار 70 / 122. [1]

وجاء فی حدیث أن الدنیا مثلت للمسیح علیه السلام کعجوز شمطاء فسألها: کم تزوجت.

قالت: کثیر. کلهم طلقت. قالت: بل کلهم قتلت. قال علیه السلام: یا ویح أزواجک الباقین، ألا یتعظون بازواجک الماضین (1)» .

ص:186


1- 1) منهاج البراعة 4 / 58؛ بحار الانوار 14 / 328. [1]

الخطبة الثلاثة و الثلاثون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

عند خروجه لقتال أهل البصرة، وفیها حکمة مبعث الرسل، ثم یذکر فضله ویذم الخارجین. قال عبد اللّه بن عباس: دخلت علی أمیرالمؤمنین علیه السلام بذی قار وهو یخصف (2)نعله فقال لی: «ما قیمة هذا النعل؟» .

فقلت: «لا قیمة لها!» فقال علیه السلام: «و اللّه لهی أحب إلیّ من أمرتکم (3)إلّاأنت أقیم حقا أو أدفع باطلاً» . ثم خرج فخطب الناس.

نظرة إلی الخطبة.

أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة فی ظل ظروف دعا فیها أصحابه للتعبئة وإطفاء نار الفتنة التی

ص:187


1- 1) روی السید الرضی (ره) هذه الخطبة فی موضعین من نهج البلاغة: [1] مرة هنا و أخری فی الخطبة 104 حیث قال هناک: وقد مر جانب من هذه الخطبة (إشارة إلی هذه الخطبة 33) وقد ذکرتها ثانیة بسبب إختلاف بعض العبارات. قال صاحب مصادر نهج البلاغة: [2] ومن هنا یتضح مدی إحتیاط السید الرضی فی نقل کلمات أمیر المؤمنین علیه السلام. ثم قال: یفهم من روایة الشیخ المفید فی الإرشاد [3]أنّ الإمام علیه السلام خطبها فی الربذة حیث توقف هناک جمع من حجاج بیت الله وقد تجمعوا حین سمعوا بالإمام علیه السلام لیصغوا إلی کلامه ولم یکن الإمام علیه السلام قد خرج من خیمته. قال إبن عباس دخلت الخیمة فرأیت الإمام علیه السلام یخصف نعله. فقال: یابن عباس: ما قیمة هذا النعل؟ فقلت: لا قیمة لها. قال: قل. قلت: أقلّ من درهم. قال: والله، لهی أحب إلیّ من إمرتکم، إلا أن أقیم حقا أو أدفع باطلا. فقلت: لقد إجتمع حجاج بیت الله لیسمعوا ما تقول. هلا أذنت لی أن أخطبهم؟ قال علیه السلام: لا أنا أحدّثهم. فخرج من الخیمة فخطب بهذه الخطبة (مصادر نهج البلاغة، 1/ 421 - 422) . [4] قال صاحب المستدرک ومدارک نهج البلاغة رواها الشیخ المفید فی کتاب الإرشاد، المستدرک، ص 242. [5]
2- 2) «یخصف» من مادة «خصف» بمعنی وصل الأشیاء ورقعها.
3- 3) «اِمرة» علی وزن فطرة بمعنی الحکومة.

أشعلها طلحة والزبیر فی البصرة.

وقد أطلق الإمام علیه السلام - قبل إیراد الخطبة - تلک العبارات التاریخیة الخالده لابن عباس؛ العبارات التی تتحدث عن سمو روح الإمام علیه السلام ومقامه الشامخ ومدی معرفته بالله سبحانه، فقد قال علیه السلام «واللّه لهی - النعل - أحب إلی من إمرتکم الا أن اُقیم حقا أو أدفع باطلاً» .

هذه هی أهداف الإمام علیه السلام من الامرة والخلافة. ثم ینتقل الإمام علیه السلام إلی بیان خصائص العصر الجاهلی وانبثاق الدعوة الإسلامیة، فی اشارة إلی بروز مبادی العصر الجاهلی ثانیة وانه لابدّ أن یقتفی آثار رسول اللّه صلی الله علیه و آله ویقتدی بهدیه فیقبر الفتن ویبقر الباطل لیخرج منه الحق.

ثم إختتم علیه السلام الخطبة بذم طائفة من قریش ممن أشعلوا نار الجمل ولم تکن دوافعهم من تلک المعرکة سوی الحسد والبغض وحب الدنیا.

ص:188

القسم الأول: دحر الباطل

اشارة

«إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله وَلَیْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ یَقْرَأُ کِتَاباً وَلا یَدَّعِی نُبُوَّةً فَساقَ النّاسَ حَتَّی بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وَبَلَّغَهُمْ مَنْجاتَهُمْ فاسْتَقامَتْ قَناتُهُمْ وَاطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ - أَما وَاللّهِ إِنْ کُنْتُ لَفِی ساقَتِها حَتَّی تَوَلَّتْ بِحَذافِیرِها ما عَجَزْتُ وَلا جَبُنْتُ وَإِنَّ مَسِیرِی هَذا لِمِثْلِها: فَلأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّی یَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام - کما ذکرنا - إلی بعثة النبی الإکرم صلی الله علیه و آله وظهور الدعوة الإسلامیة فی الجزیرة العربیة وکیف کانت حیاة الناس فی العصر الجاهلی وکیف أصبحت إبان انطلاقه الدعوة، ومدی السعادة التی ظفروا بها، فقال علیه السلام: «إنّ الله بعثت محمداً صلی الله علیه و آله ولیس أحد من العرب یقرأ کتاباً ولا یدعی نبوة» .

أثار بعض شرّاح نهج البلاغة هذا السؤال: کیف یقال لم یکن لاحد من العرب کتاباً سماویاً ولم یکونوا یتبعون نبیاً من الأنبیاء، والحال کانت طائفة من الیهود والنصاری تعیش هناک ولدیها التوراة و الانجیل؟ ثم أجابوا علی السؤال من خلال الاشارة إلی تحریف التوراة والانجیل، وعلیه فلم یکن لدیهم کتاباً بالحق، کما أن الیهود والنصاری کانوا أتباعاً کاذبین، ثم إستدلوا علی ذلک بالایة الکریمة «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الکِتابَ الَّذِی جاءَ بِهِ مُوسی نُوراً وَهُدیً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِیسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ کَثِیراً» . (1)

ص:189


1- 1) سورة الانعام / 91. [1]

کما إحتمل البعض أن یکون المراد بذلک العرب الذین کانوا یشکلون الأکثریة وکانوا علی الشرک والوثنیة.

الإجابة الاُخری التی یمکن الرد بها علی ذلک السؤال أنّ الیهود لم یکونوا من سکنة الجزیرة العربیة بمعنی المواطنة، بل تفید السیر التأریخیة أنّهم حین قرأوا فی کتابهم البشارة بظهور نبی الإسلام وأنّ ظهوره بات وشیکا قدموا هناک لدرکه، وإن شعروا فی ما بعد بالخطر علی مصالحهم فسلکوا سبیل النفاق وعادوا النبی صلی الله علیه و آله، النصاری أیضاً کانوا من المهاجرین ویشکلون الاقلیة هناک.

علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام أشار إلی إبتعاد الأقوام الجاهلیة عن أجواء الوحی والنبوة، الأمر الذی یصور مدی غرقهم فی وحل الشرک والفساد.

ثم تطرق علیه السلام إلی الأوضاع التی بلغوها فی ظل إنبثاق الدعوة والاستضاءة بنور الوحی وبزوغ شمس الإسلام «فساق الناس حتی بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم» (1)فهو لم یخلصهم من الشرک والکفر و الانحراف العقائدی وینقذهم من الفساد الأخلاقی والظلم والجور وسوء العدل فحسب، بل أخذ بیدهم إلی حیث القوة والعزة والحکومة والحضارة والمدنیة، ومن هنا قال علیه السلام «فاستقامت قناتهم (2)واطمأنت صفاتهم (3)» .

وعلیه فقد ظفروا بالنصر المعنوی إلی جانب شمولهم بالنعم المادیة و ما ذلک إلّاببرکة النبی صلی الله علیه و آله ونزول القرآن الکریم والتعبیر بمحلتهم إشارة إلی المنزلة الراقیة التی ینبغی أن یبلغها الإنسان الفاضل، ومنجاتهم إشارة إلی نقطة النجاة التی لیس معها خوف وخشیة ولا قستبطن سوی الفلاح والصلاح.

والعبارة «إستقات قناتهم» وعلی اضواء الاستقامة التی تعنی الاستواء والثبات والقناة بمعنی الرمح تعنی القوة والقدرة والانتصار علی العدو.

ص:190


1- 1) «بوأ» من مادة «بوء» بمعنی تعبید المکان ضد النبوة بمعنی المرتفع وغیر المعبد، وقد وردت هنا بمعنی تنظیم وترتیب موقع الاستقرار.
2- 2) «قنات» من مادة «قنو» بمعنی جذع الشجرة، کما تغنی العود والرمح، والمراد بها هنا القوة والغلبة والدولة، وقوله إستقامت قناتهم تمثیل لاستقامة أحوالهم.
3- 3) «صفات» ، حجر مستوی وکبیر ومحکم وواسع.

أمّا بعض شرّاح نهج البلاغة فقد ذهب إلی أنّ الاستقامة هنا تشیر إلی الرمح کنایة عن أنتظام الاُمور ونظم الحکومة والدولة والمجتمع والقوة والمنعة، ولکن لما کان الرمح عادة مستقیم وإذا إعوج کسر ولا یمکن تسویته (لأنّه یصنع عادة من الخشب لا الفزات) ، فانّ العبارة یمکن أن تکون إشارة إلی اطمینان البال واستقرار الذهن؛ لانّ الجنود یغرسون حرابهم فی الأرض وتبقی مستویة مستقیمة حین الهدوء والاستقرار؛ الأمر الذی یفید أنّهم کانوا آمنین من حملات العدو.

أمّا العبارة «إطمأنت صفاتهم» فهی تشیر إلی إستحکام منزلتهم فی ظل ظهور الإسلام ونهضة رسول اللّه صلی الله علیه و آله بحیث إستقرت حیاتهم الفردیة والاجتماعیة.

فالصحاری التی کانت تردد علیها العرب، کانت ملیئة بالرمال والحصی المتحرکة بحیث یصعب إجتیازها، بینما تسهل حرکته وذهابه وایابه وجلوسه إذا إستقر علی حجر کبیر واسع ومحکم ومستقیم.

ثم قال علیه السلام: «أمّا واللّه إن کنت لفی ساقتها (1)حتی تولت بحذا فیرها (2)» .

ففی الاوضاع التی یکون فیها الجیش مستجد أو العدو قوی بحیث یحتمل التقهقر والانسحاب، فان آمر الجیش یجعل بعض مساعدیه الشجعان فی المؤخرة لیسوقوا الجیش إلی الإمام ویحثونهم علی التقدم کما یحولوا دون تراجعهم.

وکأنّ الإمام علیه السلام أشار إلی هذه المسألة فی أن النبی صلی الله علیه و آله قلدنی مسئوؤلیة فی سوق الجیش إلی الإمام وتجاوز المخاطر والمشاکل التی تواجهه، أو المراد أنّی والنبی صلی الله علیه و آله فی موخرة هذا الجیش ونسوقه إلی الإمام وقرینة ذلک قوله فساق الناس» علی کل حال فانّ کل هذه إشارات إلی عصر نهضة النبی الإکرم صلی الله علیه و آله والدور الهام الذی لعبه الإمام علی علیه السلام فی إنتصار الجیش الإسلامی علی معسکر الکفر والشرک.

ص:191


1- 1) «ساقه» من مادة «سوق» جمع سائق، واصلها سوقه واصحب ساق بیت الاعلال.
2- 2) «حذا فیر» جمع حذ فور بمعنی الشریف والجمع الکثیر، وقد جاءت هنا بمعنی جمیع جوانب الموضوع. وهنا ینبغی الالتفات إلی أن. ضمیر الهاء فی ساقتها یعود إلی الناس فی عصر الجاهلیة الذین إعتنقوا الإسلام، ویمکن أن یکون الضمیر فی تولت وحذا فیرها عائدا إلی أعداء الإسلام الذین تقهقروا ابان نصر الإسلام، کما یمکن أن یعود إلی أهل الجاهلیة الذین أقبلوا علی الإسلام.

وفی إشارة إلی قیامه بوظیفته علی أحسن وجه وبلائه الحسن قال «ما عجزت ولاجبنت» فمن البدیهی أنّ الانسحاب إنّما یستند إلی الضعف والعجز أو الخوف والرعب، فقوله علیه السلام «ما عجزت ولا جبنت» یتضمن نفیه لعوامل الضعف والتقهقر.

ثم یربط علیه السلام هذه المقدمة بذی المقدمة فالإمام علیه السلام أشار إلی نقطة مهمّة وهی أنّ الاُمّة الإسلامیة آنذاک بدأت تعود إلی الافکار والسنن الجاهلیة وهی تبتعد کل یوم أکثر من ذی قبل عن مسیرة النبی صلی الله علیه و آله والقرآن والإسلام، ونموذج ذلک الحرکة الظالمة لمشعلی نار الجمل من أجل الحصول علی المناصب من خلال نکث البیعة وسفک دماء المسلمین.

فقد أراد الإمام علیه السلام الوقوف بوجه هذه العودة إلی الجاهلیة وتجدید رسالته ووظیفته التاریخیة فی الحفاظ علی المسیرة الإسلامیة.

ومن هنا قال «فلا نقبن (1)الباطل حتی یخرج الحق من جنبه.» وبالالتفات إلی أن «أنقبن» من مادة «نقب» بمعنی ثقب الشئ وشقه، فانّ العبارة تشیر إلی حقیقة هی أنّ الحق لایظهر ما لم تتبدد حجب الباطل، بعبارة اُخری فانّ الباطل یسعی علی الدوام لیغطی علی الحق وبکتمه، فاذا شقت حجب الباطل، تنفس نور الحق واتضح عیاناً للجمیع. ویمکن أن تکون العبارة إشارة الی قیام أساس العالم علی الحق، وإنّ الحق کامن فی باطن کل موجود، ولاسیما فی الفطرة البشریة، بینما الباطل أمر عارض طاریء علی الإنسان.

فاذا زال هذا العارض ظهر الحق من باطن الأشیاء. وقد ورد مثل هذا المعنی فی الخطبة 104 «وآیم الله لابقرن الباطل حتی أخرج الحق من خاصرته» .

تأمّلات

1 - من أخبار یوم ذی قار

کما ورد فی شرح الخطبة فان «ذی قار» موضع بین البصرة والکوفة شهد معرکة قبل

ص:192


1- 1) «أنقبن» من مادة «نقب» بمعنی الثقب والشق ویطلق النقب علی الآبار تحت الأرض وذلک لأنها تنقب الأرض - ومنه البحث والتنقیب حین تأمل المطالب وإظهار الحقائق والنقیب العالم بحال القوم.

الإسلام بین العرب والجیش الساسانی الذی هزم فی المعرکة وانتصر فیها العرب. (1)وقیل فی تسمیته أنه کان فیها بئراً ماؤه أسود کالقیر.

عن ابن عباس، قال: لما نزلنا مع علیّ علیه السلام ذا قار، قلتُ: یا أمیرالمؤمنین، ما أقلّ مَنْ یأتیک من أهل الکوفة فیما أظنّ! فقال: واللّه لَیأتینّی منهم ستة آلاف وخمسمائةٍ وستون رجلاً؛ لا یزیدون ولا ینقصون.

قال ابن عباس: فدخلَنی واللّه من ذلک شکٌّ شدید فی قوله، وقلت فی نفسی: واللّه إن قدِمُوا لأعَدّنّهم.

ثم نفَر إلی علیّ علیه السلام إلی ذِی قار من الکوفة فی البحر والبرّ ستةُ آلاف وخمسمائة وستون رجلاً. أقام علیّ بذی قار خمسة عشر یوماً، حتی سمع صهیل الخیل وشحیج البغال حوله. قال: فلما سار بهم منقلة، قال ابنُ عباس: واللّهِ لأعُدّنّهم، فإن کانوا کما قال، وإلّا أتممتُهم من غیرهم؛ فإنّ النّاس قد کانوا سمعوا قوله. قال: فعرضتُهم فو اللّه ما وجدتُهم یزیدون رجلاً، ولا ینقصون رجلاً، فقلت: اللّه أکبر! صدق اللّه ورسوله! ثم سرنا.

لعل کلام إبن عباس إشارة إلی أن الإمام علیه السلام سمع هذه الأمور من رسول الله صلی الله علیه و آله ثم أخبر بها.

قال ابن أبی الحدید بعد ذلک: فلما قدم أهلُ الکوفة علی علیّ علیه السلام، سلّما علیه، وقالوا: الحمدُللّه یا أمیرالمؤمنین، الَّذی اختصَّنَا بموازرتک، وأکرَمنا بُنصرتک؛ قد أجبناک طائعین غیرَ مکرهین، فمرْنا بأمرک.

قال: فقام فحمداللّه وأثنی علیه وصلی علی رسوله وقال:

مرحباً بأهل الکوفة، بیوتاتِ العرب ووجُوهها، وأهل الفضل وفرسانها، وأشدِّ العرب مودّة لرسول اللّه صلی اللّه علیه ولأهل بیته. (2)

2- جاهلیة العرب

مهما قیل ویقال بشأن عظمة الإسلام وانبثاقه وسط اُمّة متخلفة ومتعصبة فهو قلیل. فقد

ص:193


1- 1) الکامل لابن أثیر 1/482.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/ 187 - 188 ( [1]بتصرف) .

إنطوت الاُمّة فی العصر الجاهلی علی سلسلة من الانحرافات والصفات الرذیلة، ونکتفی هنا بالاشارة فقط إلی التعصب الذی کان سائدا آنذاک والذی لم یکن یسمح لأفکار الآخرین باختراقه.

ویعتقد أحد المحققین المسیحیین بالارتباط الوثیق بین التعصب الجاهلی ومناخ الحجاز، فیقول: «تتصف تلک المنطقة بالجفاف، فکانت طبیعة الناس هی الاخری الصلابة والشدة، وکان من الاعجاز تسلل الأفکار الإسلامیة إلیه» .

وإذا أضفنا إلی ذلک الجهل والابتعاد عن العلم وهبوط المستوی الفکری والضحالة الثقافیة والتلوث بأنواع الخرافات التی تدعو إلی التعصب والعناد لأدرکنا حجم الاعجاز فی هدایتهم وانتشالهم من تلک الدوامة.

وقد تعرض القرآن الکریم إلی جانب من تلک العصبیة، ومن ذلک قوله «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» (1)وقوله «وَ إِذ قالُوا اللّهُمَّ إِنْ کانَ هذا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِکَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنا حِجارَةً. . .» . (2)

وتشیر أسباب نزول مثل هذه الآیات إلی عمق التعصب الذی کان یحکمهم بحیث کانوا مستعدین للتضحیة بانفسهم تعصبا حقا إن هدایة مثل هذه الاقوام تبدو من المعاجز الکبری؛ الأمر الذی أشیرله فی الخطبة المذکورة، وإن عادت تلک الاُمّة للأسف بعد رحیل النبی الإکرم صلی الله علیه و آله بمدّة قصیرة إلی جاهلیتها الاولی وتسلمت بعض المناصب الحساسة فی الحکومة الإسلامیة لتذهب جهود النبی صلی الله علیه و آله أدارج الریاح، ومن هنا فقد سعی الإمام علیه السلام جاهداً لاعادة الاُمّة إلی عصر الرسالة.

3- حدیث خاصف النعل

لقد ورد فی بدایة الخطبة عبارة «یخصف نعله» التی تذکرنا بحدیث النبی صلی الله علیه و آله بشأن فضائل علی علیه السلام خاصف النعل. حیث جاء فی سنن الترمذی أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله کان یکلم

ص:194


1- 1) سورة المعارج / 1. [1]
2- 2) سورة الانفال / 3. [2]

مشرکی قریش فخاطبهم قائلاً: «لتنتهن أو لیبعثن الله علیکم من یضرب رقابکم بالسیف علی الدین قد إمتحن الله قلبه للایمان» فسأله من حضر: ومن ذاک؟ وسأله أبوبکر: من هو؟ وسأله عمر: ومن هو؟ فقال صلی الله علیه و آله: هو خاصف النعل: حیث کان علی علیه السلام یخصف نعلی رسول الله صلی الله علیه و آله. . . ثم نقل الترمذی عن أبی عیسی أنّه حدیث صحیح. (1)

ومن الطبیعی أنّ ذلک العمل الذی صدر من الإمام علیه السلام علی عهده وعهد النبی صلی الله علیه و آله إنّما یفید تواضع الإمام علیه السلام للناس وانصرافه عن الدنیا.

ج ج

ص:195


1- 1) صحیح الترمذی 5/634 (طبعة دار إحیاءالتراث العربی) کما ورد هذا الحدیث فی کتاب ینابیع المودة/59. [1] وورد فی کتب أعلام الشیعة ومنها بحارالانوار، 32/300 [2] وإحقاق الحق، 6/425. [3]

ص:196

القسم الثانی: مالی ولقریش؟

اشارة

«ما لِی وَلِقُرَیْشٍ؟ وَاللّهِ لَقَدْ قاتَلْتُهُمْ کافِرِینَ وَلاَُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِینَ وَإِنِّی لَصاحِبُهُمْ بِالْأَمْسِ کَما أَنا صاحِبُهُمُ الْیَوْمَ! وَاللّهِ ما تَنْقِمُ مِنّا قُرَیْشٌ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ اخْتارَنا عَلَیْهِمْ، فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِی حَیِّزِنَا فَکَانُوا کَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: أَدَمْتَ لَعَمْرِی شُرْبَکَ الْمَحْضَ صابِحاً

الشرح والتفسیر

یشیر الإمام علیه السلام هنا إلی طبیعة علاقته فی السابق والحاضر بقریش، لأنّه أورد هذه الخطبة علی هامش موقعة الجمل: حیث نعلم بأنّ مؤججی نار الجمل هم طلحة والزبیر وسائر الأفراد من قریش الذین خططوا لهذه المعرکة بدافع من أحقادهم تجاه الإمام علیه السلام. فقد کانوا یدیرون هذه المعرکة علانیة أو خفیة ومن هنا فانّ کلمات الإمام علیه السلام تضمنت تحذیر الاُمّة من عدم الوقوع فی شباکهم إلی جانب تنبیهها إلی الدوافع الأصلیة لهذه المعرکة، فاستهل علیه السلام کلامه قائلاً: «مالی ولقریش؟ والله لقد قاتلتهم کافرین ولا قاتلتنهم مفتونین (1)» نعم فهؤلاء کانوا علی الشرک، وقد التحقوا بالمسلمین بسیف علی علیه السلام ودعوة النبی صلی الله علیه و آله، إلّاأنّهم وبعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله وبدافع من حب الجاه قد إبتعدوا عن الحق حتی هبوا لقتال وصی رسول الله صلی الله علیه و آله بعد أن بایعوه طواعیة.

ص:197


1- 1) «مفتونین» من مادة «فتنة» بمعنی الامتحان والابتلاء کما جاءت بمعنی العذاب والخداع والضلال، وقدوردت هنا بمعنی الضلال.

مفتون من مادة فتن بمعنی الانحراف کما تأتی بمعنی الشرک والکفر، ولعلها تشیر فی العبارة إلی انحرافهم عن الإسلام نحو الکفر وقد ورد فی الروایة عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال لعلی علیه السلام: «یا علی حربک حربی وسلمک سلمی» (1). وعلی ضوء هذا الحدیث فقد خرج من ربقة الإسلام من قاتل علیاً علیه السلام فی الجمل وصفین ونهروان؛ لأن ممّا لاشک فیه هو کفر من قاتل النبی صلی الله علیه و آله. وهنا یمکن أن یطرح هذا السؤال: لو کان الأمر کذلک لوجب علی جیش علی علیه السلام فی الجمل أن یأسر من هب لقتاله ویستولی علی أموالهم کغنائم، بینما لم یعاملهم الإمام علیه السلام کذلک؟ قیل فی الجواب لقد کان للاماماً علیه السلام الحق فی أن یفعل هکذا، إلّاأنّ بعض الاُمور من قبیل شرائط الزمان والمکان جعلته ینصرف عن هذا الأمر. أضف إلی ذلک فانّه لیس هنالک من ضرورة فی تکافی أحکام جمیع الکفار، فممکن أن یستثنی من حکم الأسر ومصادرة الأموال کغنائم حربیة هذه الطائفة من المسلمیین التی خرجت علی إمام زمانها ودخلت الکفر. فقد جاء فی بعض الروایات أن مروان بن الحکم.

قال: إنّ علیاً علیه السلام أعاد الأموال إلی أهلها لما غلبنا فی البصرة، فکان یعید أموال کل من أقام البینة أو یأتی بالشهود، ویحلف من لیس له بینة. ولما سئل عن توزیع الغنائم سکت ثم قال: أیّکم یأخذ أُمّه فی سهمه (2).

وتفید بعض الروایات أنّه عفی عن أهل البصرة کما فعل رسول الله صلی الله علیه و آله حین فتح مکة. کما یستفاد أنّه لم یرد أن تکون هذه المسئلة سنة، لأنه کان یعلم بان شیعته ستخضع لضغوط الظلمة ولعلها تعاملهم بهذه المعاملة (3).

ص:198


1- 1) رواها إبن المغازلی الشافعی فی کتاب مناقب أمیر المؤمنین وابن أبی الحدید فی شرح نهج البلاغةوالمحقق الکرکی فی نفحات اللاهوت لاحقاق الحق (6 / 440) . وقد قال ابن أبی الحدید فی شرحه للرسالة 65 من نهج البلاغة [1]لو فرضنا أن النبی صلی الله علیه و آله لم یوص بعلی علیه السلام - کما تقول الإمامیة - ولکن ألا یعلم معاویة وغیره من الصحابة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال ألف مرة فی علی علیه السلام: «أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت» وقال «اللّهم عاد من عاداه ووال من والاه» وقال «أنت مع الحق والحق معک» (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 18 / 24) . [2]
2- 2) وسائل الشیعة 11 / الباب 25 من أبواب جهاد العدو، ح 7، [3] وللوقوف بصورة أعمق راجع کتاب أنوار الفقاهة، کتاب الخمس والانفال / 70. [4]
3- 3) للوقوف أکثر علی هذه الروایات راجع أنوار الفقاهة (کتاب الخمس والانفال) / 75.

علی کل حال فان مراد الإمام علیه السلام من هذه العبارة أنّه لا یکن أی بغض أوعداء لقریش، أما بذور حسدهم للإمام علیه السلام فسببها وقوف الإمام علیه السلام بوجههم فی میادین صراع الحق ضد الباطل إبان إنبثاق الدعوة الإسلامیة، ولم یکن ذلک سوی إمتثالا لأوامر الله. ثم قال علیه السلام:

«وإنی لصاحبهم بالأمس کما أنا صاحبهم الیوم» فما زال السیف الذی جندلت به الابطال فی بدر وأحد والاحزاب بیدی، فالوا قع هذا تهدید صریح لمؤججی نار الجمل. وتساءل البعض أن مثل هذا الکلام یصدق علی معاویة و عمرو بن العاص ومروان وأمثالهم الذین هبوا لقتال رسول الله صلی الله علیه و آله، إلّاأنّه لا یصدق علی طلحة والزبیر، فقد وقفا إلی جانب رسول الله صلی الله علیه و آله فی معارکه. وقد أجییب علی هذا السؤال بأن الإمام علیه السلام لم یرد شخصاً معیناً، إلّا أنّ الهدف بیان حقیقة أنّه کان یقاتل فی سبیل الحق ضد الباطل علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله ومازال بعد النبی صلی الله علیه و آله یقاتل فی هذا السبیل (ونعلم أن قریشاً کانت تقاتل آنذاک ضد المسلمین) . أضف إلی ذلک صحیح أنّ طلحة والزبیر کانا مع رسول الله صلی الله علیه و آله، إلّاأنّ أغلب أصحابه الجمل ومنهم مروان کانوا من قریش. ثم أشار علیه السلام إلی أحد دوافع أصحاب الجمل فقال «والله ما تنقم منا قریش إلّاأنّ الله إختارنا علیهم، فأدخلناهم فی حیزنا» ثم وصفهم بأنّهم أصبحوا کما قال الشاعر (1). أدمت لعمری شربک المحض (2)صَابحا وأکلک بالزبد (3)المقشرة (4)البجرا (5)ونحن وهبناک العلاء ولم تکن علیا وحطنا حولک الجرد (6)والسمرا (7)

نعم فهؤلاء یحسدوننا ویبغون علینا، إلّاأنّ إرادة الله هی التی إختارتنا للنبوة والإمامة،

ص:199


1- 1) لم یرد فی شروح نهج البلاغة شئ بشأن الأول هل یقابل الثانی، أم أنّها إشارة إلی أحد الشعراء الأوائل، أم المراد به اسم شاعر غیر معروف. ویبدو الإحتمال الأول أنسب.
2- 2) «المحض» بمعنی اللین الخالص بلا رغوة الذی لم یخالطه ماء، ثم إطلق علی کل شئ خال ص.
3- 3) «زبد» من مادة «زبد» بمعنی استخراج شئ من آخر، ومن هنا یطلق الزید علی ما یستخرج من الحلیب.
4- 4) «مقشرة» من مادة «قشر» وتطلق علی التمرة بعد نزع نواتها.
5- 5) «بجر» علی وزن برج من مادة «بجر» بمعنی ظهور السرة، کما وردت بمعنی التهم فی الأکل، ویطلق الأبجر علی صاحب البطن والحریص.
6- 6) «جرد» من مادة «جرد» بمعنی الخیول الصغیرة قلیلة الشعر
7- 7) «سمراء» من مادة «سمر» بمعنی السهرة والسامر تقال لمن یقضی اللیل صاحیا لسهرة أو حراسة أو هدف آخر.

مع ذلک لم نعاملهم بالمثل فقد عفونا عن أخطائهم وحفظنا هم من الاعداء، إلّاأنّهم لم یتنکروا لهذه النعمة فحسب، بل شهروا سیوفهم علینا وهبوا لقتالنا، فقد قطعوا الرحم وقابلوا الاحسان بالجحود وأشعلوا نار حرب الجمل فسفکوا الدماء وزرعوا الفرقة فی صفوف المسلمین.

فقریش تشبه بعملها هذا ذلک الحسود الذی یعترض علی حکمة الله، فقد قال سبحانه «اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1).

وقال «أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ وَآتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً» (2).

وقال «قُلِ اللّهُمَّ مالِکَ المُلْکِ تُؤْتِی المُلْکَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْکَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِیَدِکَ الخَیْرُ إِنَّکَ عَلی کُلِّ شَیءٍ قَدِیرٌ» (3).

ومن الطبیعی أنّ الإنسان المؤمن بالمفاهیم القرآنیة والاصول الإسلامیة لا یشعر بالحسد تجاه من یشمله الله علی ضوء حکمته بالنبوة والإمامة، فلا یری نفسه سوی مسلهم لهذه الحکمة.

الحسد مصدر الاضطراب الاجتماعی

قلما نجد صفة رذیلة کالحسد کانت السبب وراء هذه الأحداث الألیمة والفجائع المأساویة التی شهدتها المجتمعات البشربة طیلة التأریخ. فأغلب الناس إثر قلّة العلم وهبوط المستوی الثقا فی وضعف الإیمان وعدم الثقة بالنفس ما إن یری بعض النجاحات التی یحققها أقرانه أو أمثاله حتی تشتعل فی قلبه فتائل الحسد فلا یهم سوی فی کیفیة تحطیم نفسیة المقابل عن طریق الاتهام والتحقیر والذم ومحاولة الانتقاص أو إیجاد بعض الموانع والمعوقات فی طریقه، بدلاً من الشعور بالفرح والسرور والاحتذاء به من أجل تحقیق النجاح والتغلب علی الصعاب

ص:200


1- 1) سورة الانعام / 124. [1]
2- 2) سورة النساء / 54. [2]
3- 3) سورة آل عمران / 26. [3]

والانفتاح علی تجاربه وارشاداته. وقد یشتد هذا الحسد حتی یبلغ درجة تدعو إلی إراقة دم المحسود من قبل الحاسد. ولا ننسی هنا أنّ أول دم إریق کان سببه الحسد، الذی دفع بقابیل لقتل أخیه هابیل حیث قبل قربان الثانی ولم یقبل قربان الأول، الأمر الذی تکرر کثیرا فی التأریخ حتی قتل الأخ أخاه والابن أباه وبالعکس.

وهکذا تعود أغلب الحوادث الألیمة التی وقعت فی صدر الإسلام ولا سیما فی عصر خلافة أمیر المؤمنین علی علیه السلام إلی الحسد؛ الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة. وقد تعرضت أغلب الروایات إلی ذم هذه الرذیلة التی لا تجر سوی الفساد علی المجتمع، فقد قال علی علیه السلام: «إذا أمطر التحاسد نبت التفاسد» (1). أما النقطة المهمة التی أرشدت إلیها الخطبة فتکمن فی ضرورة عدم مقابلة المحسود للحاسد بالمثل، بل یسعی جاهدا لاطفاء نار الحسد من قلبه من خلال شکر النعمة ومداراة الحاسد وإطفاء حسده بمعامتله بالحب والإحسان، وما أحسن ما قال الشاعر: إصبر علی حسد الحسود فان صبرک قاتله النار تاکل نفسها إن لم تجد ما تأکله (2).

ص:201


1- 1) غر الحکم، الرقم 5242
2- 2) بحار الانوار 70 / 258. [1]

ص:202

الخطبة الرابعة والثلاثون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی إستنفار الناس الی أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج. وفیها یتأفف بالناس، وینصح لهم بطریق السداد.

مناسبة الخطبة

خطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة کما ورد آنفا بعد فراغه من معرکة النهروان. ویستفاد من ظاهر کلام ابن أبی الحدید أن الإمام علیه السلام خطبها فی النهروان، بینما نقل عن نصر بن مزاحم أنّها أول خطبة خطبها بعد قدومه من النهروان لما کره القوم المسیر إلی الشام عقیب واقعة النهروان، وأقبلوا یتسللون ویدخلون الکوفة، فلما رأی ذلک دخل الکوفة فخطبهم (2).

وصرح البعض من شرّاح نهج البلاغة أن الإمام علیه السلام کان حریص فی النهروان علی الحرکة إلی الشام دون ضیاع الفرصة، لأنّه کان یری أنّ العودة إلی الکوفة تعنی إسترخاء الجیش وصعوبة تجهزه ثانیة، إلّاأنّهم کانوا یتعللون ببرودة الجو ووجود الجرحی وعدم کفایة الأسلحة فلم یطیعوا أوامر الإمام علیه السلام. فاضطر الإمام علیه السلام إلی دخول الکوفة لیجهزهم للقاء

ص:203


1- 1) رواها الطبری فی تأریخه 6 / 51 وابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة 1 / 150 والبلاذری فی أنسباب الاشراف / 380، وکذلک المرحوم الشیخ المفید فی الامالی (المجلس 18) بصورة أکثر إختصارا ممّا وردت فی نهج البلاغة ( [1]مصادر نهج البلاغة 1 / 425) ورواها المرحوم العلّامة المجلسی فی بحار الانوار عن مطالب السئول محمد بن طلحة الشافعی (بحار الانوار 74 / 333) . [2]
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 192. [3]

العدو، ولکن (وکما تکهن سابقاً) تشبثوا بالحجج، فتأثر الإمام علیه السلام وخطب الناس بهذه الخطبة (1).

نظرة إلی الخطبة

تعالج هذه الخطبة ثلاثة مواضیع وهی:

1- التأکید علی جهاد العدو والعواقب الوخیمة لترک الجهاد. والذی یمثل أطول جانب من الخطبة فالإمام علیه السلام یعرض باللوم لأهل الکوفة - فی هذا القسم من الخطبة الذی یشکل معظمها - ویذمهم بمختلف العبارات الشدیدة القسوة. وبالطبع فانّ ذلک جاء بعد عدم جدوی کافة الأسالیب عن طریق الاستدلال والبرهان والمنطق والمحبة لتعیئتهم للجهاد ومواجهة العدو، فلم یکن أمامه سوی هذا الاسلوب، فقد کان یشبههم أحیاناً بالمجانین الذین فقدوا شعورهم وأحاسیسهم فلم یعودوا یدرکوا ما یضرهم وینفعهم، وأحیاناً اُخری یشبههم بالابل التی ضل رعاتها، ثم یسعی لتعبئتهم من خلال تنبیههم إلی قسوة عدوهم.

2- عزمه الراسخ فی مجابهة العدو سواء کان هناک من یهب لنصرته أم لم یکن.

3- الحقوق المتبادلة بین الإمام والاُمّة، فیعرض بادیء ذی بدء إلی حقوق الاُمّة علی الإمام، فیلخصها فی أربع عبارات، ثم یبین باربع عبارات اُخری حقوق الإمام علی الاُمّة. وکأن الإمام علیه السلام أراد أن یختتم الخطبة بما یحیل مرارة ذمه حلاوة عل ذلک یجدی نفعاً فی علاج ضعفهم وتقاعسهم.

ص:204


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم البحرانی 2 / 77 والعلّامة الخوئی 4 / 72.

القسم الأول: لم الخشیة من الشهادة؟

اشارة

«أُفٍّ لَکُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتابَکُمْ! أَرَضِیتُمْ بِالْحَیاةِ الدُّنْیا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذا دَعَوْتُکُمْ إِلَی جِهادِ عَدُوِّکُمْ دارَتْ أَعْیُنُکُمْ، کَأَنَّکُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِی غَمْرَةٍ وَمِنَ الذُّهُولِ فِی سَکْرَةٍ یُرْتَجُ عَلَیْکُمْ حَوَارِی فَتَعْمَهُونَ، وَکَأَنَّ قُلُوبَکُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لا تَعْقِلُونَ! مَا أَنْتُمْ لِی بِثِقَةٍ سَجِیسَ اللَّیالِی، وَما أَنْتُمْ بِرُکْنٍ یُمالُ بِکُمْ، وَلا زَوافِرُ عِزٍّ یُفْتَقَرُ إِلَیْکُمْ» .

الشرح والتفسیر

یستهل الإمام علیه السلام خطبته بامطار أهل الکوفه بوابل عتابه ولومه وذمه لتجاهلهم المخاطر التی کانت تهدد البلد الإسلامی وعدم إکتراثهم لها، لعل قصبتهم تهتز فیحولوا دون تفاقم تلک المخاطر. فقد کان أهل الشام یشنون الغارة تلو الغارة علی مختلف المناطق الإسلامیة ویسفکون دماء المسلمین وینهبون أموالهم وثرواتهم. فقد قال الإمام علیه السلام «أف لکم (1)لقد سئمت (2)عتابکم» ودلیل ذلک واضح، فالعتاب ولاسیما من شخص کعلی علیه السلام لابدّ أن یکون له تأثیراً واضحاً فی نفس المعاتبین ودفعهم لاعادة النظر فی أعمالهم الطالحة، إمّا إذا لم یحصل هذا

ص:205


1- 1) قال الراغب فی المفردت «أف» فی الأصل تعنی کل شئ قذر وهی کلمة تضجر تطلق للمهانة والاستحقار. فمثلاً یقال «أففت بکذا» أی تضجرت منه واستقذرته. وقال البعض «أف» تعنی مایجتمع من الأوساخ تحت الأظافر وقال البعض أن التراب والغبار إذا علق ببدن الإنسان فان نفخه یشیه القول «اوف» أو «اف» ثم استخدمت هذه المفردة بمعنی اظهار التضجر والنفرة ولا سیما من الاشیاء الصغیرة. ونخلص ممّا ذکر ومن بعض القرائن إلی أن هذه المفردة کانت فی الاصل إسم صوت.
2- 2) «سئمت» من مادة «سئم» بمعنی الملل، التی تتعدی أحیانا بحرف من وأحیانا اُخری بدونها، وسئمته وسئمت منه. بمعنی واحد، وعلیه سئمت عتابکم بمعنی سئمت من عتابکم.

التأثیر بسبب غفلة المقابل فان تکراره لا ینطوی سوی علی الملل والتعب. ثم قال علیه السلام: «أرضیتم بالحیاة الدنیا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟» إنّ هذا سکوتکم الممیت وفرارکم من الجهاد یدل علی أنکم أوبقتم آخر تکم واستبدلتموها ببضعة أیام من الدنیا من جانب، ومن جانب آخر فقد أفریتم دنیاکم، وذلک لانکم استبدلتم العزة والرفعة بالذلة والضعة؟ والحال إن موتاً بعزة أشرف بکثیرمن حیاة بذلة؛ الرسالة التی لقنها أولیاء الله والزعماء الربانیین أتباعهم علی مدی العصور والدهور. فقد قال علی علیه السلام فی نهج البلاغة «فالموت فی حیاتکم مقهورین والحیاة فی موتکم قاهرین» (1)وقال سید الشهداء «ألا وإنّ الدعی بن الدعی قد رکزنی بین إثنتین بین السلة والذلة وهیهات منا الذلة» ثم خاطب جیش الکوفة «إن لم یکن لکم دین وکنتم لا تخشون المعاد فکونوا أحراراً فی دنیاکم» فالواقع أنّ عبارات الإمام علیه السلام کانت تمثل دلیل سئمه عتابهم وکأنّهم عقدوا العزم علی إیثار الذلة والحقارة وغضب الله علی العزة والشرف ورضی الله، ومن هنا لم یعد للعتاب من أثر علیهم، حتی سئم الإمام علیه السلام عتابهم. أمّا فی العبارة اللاحقة فیشیر الإمام علیه السلام إلی ضعفهم لیلتفتوا إلی أنفسهم فیزیلوا ذلک الضعف فقال علیه السلام: «إذا دعوتکم إلی جهاد عدوکم دارت أعینکم، فأنّکم من الموت فی غمرة (2)ومن الذهول فی سکرة. یرتج علیکم حواری (3)فتعمهون (4)» . قوله علیه السلام «یرتج علیکم حواری» - بالنظر إلی الحوار الذی یعنی الکلام المکرر ویرتج من مادة (رت ج) بمعنی یغلق - له معنیان: الأول ما ذکر سابقاً، أی أنّ کلامی المکرر لا یؤثر فیکم فأنکم لا تدرکوه، لأنّ باب الفهم أغلق بوجوهکم. والثانی أنّ لسانکم عقد عن جوابی، وذلک لأنّکم لا تمتلکون الرد المنطقی علی کلامی - علی کل حال فانّ نتیجة المعنیین واحدة تضمنتها العبارة اللاحقة وهی حیرتهم وضلالهم «وکأن قلوبکم مألوسة (5)فانتم لا تعقلون» .

ص:206


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 51. [1]
2- 2) «غمرة» الواحدة من غمر وهو الستر، وغمرة الموت الشدة التی ینتهی إلیها المحتضر، وهی الحالة التی کان یعیشها جیش الکوفة.
3- 3) «حوار» من مادة «حور» بمعنی الرجوع وتطلق علی المحادثة بین الأفراد والتی یصطلح علیها بالمحاورة، وقد وردت بهذا المعنی فی العبارة.
4- 4) «تعمهون» من مادة «عمه» بمعنی تتحیرون وتتردون.
5- 5) «المألوسة» من مادة «ألس» تعنی فقدان العقل، ومن هنا تستعمل حیث الخدعة التی تسلبِ عقل المقابل، وهی تعنی المخلوطة بمس الجنون.

ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة «ما أنتم لی بثقة سجیس (1)اللیالی» . وبالنظر إلی أن سجیس اللیالی»

تعنی ظلمة اللیل فانّ معنی العبارة مادامت اللیالی بظلامها فلیس لی من ثقة بکم، وهی کنایة عن الأبدیة والخلود، لأن الظلمة لا تفارق اللیل أبداً. أما اختیار ظلمة اللیل فینطوی علی منتهی البلاغة إستنادا إلی أفکار أهل الکوفة وأعمالهم السوداء المظلمة. ثم أکد ذلک بقوله «وما أنتم برکن یمال بکم ولا زوافر (2)عز یفتقر إلیکم» وهکذا أعلن الإمام علیه السلام بهذه العبارات عدم ثقته واعتماده علی هذه العناصر الضعیفة بعد أن تطرق لنقاط ضعفهم، أملا فی إثارتهم وتعبئتهم لتوحید الصف ومجابهة العدو. ودخولهم المیدان بکل قوة وشجاعة.

جدوی الذم واللوم

نری أنفسنا مضطرین مرة اُخری لملاحقة هذا السؤال: لم کل هذا العتاب واللوم من قبل الإمام علیه السلام - وهو ما هو علیه من العلم والحکمة فی إدارة شؤون الناس - لأهل الکوفة وامطارهم بوابل من الکلمات القاسیة العنیفة؟ أفلا یؤدی هذا الکلام الذی ینطوی علی العتاب والذم وانعدام الثقة إلی نفرتهم وشدة تعصیّهم وابتعادهم عن الحق؟ ولابدّ من القول فی الجواب أنّ الإمام علیه السلام قد خبر نفسیة وروحیة أهل الکوفة، وقد أثبت التأریخ أن اهل الکوفة لم یکونوا یتحرکون إلّاإذا داهمهم الخطر وعرضهم للزوال بالمرة، بعبارة اُخری فانّ العتاب لایجدی معهم نفعا ما لم یجرح مشاعرهم ویثیر أحاسیسهم.

ویبدو أنّ المجتمعات البشریة إنّما تشتمل دائما علی طائفة - وإن کانت ضئیلة - لا تفیق إلی نفسها ما لم تتلق ضربات موجعة متتالیة.

ولا یفهم من کلام الإمام علیه السلام إننا ینبغی أن نعتمد هذا الاسلوب تجاه من عاش الغفلة وتخلی عن وظیفته ومسؤولیته؛ لأنّ الأفراد علی أنواع: بعضهم یعود إلی نفسه بأدنی إشارة فیستقیم

ص:207


1- 1) «سجیس» من مادة «سجس» بمعنی تغییر لون الماء وتکدره، ومن هنا اِطلقت «سجیس اللیالی» علی ظلمةاللیل وکأنّ اَصل الاستعمال ما دامت اللیالی بظلامها، وهکذا وردت فی العبارة.
2- 2) «زوافر» جمع زافرة من مادة «زفر» بمعنی التنهد وهو التنفس بصوت. کما یطلق الزفیر علی صوت النار، والزافزة بمعنی الأنصار والأقوام والعشیرة.

علی الطریق، وبعضهم لایتحرک ما لم توخزه بابرة.

وبناءاً علی هذا فان ذلک الاسلوب إنّما یختص بتلک الجماعة بفضله العلاج الأخیر لدائهم.

وقد أثبت التاریخ أن ذلک الاسلوب کان قد أثر فی أغلب أهل الکوفة فاندفعوا إلی النخیلة وتأهبوا لقتال أهل الشام، غیر أنّ شهادة أمیرالمؤمنین علیه السلام علی ید عبدالرحمن بن ملجم أشقی الآخرین حالت دون ذلک.

والشاهد الآخر علی ذلک أنّ الإمام علیه السلام کان کثیراً ما یثنی علی أهل الکوفة أوائل حکومته (1)، إلّاأنّهم حین ضعفوا واستقوی علیهم أهل الشام فکانوا یهجمون کل یوم علی منطقة من مناطق البلاد الإسلامیة، لم یر علیه السلام بداً من مخاطبتهم بهذا الاسلوب.

ص:208


1- 1) علی سبیل المثال راجع نهج البلاغة، الخطبة 107و118

القسم الثانی: یقظة العدو وسیات النصیر

اشارة

«ما أَنْتُمْ إِلاَّ کَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا فَکُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللّهِ سُعْرُ نارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! تُکادُونَ وَلا تَکِیدُونَ وَتُنْتَقَصُ أَطْرافُکُمْ فَلا تَمْتَعِضُونَ!

لا یُنامُ عَنْکُمْ وَأَنْتُمْ فِی غَفْلَةٍ ساهُونَ، غُلِبَ وَاللّهِ الْمُتَخاذِلُونَ! وَایْمُ اللّهِ إِنِّی لأَظُنُّ بِکُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَی، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِی طالِبٍ انْفِراجَ الرَّأْسِ» .

الشرح والتفسیر

یواصل الإمام علیه السلام عتابه وذمه لعسکر الکوفة «ما أنتم إلّاکابل ضل رعاتها فکلما جمعت من جانب إنتشرت من آخر» فالمراد أنّ إرادتکم ضعیفة وأفکارکم مشتتة ولا تمیزون مصالحکم، فقد شبههم علیه السلام بالابل لضیق أفقهم وضحالة أفکارهم، وقوله «ضل رعاتها» اشارة إلی عدم طاعتهم لائمتهم وأولیائهم.

ومن البدیهی أن هؤلاء الأفراد لایسعهم أن یکونوا قوة أمام العدو ولذلک قال علیه السلام: «لبئس لعمر (1)الله سعر (2)نار الحرب أنتم» .

فالحرب ظاهرة ممجوجة غیر محببة وآثارها خراب البلدان وقتل الإنسان والفقر والجهل

ص:209


1- 1) لعمر اللّه، مفهوم هذه العلمة القسم بالعمر ومدة الحیاة، ولما لم یکن للعمر من معنی بالنسبة لله فانّ المعنی هنا «قسماً بالله» وقد تقدم شرح هذه العبارة فی الخطبة الرابعة والعشرین.
2- 2) «سعر» جمع ساعر من مادة «سعر» بمعنی أوقد النار وسعر بمعنی شعلة النار، والمراد لیئس موقدو الحرب أنتم.

والبؤس والشقاء والتخلف، إلّاأنّ نفس ظاهرة اللوم هذه قد تکون دواءاً حیویاً للمجتمع وذلک حین ینهض العدو لیهضم حقوق الاُمّة وینشر فی ربوعها الذعر والفساد والانحراف.

فلا یمکن إعادة الأمن والسلام والعدل إلی المجتمع إلّامن خلال الحرب. ومن هنا صرح القرآن الکریم قائلا: «اُذن للذین یقاتلون بانهم ظلموا وان الله علی نصرهم لقدیر» (1)وقال فی موضع آخر «وَقاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ الَّذِینَ یُقاتِلُونَکُمْ وَلاتَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لایُحِبُّ المُعْتَدِینَ» (2).

وعلیه فانّ الإمام علیه السلام إذا أشار إلی الحرب، فانّما ذلک لتکرر إعتداءات وحملات أهل الشام وسفکهم للدماء ونهبهم للأموال بل هبوا فی الواقع لمحاربة وصی رسول الله صلی الله علیه و آله من بایعته الأمّة برمتها.

ومن هنا خاطبهم «تکادون ولاتکیدون، وتنتقض أطرافکم فلا تمتعضون، (3)لا ینام عنکم وأنتم فی غفلة ساهون» .

ومن الواضح أنّ من لایستعد لمواجهة العدو ویتأهب لخططه التدمیریة فانّ قراه ومدنه الحدودیة إنّما تکون علی الدوام مسرحاً لعملیات العدو لیمارس بحق أهلها القتل والدمار ونهب خیراتهم وثرواتهم، ولیس هنالک من مصیر بافضل من هذا المصیر ینتظر اُولئک الذین یعیشون الغفلة عن عدوهم.

وما أعظم قساوة إصدار الأحکام بشأن الإمام علی علیه السلام واتهامه بالضعف وقلّة التدبیر فی الحروب إذا لم یحط بحقیقة أهل الکوفة والضعف والوهن الذی کان سائدا لدیهم إلی جانب عدم الطاعة والتمرد الذی طبعت علیه سجیتهم.

بعد ذلک یخلص الإمام علیه السلام إلی نتیجة أعمالهم فیقول «غلب والله المتخاذلون» نعم فالفشل والهزیمة لا تقتصر علی هولاء الذین تصدعت وحدتهم وتخلوا عن مجابهة العدو، بل الهزیمة من القوانین الثابتة التی یمنی بها کل من یعیش هذه المفردات من قبیل الفرقة والنفاق والضعف والوهن وعدم الطاعة.

ص:210


1- 1) سورة الحج / 39. [1]
2- 2) سورة البقرة / 190. [2]
3- 3) «تمتعضون» من مادة معنی «معض» الابتئاس والغضب.

ثم قال علیه السلام: «وآیم الله (1)انی لاظن بکم أن لو حمس (2)الوغی (3)واستحر (4)الموت، قد انفرجتم عن إبن أبی طالب إتفراج الرأس» .

فقد أشار الإمام علیه السلام إلی عدّة اُمور بهذا التشبیه: الأول إنّ مکانته وإن کانت بمثابة الرأس من الجسد، ولکن هل للرأس - الذی یعتبر مرکز الفکر ویضم العین والاذن واللسان - أن یفعل شیئا دون سائر الاعضاء؟ والثانی: هل من حیاة ووجود لهذا الجسد إن فصل عنه الرأس، وإن کان فیه فهل له فعل شئ دون معونة العقل والفکر والسمع والبصر.

وأخیرا یتعذر التئام الرأس بالجسد إذا ما فصل عنه، بینما لیست هنالک مثل هذه الصعوبة فی إلتئام سائر أعضاء البدن.

وعلیه فان مراد الإمام علیه السلام هو أنکم تنفرجون عنی ولیس لکم العودة إلی اذا حمی الوطیس وأخذکم الخوف فهربتم منی کما احتمل بعض الشرّاح أنّ المراد بقوله: «أنفراج الرأس» هو فلق الرأس بضربة السیف التی تأبی الالتئام. (5)

عوامل اُخری للضعف والهزیمة

یتطرق الإمام علیه السلام بفضله زعیماً إنسانیاً وسیاسیاً وعسکریاً - فی هذا القسم من الخطبة - إلی العوامل التی تقف وراء الضعف والفشل والهزیمة، فیجملها بعبارات قصیرة بعیدة المعانی وفی مقدمتها التشتت والفرقة وعدم إمتلاک الزعیم الأوحد، الأمر الذی یشاهد بوضوح الیوم فی

ص:211


1- 1) أوردنا شرحاً وافیاً فی المجلد الأول ذیل الخطبة رقم 10 لعبارة «وآیم الله» التی تفید مفهوم القسم.
2- 2) «حمس» من مادة (ح م س) بمعنی إشتد وصلب، والحماسة والتحمس بمعنی التشدید والتشدد ولاسیما فی الحرب ویقال الاحمس للرجل الشجاع الذی یقف بصلابة بوجه العدو.
3- 3) «الوغی» بمعنی الضجیج والصوت والجلبة فی میدان القتال، کما یقال لنفس الحرب الوغی، وهکذا وردت فی العبارة.
4- 4) «إستحر» من مادة «حرر» بمعنی اشتداد الحر، وهو إشارة لایثار الفرار علی الثبات فی المعرکة إذا إشتد القتال وبلغ حدته.
5- 5) یبدو هذا الاحتمال مستبعدا لوجود التقدیر فی الجملة، لان العبارة «قد إنفرجتم عن ابن أبی طالب» تتطلب أن یکون تقدیر العبارة «إنفراج الرأس» هو «إنفراج الرأس عن الجسد» أو «إنفراج الجسد عن الرأس» کما ورد مثل هذا التعبیر فی الخطبة 97 «انفرجتم عن علی بن أبی طالب انفراج المرأة عن قبلها» . والعجیب ما اورده شرّاح نهج البلاغة [1]من تفاسیر غریبة لهذه العبارة، حتی ذکروا ثمانیة وجوه أو أکثر لانری ضرورة للخوض فیها.

البلدان الإسلامیة، حیث تؤدی الفرقة والانفسام إلی هذه الفوضی والانفلات فی صفوف الاُمّة.

والطریف فی الأمر أن الجمیع یتحدث عن الوحدة، بینما یسهم کل حسب قدرته بتأجیج نیران الفرقة والاختلاف.

والثانی عدم وجود الخطط والمشاریع الصحیحة التی یمکنها مواجهة مخططات العدو الخبیثة والتی أشیر إلیها بالعبارة «تکادون ولا تکیدون» . الثالثالاستهانة ببعض الحوادث الصغیرة - وهی کبیرة فی الواقع - والتی تعرض لها الإمام علیه السلام بقوله «وتنتقص أطرافکم فلا تمتعضون» فاغلب الحوادث الصغیرة تکشف عن عمق بعض المسائل المهمة الخفیة، فتغییر بسیط فی البدن قد یعکس حالة مستعصیة فی باطنه، وهذا ما علیه الحال بالنسبة للقضایا الاجتماعیة والسیاسیة والعسکریة.

فاذا رأینا العدو قد هجم علی منطقة حدودیة صغیرة، أو إغتال شخصیة من البلد، لابدّ أن نعلم بأنّه إنّما یعدّ نفسه لمعرکة أکبر وأعنف، وإلّا لما تجاسر وارتکب ذلک العمل.

وعلیه لابدّ من الالتفات إلی الأعمال فی بدیاتها وعدم الغغلة عن القضایا العضال التی تستبطنها وتختزنها. الرابع یقظة العدو وغفلتنا، فالعدو منهمک علی الدوام فی إعداد العِدة والعُدة، بینما ننظر بکل سذاجة إلی الاوضاع القائمة علی أنها تمثل السلام العادل والمشرف، فاذا قدر لنا أن نفیق من غفلتنا، رأینا زمام المبادرة قد سلبت من أیدینا. الخامس خوف الموت والفرار من الشهادة فی سبیل الله والتی أشار إلیها الإمام علیه السلام بقوله «وآیم الله! انی لأظن. . .» . والواقع إن الإنسان لیغفل عن حقیقة مفادها أن خشیة الموت سبب الموت: والاستعداد للتضحیة والفداء یعد من أسباب حفظ النفس.

کانت هذه بعض النقاط المهمة المرتبطة بالضعف والهزیمة التی أوردها الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة وسنتابع تفاصیل هذه المسألة فی الابحاث القادمة ذات الصلة. فقد تطرق الإمام علیه السلام فی الخطبة الخامسة والعشرین إلی سائر عوامل الضعف والفشل والهزیمة.

ص:212

القسم الثالث: الانفراد فی مجابهة العدو

اشارة

«وَاللّهِ إِنَّ امْرَأً یُمَکِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ یَعْرُقُ لَحْمَهُ وَیَهْشِمُ عَظْمَهُ وَیَفْرِی جِلْدَهُ لَعَظِیمٌ عَجْزُهُ، ضَعِیفٌ ما ضُمَّتْ عَلَیْهِ جَوانِحُ صَدْرِهِ.

أَنْتَ فَکُنْ ذاکَ إِنْ شِئْتَ فَأَمّا أَنَا، فَوَاللّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِیَ ذَلِکَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِیَّةِ تَطِیرُ مِنْهُ فَراشُ الْهامِ، وَتَطِیحُ السَّواعِدُ وَالْأَقْدامُ، وَیَفْعَلُ اللّهُ بَعْدَ ذَلِکَ ما یَشاءُ» .

الشرح والتفسیر

یتحدث الإمام علیه السلام عن العناصر الضعیفة والهزیلة التی تمکن عدوها من نفسها فیقول «والله إن إمرء یمکن عدوه من نفسه یعرق (1)لحمه ویهشمّ (2)عظمه و یفری (3)جلده لعظیم عجزه، ضعیف ما ضمت علیه جوانح (4)صدره»

فالعبارة تبین بصراحة أنّ الضعف والوهن بلغ ذروته فی جیش الکوفة بحیث اندفع العدو یکل ما اُوتی من قوة لیسدد له الضربات التی تحز اللحم وتطحن العظام، وهی أروع عبارة تجسد تسلط العدو وتحکمه فی مصیر الضعفاء العجزة، کما تضمنت قمة الفصاحة

ص:213


1- 1) «یعرق» من مادة «عرق» بمعنی فصل اللحم عن العظم، کما ورد بمعنی فصل اللحم عن العظم بالأسنان وأکله.
2- 2) «یهشم» من مادة «هشم» بمعنی کسر الشی الیابس کما ورد بمعنی کسر مطلق العظام، أو عظام الرأی و الوجه.
3- 3) «یفری» من مادة «فری» بمعنیشق الشئ و تمزیقه.
4- 4) «جوانح» جمع «جانحة» ، و هی الضلوع تحت الترائب، اصلها من مادة «جنح» بمعنی المیل و الانحراف، و قد اطلقت علی الاضلاع لأنّها لیست بشکل مستقیم.

والبلاغة بحیث تکفی لا ثارة من بقی لدیه ثمة إحساس وشعور.

نعم هکذا کانت سیطرة أهل الشام ومعاملتهم لأهل العراق، لم یرعوا إلّاولا ذمة فی أحد، فکانوا یقتلون الأبریاء ولا یرحمون الضعفاء وینهبون الأموال والثروات ویخربون البیوت. فالواقع عمل هؤلاء أشبه بفعل القصابِ بالذبیحة یسلخ جلدها ویحز لحمها عن عظمها ویعدها لقمة سائغة للأکل. أمّا بعض المفسرین فقد ذهبوا إلی أنّ کل عبارة من هذه الجمل الثلاث مستقلة، فقوله «یعرق لحمه» تعنی نهب الأموال و «یهشم عظمه» قتل الناس و «یفری جلده» إشارة إلی الاخلال بنظام المجتمع (1)، وبالطبع لیست هنالک من قرینة واضحة علی هذا التفسیر. أمّا الشیخ المرحوم مغنیة قد علق فی شرحه علی هذه العبارة فی أننا سمعنا کثیراً عن المقاومة السلبیة تجاه الطواغیت والظلمة کأن ینتحر الفرد أو یحرق نفسه إلّااننا لم نسمع من یستسلم للعدو إلی الحد الذی یعرق لحمه ویهشم عظمه ویفری جلده دون أن یدافع عن نفسه، فلیس هنالک أرعب وأشنع من هذا الخوف بحیث یلقی الجبان الضعیف بنفسه إلی قصابی البشریة لیذبحوه بهذه الطریقة ویجعلوه لقمة سائغة لهم (2).

کما یحتمل إلّاتکون العبارات الثلاث المذکورة بشأن فرد واحد، بل یفعل العدو هذه الاُمور بشأن عدة أفراد کأن یعرق لحم البعض ویهشم عظم الآخر ویفری جلد الثالث وعلی ضوی هذا التفسیر یمکن حل السؤال الوارد بشأن ترتیب العبارات فی أنّ الإمام علیه السلام لم جعل فری اللحم فی آخر العبارة. فکأنّ جواب الإمام علیه السلام أنّ جنایات العدو تجاهکم فی مرحلة هی فصل اللحم عن العظم، ثم یتقدم فی مرحلة اُخری لیهشم العظم وأخیراً لا یبقی أمامه سوی فری جلد البدن. وذهب بعض المفسرین إلی أنّ هذه العبارات إشارات إلی بعض الحوادث التی وقعت بعد شهادته علیه السلام وسیطرة معاویة وأهل الشام علی العراق ولم یرحموا صغیراً ولا کبیراً ولا صحیحاً ولا مریضاً ولا فقیراً ولا غنیاً ولا رجالاً ولا نساءاً (3). ولکن یبدو أنّها لیست مختصة بذلک الزمان، وإن کانت أشد وأقسی آنذاک.

ص:214


1- 1) شرح نهج البلاغة ابن میثم البحرانی 2 / 81.
2- 2) فی ظلال نهج البلاغة / 228.
3- 3) مفتاح السعادة 6 / 82.

أمّا العبارة «ما ضمت علیه جوانح صدره» - بالالتفات إلی أن الجوانح جمع جانحة بمعنی الاضلاع - فالمراد بها القلب، وهدف الإمام من قوله «ما ضمت علیه جوانح صدره» بیان روحیة جیش الکوفة ومدی عجزه. ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی نقطة مهمّة وأساسیة یکشف فیها عن إتخاذه القرار الحاسم بشأن المستقبل وما یحمله من أحداث «أنت فکن ذاک إن شئت فأمّا أنا فوالله دون أن أعطی ذلک ضرب بالمشرفیة تطیر منه قراش (1)الهام، وتطیح (2)السواعد والأقدام، ویفعل الله بعد ذلک ما یشاء» .

وأمّا من المخاطب بقوله علیه السلام أنت فکن ذاک؟ هنالک احتمالان: الأول أن إنّما خاطب من یمکن عدود من نفسه کائنا من کان، غیر معین ولا مخصص، والاحتمال الاخر أنّه خاطب بذلک الأشعث بن قیس، فانّه روی أنّه علیه السلام قال وهو یخطب ویلوم الناس علی تثبیطهم وتقاعدهم:

هلاً فعلت فعل ابن عفان! فقال له: «إن امراً مکن عدوه من نفسه، یعرق لحمه ویهشم عظمه ویفری جلده. أنت فکن ذاک. . .» فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام فصل نفسه عنهم بعد أن یأس منهم، فافهمهم أنکم إن آثرتم الاستسلام للعدو فسبیلی غیر سبیلکم ولیس للعدو عندی إلّا السیف وسأقاتله بمفردی، فلکل وظیفة ولیس أنا من یتقاعس عن إداء وظیفته، فان تخلیتم عن وظیفتکم ورضیتم لأنفسکم الذل والهوان والاستسلام للعدو وعرضتم البلد الإسلامی للدمار والابتزاز وخلیتم وأهل الشام لینهبوا الأموال ویعتدوا علی الاعراض، فلیس لی إلّا أن أقاتلهم وحدی وأنا مستعد للشهادة التی لا أوثر علیها شیئاً ولن أشعر بالضعف أبداً. وکأنّ الإمام علیه السلام أراد أن بهذه الکلمات أن یشد أزر ذلک النزر الیسیر من الأفراد الشجعان الذین لا یخلو منهم جیش الکوفة، کما یزیل الشک عن قلوب بعض المترددین لیلتحقوا به، ویرشد التأریخ إلی مدی الأثر الذی لعبه کلام الإمام علیه السلام فیهم. فقد شعروا بقوتهم من جدید وتأهبوا لمنازلة العدو.

ص:215


1- 1) «قراش» جمع «قراشه» بعنی العظام الرقیقة التی تلی القحف أو عظام الجبهة والرأس، وهام جمع هامةبمعنی الرأس کما تطلق علی زعیم القبیلة.
2- 2) «تطیح» من مادة «طوح» بمعنی الهلاک أو الاشراف علی الهلاک. ولما کان فصل الید والرجل یشکل القضاء علیهم فقد اُطلقت بهذا المعنی فی العبارة المذکورة.

العزم النهائی للزعیم الشجاع

قد تشهد الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة بعض اللحظات الحساسة التی تجعل الزعماء فی موضع لا یحسدون علیه، وتتفعل هذه اللحظات حین یشتد الضعف والخلاف والتردید فی إتخاذ القرار؛ الأمر الذی یمنح العدو بعض عناصر القوة فی المباغتة.

وهنا لابدّ أن ینبری الزعیم الشجاع لیعلن قراره الحاسم بهذا الشأن لیفهم الجمیع بأنّه مستعد للقتال وخوض غمار الحرب بمفرده سواءاً کان هناک من یقف إلی جانبه أم لا، فلیس هنالک سوی الشهادة التی تأبی المقارنة بالخضوع والاستسلام. وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی الخطبة، وقد وقفنا علی مثیله من أبی الضیم والأحرار الإمام الحسین علیه السلام. فقد إتفقت کلمة الأصحاب لیلة عاشوراء فی مواکبة إمامهم علیه السلام ولا سیما حین رفع الإمام علیه السلام بیعته عن الجمیع وأذن لهم بالانصراف، حیث انصرف أغلب الضعفاء والعجزة وانفرجوا عن الإمام علیه السلام وهربوا من خوض الجهاد، ولم یبق معه إلّاقلّة قلیلة، لینهض کل واحد منها ویعبر عن موقفه ومساندته للإمام علیه السلام وان قتل سبعین قتله، وآخر قال لو اُقتل واُحرق ثم اُقتل ویفعل بی ذلک سبعین مرة لما ترکتک، وما شابه ذلک من المواقف التی عبر عنها صحبه الاوفیاء (1).

وقد أشار أمیر المؤمنین علی علیه السلام - فی الرسالة 36 من رسائله فی نهج البلاغة - إلی هذا المعنی، حیث قال لأخیه عقیل «وأما ما سألت عنه من رأیی فی القتال: فان رأیی قتال المحلین حتی ألقی الله لا یزیدنی کثرة الناس حولی عزة ولا تفرقهم عنی وحشة ولا تحسبن ابن أبیک - ولو أسلمه الناس - متضرعاً متخشعاً ولا مقراً للضیم واهناً» . کما نصطدم فی قصة موسی علیه السلام بقومه الذین أعربوا عن خوفهم من مجابهة العمالقة لما بلغوا بوابة بیت المقدس فضعفت إرادتهم وترددوا فی إتخاذ القرار، حتی تمردوا علی نبیّهم موسی علیه السلام وأخیه هارون علیه السلام واعلنوا موقفهم.

المخزی بکل صراحة «قالُوا یا مُوسیْ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِیها فَاذهَبْ أَنْتَ وَرَبُّکَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ» (2).

ص:216


1- 1) للوقوف علی خطبة الإمام علیه السلام لیلة عاشوراء وما قاله صحبه الاوفیاء راجع بحار الانوار 44 / 392.
2- 2) سورة المائدة / 24. [1]

فما کان من موسی علیه السلام إلّاأن أعلن موقفه منهم وانفصاله عنهم «قالَ رَبِّ إِنِّی لا أَمْلِک ُ إِلّا نَفْسِی وَأَخِی فَافْرُقْ بَیْنَنا وَبَیْنَ القَوْمِ الفاسِقِینَ» (1).

وهذا هو موقف نبی الله نوح علیه السلام «وَا تْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذ قالَ لِقَوْمِهِ یا قَوْمِ إِن کانَ کَبُرَ عَلَیْکُمْ مَقامِی وَتَذکِیرِی بِآیاتِ اللّهِ فَعَلی اللّهِ تَوَکَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَکُمْ وَشُرَکاءَکُمْ ثُمَّ لا یَکُنْ أَمْرُکُمْ عَلَیْکُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَیَّ وَلا تُنْظِرُونَ» (2).

ولا شک إنّ لهذا الموقف الصادم الذی یتخذه الزعیم أثره الکبیر فی نفوس أتباعه، حیث یشعر الأفراد بارتفاع معنویاتهم وقوة شوکتهم إلی جانب عودة الضعفاء إلی الحق والشعور بالقوة والاقتدار ویضطرها لاتخاذ ذات الموقف.

وأدنی معطیات ذلک الموقف أنه یشکل وثیقة تأریخیة حیة فی سیرة هؤلاء الزعماء الابطال والذی یلهم الأجیال العزم والإرادة والقوة، وهذا ما نلمسه بوضوح فی الملحمة الحسینیة فی کربلاء والتی مازالت تلهم الامم والشعوب کل عناصر القوة والاقتدار فی مواجهة الظلم والاضطهاد والطغیان.

ج ج

ص:217


1- 1) سورة المائدة / 25. [1]
2- 2) سورة یونس / 71. [2]

ص:218

القسم الرابع: حقی علیکم وحقکم علی

اشارة

«أَیُّها النّاسُ إِنَّ لِی عَلَیْکُمْ حَقّاً وَلَکُمْ عَلَیَّ حَقٌّ، فَأَمّا حَقُّکُمْ عَلَیَّ: فالنَّصِیحَةُ لَکُمْ، وَتَوْفِیرُ فَیْئِکُمْ عَلَیْکُمْ وَتَعْلِیمُکُمْ کَیْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِیبُکُمْ کَیْما تَعْلَمُوا وَأَمّا حَقِّی عَلَیْکُمْ: فالْوَفاءُ بِالْبَیْعَةِ وَالنَّصِیحَةُ فِی الْمَشْهَدِ وَالْمَغِیبِ، وَالْإِجابَةُ حِینَ أَدْعُوکُمْ وَالطّاعَةُ حِینَ آمُرُکُمْ» .

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالتعرض لاهم القضایا المرتبطة بالحکومة والتی تکمن فی حق الإمام علی الاُمّة وحق الاُمّة علی الإمام، فیوجزها بعبارات مقتضیة عظیمة المعانی، حیث یشیر إلی أربعة متبادلة لکل منهما. فقد تحدث بادی زی بدء عن حقوق الاُمّة، ومن شأن تقدیم حقوق الاُمّة علی الإمام علی العکس، أنّه مدعاة للتأثیر فی نفوس السامعین، إلی جانب کشفه عن البعد الشعبی والجماهیری للحکومة الإسلامیة، کما یفید عمق فارق هذه الحکومة مع الحکومات المستبدة الغاشمة والحکام الطغاة الذین یرون أنفسهم ما لکی رقاب الاُمّة فیعاملونها معاملة المالک والمملوک أو الاقطاع والمزارع.

فقد قال علیه السلام: «أیها الناس إنّ لی علیکم حقاً، ولکم علی حق» .

والحق وإن ذکر بصورة مفردة إلّاأنّه یفید معنی جنس الحق الذی ینطوی علی مفهوم عام، أما تنکیره فیشیر إلی عظمة هذه الحقوق، لأنّ الاتیان بالنکرة قد یفید التعظیم أحیاناً.

فیتطرق الإمام علیه السلام إلی الحق الأول للاُمّة فیقول «فأمّا حقکم علی: فالنصحیة لکم» .

النصیحیة تعنی الخلوص ومن هنا یصطلح علی العسل الخالص بالناصح.

ص:219

کما وردت بمعنی الخیاطة، ولذلک یطلق الناصح علی الخیاط، ثم اطلقت علی کل عمل خیر خالص خال من الغل والغش.

وتستعمل هذه المفردة بشأن اللّه والنبی والقرآن وأفراد الاُمّة والإمام والأمّة، حیث تتمتع بالإشارة إلی أحد مصادیقها الواسعة حسب مقتضی الحال ومورد الاستعمال.

وقد ورد فی بعض المصادر اللغویة أنّ النصیحة تشتمل علی معان متفرقة، فمثلاً النصیحة لله تعنی الاعتقاد بوحدانیته واخلاص النیّة له فی العبادة ونصرة الحق، والنصحیة للقرآن تعنی التصدیق به والعمل بأحکامه والدفاع عن آیاته، تجاه تأویل الجهلاء وتحریف الغلاة، والنصحیة للنبی هی التصدیق بنبوته ورسالته وطاعة أوامره.

ومن هنا یبدو أنّ المراد بالنصیحة فی العبارة العمل من أجل الارتقاء بالجوانب المادیة والمعنویة للاُمّة من خلال البرامج والمشاریع الصحیحیة، حیث تشکل هذه المشاریع الخطوة الاولی لتحقیق خیر الاُمّة، وعلیه فلابدّ أن یکون للإمام والولی والزعیم مشروعاً صحیحاً وجامعاً یتضمن تأمین المصالح المادیة والمعنویة لأفراد الاُمّة ویأخذ بایدیهم إلی الکمال المنشود.

والحق إن هذه المسألة لمن المسائد الحیویة المهمّة فی عالمنا المعاصر والتی تحظی بأهمیة فائقة، حیث یعتقد أغلب العلماء والمنکرین أن العراقیل التی تنطوی علیها المسیرة الاجتماعیة إنّما أفرزتها بالدرجة الأساس مشکلة عدم وجود المشاریع والخطط الصحیحة.

ثم یشیر علیه السلام إلی الحق الثانی - ذات الصلة بالجانب الاقتصادی - فیقول «وتوفیر فیئکم علیکم.»

فالعدالة الاجتماعیة فی المجال الاقتصادی تعد من أهم مشاکل المجتمعات البشریة، فأغلب الحروب والنزاعات الدمویة ومعظم المفاسد الاجتماعیة إنّما تعزی إلی تغییب العدالة الاجتماعیة.

ومن هنا فانّ إعادة الأمن والسلام والنظام والاستقرار والوقوف بوجه المفاسد الاخلاقیة ومختلف الانحرافات إنّما تتطلب بادیء ذی بدء إحیاء العدالة الاجتماعیة وتفعیلها فی المجتمع.

وإستناد إلی أنّ المفردة «فیء» حسب أرباب اللغة أنّها العودة والرجوع إلی حالة الخیر

ص:220

والاحسان، فانّها تطلق إیضاً علی الظل حین یرجع من طرف الغرب إلی الشرق.

وتطلق هذه المفردة فی الآیات القرآنیة والاحادیث النبویة علی الأموال التی تصل المسلمین من الکفار، فقد تطلق علی الأموال التی تصل دون القتال، وحتی علی مثل هذه الأموال والانفال التی تعنی الثروات الطبیعیة للحکومة الإسلامیة التی لیست لها ملکیة شخصیة.

والفیئ فی العبارات المذکورة تعنی جمیع أموال بیت المال، فقوله علیه السلام توفیر فیئکم تعنی أنّ وظیفة الحاکم الإسلامی تعنی إداء الأموال العامة إلی المحتاجین والمعوزین وأصحاب الحق، أی تنظیم الاُمور الاقتصادیة والمعاشیة للاُمّة أما الحق الثالث الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فیرتبط بالتعلیم والشؤون الثقافیة «وتعلیمکم کیلا تجهلوا» .

نعم فالإمام لابدّ أن یعتمد الاسلوب التعلیمی الصحیح ویهب لمکافحة الجهل والاُمیة ویرفع المستوی الثقافی لدی الناس ویستأصل جذور الجهل التی تقود الاُمّة إلی التخلف والانحطاط. وأمّا الحق الرابع والأخیر فهو «وتأدیبکم کیما تعلموا» . فالواقع أنّ الإمام علیه السلام أوجز الحقوق المهمّة للاُمة فی أربع هی:

1- المشاریع والخطط الصحیحة

2- العدالة الاجتماعیة فی المجال الاقتصادی

3- التعلیم

4- التربیة والتهذیب والقضاء علی الفساد الاخلاقی

جدیر بالذکر أنّ الإمام عبر عن الحق الثالث بقوله «وتعلیمکم کیلا تجهلوا» والحق الرابع «وتأدیبکم کیما تعلموا» .

والحال أنّ نتیجة التعلیم هی العلم والمعرفة، بینما یقود التأدیب إلی تربیة الخصال الأخلاقیة لا العلم والمعرفة، إلّاأنّ مراد الإمام علیه السلام:

لابدّ أن تقفوا علی آثار الفضائل وأضرار الرذائل، لتتحلوا بالاولی وتواجهوا الثانیة - فالحق الثالث یشیر فی الواقع إلی العقل النظری بینما یشیر الحق الرابع إلی العقل العملی ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی حقوق الإمام علی الاُمّة الإسلامیة وأوجزها هی الاُخری فی أربع

ص:221

فقال علیه السلام: «وأما حقی علیکم: فالوفاء بالبیعة» .

والبیعة هی العهد بین الاُمّة والإمام؛ العهد الموثق الذی یجب العمل به، وعلی ضوء هذا العهد فانّ الإمام والحاکم لابدّ أن یأخذ بنظر الاعتبار مصالحة الاُمّة ویرسی دعائم الأمن والاستقرار ویقاتل العدو ویمهد السبیل أمام الاُمّة للسمو والتکامل، کما یجب علی الاُمّة أن تشد أزره وتقف إلی جانبه وتتجنب کل ما من شأنه تشد أزره وتقف إلی جانبه وتتجنب کل ما من شأته المساس بهذا العهد والمیثاق الحق الثانی الذی ذکره الإمام علیه السلام: «والنصیحة فی المشهد والمغیب» فلا یکونوا منافقین یظهرون المحبّة والاخلاص فی حضوره، فان غاب عاثوا الفساد وسلکوا الخیانة.

فقد لایکون الإمام حاضراً بینهم علی الدوام، إلّاأنّ اللّه حاضرا لا یخفی علیه شئ ولا ینبغی أن یعیش المومن الغفلة عن هذا الأمر أمّا الحق الثالث الذی ذکره الإمام علیه السلام: «والإجابة حین أدعوکم» فلا ینبغی أن تتعللوا ببعض الذرائع فراراً من مواکبتی، لابدّ أن تطیعوا أوامری وتقتفوا أثری، والحق الرابع والاخیر «والطاعة حین آمرکم» فلعل البعض یلبی دعوة الإمام، إلّا أنّه لایطیع مایصدره من أوامر، وعلیه فاجابة الدعوة لابدّ أن تکلل بطاعة الاوامر.

وبالطبع فانّ حقوق الإمام علی الاُمّة إنّما تعود بالنفع مباشرة علی الاُمّة، وعلیه فلا ینبغی لهم أن یمنوا علی الإمام، بل الإمام یمن علی الاُمّة بانه یعتمد هذه الحقوق لاعادة الأمن والاستقرار إلی الاُمّة واعمار بلادها. وقد صرح بعض شرّاح نهج البلاغة بأنّ هذه الحقوق المتبادلة إنّما تختص بالإمام العادل المنصوب من جانب اللّه سبحانه، لا لکل إمام صالح کان أم طالح، ومن هنا قال الإمام علیه السلام: «إنّ لی علیکم حقاً» (1).

لکن یبدو أنّ عبارة الإمام شاملة عامة وهذا ما یفهم من قوله علیه السلام «لابدّ الناس من أمیر بر أو فاجر» (2)فکل من تزعم أمور المجتمع وأراد أن ینهض بالاُمّة لابدّ أن یحترم الحقوق الأربع التی ینبغی أن تتمتع بها الاُمّة والتی أشار إلیها الإمام علیه السلام ویبدو أن العقل والمنطق یرشد إلی ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطبة.

ص:222


1- 1) مفتاح السعادة 6 / 84 - 85. [1]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 40.

تأمّلان

1- الحقوق المتبادلة للإمام والاُمّة

إنّ الحکومة رابطة بین الإمام والاُمّة علی غرار رابطة الرأس بالجسد، حیث یتعذر القیام بالوظائف دون تظافر جمیع الجهود، بعبارة اُخری فانّ أولیاء الله فی الوقت الذی یکوتون فیه خلفاء الله فی الخلق، فهم خلفاء الاُمّة من أجل ضمان مصالحها، ومن هنا کانت الحقوق المتبادلة بین الإمام والاُمّة من أثقل الحقوق وأعظمها.

وقد وردت الأبحاث المسهبة فی الروایات بشأن هذه الحقوق، والتی تفید مدی إهتمام الإسلام بهذا الموضوع الحیوی.

فقد افرد المرحوم الکلینی باباً فی المجلد الأول من کتابه أصول الکافی بهذا الخصوص وقد نقل أول حدیث فیه عن أبی حمزة انه سأل الإمام الباقر علیه السلام: «ما حق الإمام علی الناس» ؟

قال علیه السلام: «حقه علیهم أن یسمعوا له ویطیعوه» قال فقلت له: «وما حقهم علیه» .

قال: «یقسم بینهم بالسویة ویعدل فی الرعیة» .

ولا یستبعد أن تکون الجملة الاولی إشارة إلی المسائل الاقتصادیة والثانیة إلی القضایا الاجتماعیة والسیاسیة. ثم قال علیه السلام آخر الحدیث: «فاذا کان ذاک فی الناس فلا یبالی من أخذ هاهنا وهاهنا» (1)فی إشارة إلی أنّ الناس علی کل حال إنّما یحصلون علی حقهم. سواء کان مصداقه هنا أم هناک.

حقاً أن سیرة أمیر المؤمنین علیه السلام انموذج مهم لابدّ من اعتماده کقدوة فی الحکومة الإسلامیة. فقد کان علیه السلام شدیداً فی أمر العدالة حتی وقف نفسه وضحی بها من أجلها. قال ابن أبی الحدید:

روی علی بن محمد بن أبی یوسف المدائّنی عن فضیل بن الجْعد، قال: آکدُ الأسباب فی تقاعد العرب عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أمْر المال، فإنّه لم یکُنْ یُفَضِّلُ شریفاً علی مشروف، ولا عربیّاً علی عَجَمیّ، ولا یُصانع الرؤساء وأمراء القبائل، کما یصنع الملوک، ولا یستمیلُ أحداً إلی نفسه. وکان معاویة بخلاف ذلک، فترک الناس علیاً والتحقوا بمعاویة؛ فشکی علی

ص:223


1- 1) اصول الکافی 1 / 405. [1]

علیه السلام إلی الأشتر تخاذُلَ أصحابه، وفرار بعضهم إلی معاویة، فقال الأشتر: یا أمیرالمؤمنین؛ إنا قاتلنا أهل البَصْرة بأهلِ البصرة وأهل الکوفة، ورأی الناس واحد، وقد اختلفوا بعد، و وضعفت النیّة، وقلً العدد، وأنت تأخُذُهم بالعدل، وتعمل فیهم بالحق، وتُنْصِف الوضیع من الشریف؛ فلیس للشریف عندک فَضْلُ منزلةٍ علی الوضیع، فضجّت طائفة ممّن معک من الحقّ إذ عُمُّوا به، واغتمُّوامن العدل إذ صاروا فیه، ورأوا صنائعَ معاویة عند أهل الغَناء والشرف، فتاقَتْ أنفُس النّاس إلی الدنیا، وقَلّ مَنْ لیس للدنیا بصاحب، وأکثرهم یَجْتوی الحقّ ویشتری الباطل، ویؤثر الدنیا، فإن تَبْذُلِ المال یا أمیرَالمؤمنین تَمِلْ إلیک أعناقُ الرجال، وتَصْف نصیحتُهم لک، وتَسْتَخْلِصْ وُدّهم؛ صنع اللّه لک یا أمیرالمؤمنین! وکَبتَ أعداءک، وفضّ جمعهم، أوهن کیدَهم، وشَتّت أمورَهم، إنّه بما یعملون خبیر.

فقال علیّ علیه السلام: أمّا ما ذکرت من عَمَلنا وسِیرتنا بالعَدْل؛ فإنّ اللّه عزّوجلّ یقول: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَیْها وَما رَبُّکَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِیدِ» ؛ وأنا من أن أکون مُقَصِّراً فیما ذکرتَ أخْوَفُ.

وأما ما ذکرت من أنً الحق ثَقُل علیهم ففارقونا لذلک، فقد علم اللّه أنّهم لم یُفارقونا من جَوْر، ولا لجُاوا إذ فارقونا إلی عَدْل، ولم یلتمسوا إلّادنیا زائلة عنهم کان قد فارقوها؛ وَلَیُسْأَلُنَّ یوم القیامة: أللدنیا أرادوا أم للّه عملوا؟

وأمّا مَا ذکرْتَ من بَذْل الأموال واصطناع الرجال؛ فإنّه لا یَسَعُنا أن نؤتیَ أمراً من الفیء أکثرَ من حقّه، وقد قال اللّه سبحانه وتعالی وقوله الحق: «کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِینَ» ، وقد بعث اللّه محمّدا صلی اللّه علیه وحْدَه؛ فکثّره بعد القلة، وأعَزَّ فئته بعد الذِّلَّة؛ وإِنْ یُرِدِ اللّه أنْ یولِیَنا هذا الأمرَ یذلّل لنا صَعْبَه، ویُسِهِّل لنا حَزْنه، وأنا قابل من رأیک ما کان للّه عزّوجلّ رضاً؛ وأنت من آمن الناس عندی، وأنصحِهم لی، أوْثَقِهم فی نفسی إنْ شاء اللّه.

2- تعارض الحق والمصلحة!

عادة ما یحدث تعارض بین الحق والمصلحة لیکون أحدهما مقابل الآخر. وغالباً ما یمیل

ص:224

ساسة الدنیا فی هذه الحالة إلی المصلحة ویقدمونها علی الحق. والتأریخ ملییء بنماذج هذا التعارض وما أکثره فی عصرنا الراهن حیث نشاهده کل یوم - أما أولیاء الله والقادة الربانیین فهم لا یترددون فی إیثار الحق. وفی مقدمتهم أمیرالمؤمنین علی علیه السلام الذی سلک الحق مع أعدائه فضلاً عن أصحابه فقد قیل بأن العدل فی تقسیم بیت المال حقاً لکنه لا یتفق مع المصلحة ولابد من تقدیم الأشراف والأثریاء علی غیرهم فی مقابل الحد من سهم الضعفاء، بینما کان الإمام علیه السلام لا یتهاون فی إجراء العدل وإن شقّ علی صحبه وإنفرجوا عنه وإلتحقوا بعدوه، ولعلنا نلمس ذلک فی هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة. ولعل أغلب هذه المشاکل لم تکن لتظهر علی السطح لو تسلم الإمام علیه السلام ذمام الأمور بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله کما أمر الله ورسوله بذلک، إلا أن قضیة التمییز فی العطاء قد ظهرت علی عهد الخلفاء وبلغت ذروتها علی عهد عثمان الذی کان ینفق المال علی بطانته وقرابته دون حساب، حتی طبعوا علی هذه الإمتیازات فصعب إعادتهم إلی الحق وجادة الصواب. أضف إلی ذلک فإن إزدیاد حجم الغنائم وکثرة أموال بیت المال هی الأخری کانت سبباً لأن یضحی البعض کطلحة والزبیر - وهما من السابقین إلی الإسلام وصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله - بالحق من أجل مصالحهم الشخصیة، ومن هنا تعقدت المشاکل التی إعترضت حکومة الإمام علیه السلام - إلا أن أمیرالمؤمنین علیه السلام ورغم علمه بظهور ما لا یحصی من المشاکل إن هو آشر الحق علی المصلحة، لکنه لم یتخل عن سیاسته المعهودة لعلمه بأن الهزیمة والخذلان تکمنان فی إیثار المصلحة علی الحق، ناهیک عن کون نفس هذا الإیثار یعنی تعطیل أحد القیم الإسلامیة، فی حین إحیاؤها ونقلها للأجیال المستقبلیة یفوق أهمیة تحقیق بعض الإنتصارات الوقتیة ولعل هذا الأمر یشکل ردا علی أکثر الأسئلة التی تطرح بشأن حکومة علی علیه السلام - وهذا ما سنتحدث عنه فی حینه فی الأبحاث القادمة إن شاء الله.

ص:225

ص:226

الخطبة الخامسة و الثلاثون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

بعد التحکیم وما بلغه من أمر الحکمین وفیها حمد الله علی بلائه، ثم بیان سبب البلوی.

«الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنْ أَتَی الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفادِحِ وَالْحَدَثِ الْجَلِیلِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ لا شَرِیکَ لَهُ، لَیْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَیْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِیَةَ النّاصِحِ الشَّفِیقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدامَةَ. وَقَدْ کُنْتُ أَمَرْتُکُمْ فِی هَذِهِ الْحُکُومَةِ أَمْرِی، وَنَخَلْتُ لَکُمْ مَخْزُونَ رَأْیِی، لَوْ کَانَ یُطَاعُ لِقَصِیرٍ أَمْرٌ!

فَأَبَیْتُمْ عَلَیَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِینَ الْجُفَاةِ، وَالْمُنَابِذِینَ الْعُصَاةِ حَتَّی ارْتَابَ النّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَکُنْتُ أَنا وَإِیّاکُمْ کَما قالَ أَخُو هَوازِنَ: أَمَرْتُکُمْ أَمْرِی بِمُنْعَرَجِ اللِّوَی فَلَمْ تَسْتَبِینُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَی الْغَدِ»

نظرة إلی الخطبة: نتیجة العصیان

کما ذکرنا سابقا فقد أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة بعد إنتهاء قضیة التحکیم. فقد کانت نتیجة

ص:227


1- 1) وردت هذه الخطبة مع اختلاف طفیف فی مروج الذهب للمسعودی والکامل لابن أثیر وأنساب الأشراف للبلاذری وتاریخ الطبری والإمامة والسیاسة لابن قتیبة الدینوری وصفین لنصر بن مزاحم، کما رواها البسط بن الجوزی فی تذکرة الخواص وأبوالفرج الإصفهانی فی الأغانی (مصادر نهج البلاغة، 1 / 459) . [1]

التحکیم شاقة علی العالم الإسلامی. وقد دلت علی أن الإمام علیه السلام نهی عن التحکیم وحث علی مواصلة القتال خشیة تلک النتیجة - ومن هنا شدّد الإمام علیه السلام فی ذمه لأهل الکوفة وحملهم مسؤولیة تلک النتیجة بسبب تمردهم وعدم طاعتهم.

الشرح والتفسیر

خطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة فی ظل ظروف عصیبة ومأساة عظیمة، فقد أثمرت مؤامرة معاویة وعمرو بن العاص إثر استغلال جهل أبو موسی الأشعری ومن وقف إلی جانبه، فقد تمکن ابن العاص من حسم التحکیم لصالحه، ظاناً أنّه عزل الإمام علی علیه السلام عن الخلافة ونصب معاویة مکانه!

طبعاً الإمام علیه السلام کان قد شعر ببالغ الآسی والحزن لأنّه تکهن بهذه النتیجة وقد أطلع أهل الکوفة علیها، إلّاأنّ الجهل والعصبیة والأنانیة والتخاذل حال دون الاتعاظ بإرشادات الإمام علیه السلام ومواعظه الحکیمة.

علی کل حال إستهل الإمام علیه السلام الخطبة - کما درج علیه فی سائر الخطب - بحمد الله والثناء علیه، الحمد والثناء الذی یستبطن نکهة خاصة، فقد أورده الإمام علیه السلام حتی فی ظل هذه الحادثة الألیمة والبلاء العظیم «الحمد لله وإن أتی الدهر بالخطب (1)الفادح (2)والحدث الجلیل» .

فالطریف أنّ الإمام علیه السلام أولاً یحمد الله علی هذه الحادثة لیعلم أنّ حمد اللّه والثناء علیه لا یقتصر علی الحوادث المسرة والتوفیقات والنجاحات والفیوضات المعنویة والمادیة، بل یجب حمده علی کل حال فی السراء والضراء والعافیة والبلاء والغلبة والفشل، حتی الحوادث المریرة تشتمل علی فلسفة لو سبر غورها لتبیّن أنّها جزء من النعم الإلهیة.

ص:228


1- 1) «خطب» علی وزن ختم العمل المهم بین الإنسان والآخرین ومن هنا یصطلح بالمخاطبة علی الحوار الذی یدور بین فرد وآخر.
2- 2) «فادح» بمعنی ثقیل ومن هنا یقال أفدحه الدین لمن أثقل کاهله.

ثانیاً: أنّه ینسب هذه الحادثة المریرة إلی الدهر، ونعلم أن الدهر لایعنی سوی أهله، وإلّا فبزوغ الشمس والقمر وهطول المطر وهبوب الریاح وسائر الظواهر الطبیعیة لیست علی شئ حتی تخلق مثل هذه الحوادث فالناس وبفعل أعمالهم الشائنة هم الذین یکونون السبب لمثل هذه الحوادث!

ولا شک إنّ هذه الحادثة لم تکن لتقع لوطاع أهل العراق الإمام علیه السلام والتفتوا إلی تحذیراته واتعظوا بنصائحه. والمراد بالخطبب الفادح قضیة التحکیم التی جرت الویلات علی العالم الإسلامی.

صحیح أنّ قضیة التحکیم - کما سیمر علینا فی البحث القادم - لم تغیر من حقیقة الأمر شیئاً، الا أنّها کانت ذریعة کبری لمعاویة ورهطه من أجل إغواء الجهال وتحریف الأفکار، کما أدت إلی ظهور البدع فی العالم الإسلامی.

وقوله علیه السلام «حدث جلیل» هو تأکید آخر لاثار السوء لتلک البدعة المشؤومة.

ثم یردف علیه السلام الحمد والثناء بالشهادة لله بالوحدانیة ولمحمد صلی الله علیه و آله بالعبودیة والنبوة «وأشهد أن لا اله إلّاالله لا شریک له، لیس معه إله غیره، وأنّ محمّداً عبده ورسوله» فالاتیان بالشهادتین فی مطلع الخطبة وأن تضمن التأکید من جدید علی لزوم تقویة دعائم التکامل الإنسانی وإحیاء الاصول العقائدیة الإسلامیة، إلّاأن یشیر إلی قضیة الحکمین، وذلک أن الاُمّة قد جاوزت أصل التوحید واتجهت صوب أفعال الشرک وتجاهلت التأسی برسول الله صلی الله علیه و آله فاستسلمت لاهوائها.

ثم تطرق علیه السلام إلی الهدف الأصلی من الخطبة «أما بعد، فان معصیة الناصح الشفیق العالم المجرب (1)تورث الحسرة وتعقب الندامة» . فالعبارة بمنزلة الکبری وبیان قاعدة کلیة فی أنّ المستشار إذا تحلی بأربع صفات فانّ مخالفته توجب الندامة والحسرة لا محالة. الاولی صفة النصح وارادة الخیر ومقتضی ذلک السعی لاحقاق الحق.

الثانیة القلب المفعم بالعطوفة والرأفة والحب وإرادة السعادة والخیر النابعة من أعماق

ص:229


1- 1) «مجرب» علی وزن محقق ممن یتمتع بمعرفة عظیمة بفعل کثرة التجارب إلّاأنّ العرب تلفظه مجرب بالفتح علی وزن مقرب.

القلب لمن یطلب الاستشارة. الثالثة العلم والوقوف علی کافة جوانب الأمر وتحلیل جمیع الملابسات ودراسة الحوادث والنتائج المتمخضة عنها الرابعة التجربة الکافیة فی القضایا الفردیة والاجتماعیة المهمة؛ أی التحلی بالعقل العملی إلی جانب العقل النظری فاذا کان هنالک مثل هذا الفرد یتمتع بمثل هذه الصفات فانّه یبلغ بالإنسان واقع الأمر لا محالة، کما أنّ مخالفته لاتقود سوی إلی الحیرة والضلال والندم والخسران الذی یفرزه الجهل والغرور.

وما إنّ یفرغ الإمام علیه السلام من بیان الکبری (القاعدة الکلیة) حتی یتطرق إلی الصغری والمصداق المطلوب فیقول «وقد کنت أمرتکم فی هذه الحکومة أمری، ونخلت (1)لکم مخزون رأیی، لو کان یطاع لقصیر أمرا!» فقد کشف الإمام علیه السلام عن مخالفته لاصل التحکیم فضلا عن کیفیته والطریقة التی تم فیها.

ولقد أخیرهم عن آثار هذه القضیة المشؤومة، إلّاأنّ تعصبهم ولجاجتهم حالت دون سماعهم لرأی الإمام علیه السلام فاصروا علی باطلهم والآن یجنون ثمار جهلهم والعبارة «لو کان یطاع لقصیر أمر» مثل مشهور عند العرب، فهو قصیر صاحب جذیمة، وحدیثه مع جذیمة ومع الزیاء مشهور فضرب المثل لکل ناصح یعصی بقصیر، ویطلق علی الأفراد الذین لایصغون إلی الناصح المجرب الشفیق والذی لا یعقب سوی الندم.

فالإمام علیه السلام یشبه نفسه بقصیر وأهل الکوفة بجزیمة الجاهل ومستشاریه البلهاء، حتی وقعوا فی شباک عمرو بن العاص ومعاویة. ثم قال علیه السلام: «فأبیتم علی إباء المخالفین الجفاة والمنابذین (2)العصاة، حتی إرتاب الناصح بنصحه، وضن (3)الزند (4)بقدحه (5)» .

لقد حذرتکم من أنّ رفع المصاحف علی الحراب مکر وخدیعة، فقد بلغ القتال مرحلة

ص:230


1- 1) «نخلت» من مادة «نخل» بمعنی تنقیة الشئی، واستعمال هذه المفردة فی الخطبة تشیر إلی الرأی الصائب الذی طرحه الإمام علیه السلام علی أصحابه بشأن التحکیم.
2- 2) «منابذین» من مادة «نبذ» بمعنی الابعاد، وتستعمل هذه المفردة فی نقض العهد، وذلک لان ناقض العهد إنّما یطرح العهد بعیدا عنه.
3- 3) «ضن» من مادة «ضنن» بمعنی البخل والامساک.
4- 4) «زند» بمعنی الخشب الذی یشعلون به النار (حیث کانوا یولدون النار سابقا بضرب خشبتین ببعضهما، ثم اطلق علی کل وسیلة لاشعال النار ومنه الزناد.) .
5- 5) «قدح» ومنه القداحة ما یخرج منه النار.

خطیرة وأو شک علی نهایته وقد لاحت بوادر النصر، إلّاأنّکم لم تسمعوا کلامی وترکتم القتال وإذ عنتم للتحکیم. وقد قلت لکم إن کان ولابدّ فابعثوا ابن عباس حکما، فلم تقبلوا، ثم أشرت علیکم بما لک الأشتر فلم تستجیبوا وأبیتم إلّاأبی موسی الأشعری الاحمق الجاهل الذی لایقوی علی ابن العاص فلم تکن النتیجة سوی خیبتکم وخسرانکم وندمکم (1).

والعبارة «المخالفین الجهاة» ان مخالفتکم لی لم تقتصر علی سوء تشخیصکم، بل کان ذلک بدافع من جفائکم وعصیانکم وطغیانکم. وقد أکد هذا المعنی بقوله «المنابذین العصاة» .

وأمّا قوله «ضمن الزند بقدحه» فهو مثل أیضاً یقال لمن یکف عن الافصاح بالحقایق لعدم وجود من یسمع، فقد إراد علیه السلام خالفتمونی حتی ظننت أنّ النصح الذی نصحتکم به غیر نصح، لا طباقکم واجماعکم علی خلافی، وتعنی العبارة الأخیرة أنّه لم یقدح لی بعد ذلک رأی صالح لشدة ما لقیت منکم من الاباء والخلاف والعصیان. ثم قال علیه السلام فکنت وإیاکم کما قال أخو هوازن: أمرتکم أمری بمنعرج اللوی فلم تستبینوا النصح إلّاضحی الغد

وأخو هوازن صاحب الشعر هو درید بن الصمة، وأبیاته مذکورة فی الحماسة. وکان من خیر هذا الشعر أنّ عبدالله وهو اسم أخر لعارض وهو أخو درید - کان أسود إخوته، فغزا ببنی جشم وبنی نصر إبنی معاویة بن بکر بن هوازن؛ وغنم مالاً عظیماً بمنعرج اللوی؛ فمنعه درید عن اللبث، وقال: إنّ غطفان لیست بغافلة عنا، فحلف أنّه لایریم حتی یقسم، وأوقعوا بعبدالله وقتلوه فهرب درید بعد أن نجی منهم، فانشد هذا البیت الذی إستشهد به الإمام علیه السلام فی الخطبة (2).

ص:231


1- 1) راجع مروج الذهب 2 /290 وسترد بعض الایضاحات لهذه الخطبة لاحقاً.
2- 2) الاغانی لابی الفرج الاصفهانی 10 /3، شرح نهج البلاغة للعلّامة الخوئی 4 /88، شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 205. [1]

تأمّلان

1- قصة التحکیم

إن الذی دعا إلیه طلب أهل الشام له وإعتصامهم به من سیوف أهل العراق، فقد کانت أمارات القهر والغلبة لاحت، ودلائل النصر والظفر وضحت. وفی هذه الأثناء رفع أهل الشام المصاحف علی الرماح. فسأل مالک الإمام علیه السلام مواصلة القتال. فقام الأشعث بن قیس مغضباً فقال: یا أمیرالمؤمنین أجب القوم إلی کتاب الله فإنک أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وکرهوا القتال - فقال علیه السلام: هذا أمر ینظر فیه.

فنادی الناس من کل جانب: الموادعة. فقال علیه السلام: أیها الناس إنی أحق من أجاب إلی کتاب الله، ولکن معاویة وعمرو بن العاص وصحبهم لیسوا بأصحاب دین ولا قرآن، إنی أعرف بهم منکم، صحبتهم صغاراً ورجالاً، فکانوا شر صغار وشر رجال، ویحکم إنها کلمة حق یراد بها باطل، إنهم ما رفعوها أنهم یعرفونها ویعملون بها، ولکنها الخدیعة والوهن والمکیدة، أعیرونی سواعدکم وجماجکم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، ولم یبق إلا أن یقطع دایر الذین ظلموا. فجاءه من أصحابه زهاء عشرین ألفا مقنعین فی الحدید، شاکی سیوفهم علی عواتقهم وقد اسودت جباههم من السجود فنادوه باسمه لا بأمیر المؤمنین: یا علی أجب القوم إلی کتاب الله إذا دعیت إلیه، وإلا قتلناک کما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم. فقال لهم: ویحکم أنا أول من دعا إلی کتاب الله، وأول من أجاب إلیه. إنی إنما قاتلتهم لیدینوا بحکم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فیما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا کتابه، ولکنی أعلمتکم أنهم قد کادوکم، وإنهم لیس العمل بالقرآن یریدون. قالوا: فإبعث إلی الأشتر لیأتینک - فقال الأشتهر: قل لعلی علیه السلام لیس هذه بالساعة التی ینبغی لک أن تزیلنی عن موقفی. فارتفع وهج القوم وعلت الأصوات وقالوا لعلی علیه السلام: والله ما نراک أمرته إلا بالقتال، فابعث إلیه یأتیک وإلا فوالله إعتزلناک. فبعث له الإمام علیه السلام ثانیة. فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم. قال: ألاتری إلی الفتح. ثم أقبل الأشتر حتی إنتهی إلیهم فصاح فیهم أمهلونی فواقا فإنی قد أحسست بالفتح. فلم یجیبوه. فلما إنتهی الأمر إلی الحکمین قال علیه السلام هذا إبن عباس أولیّه ذلک فهو لابن العاص. فلم یوافق الأشعث ورهطه. فقال علیه السلام: فإنی أجعل الأشتر. فقال الأشعث:

ص:232

وهل سعرّ الأرض علینا إلا الأشتر. ثم إضطر الإمام علیه السلام لقبول أبوموسی. فاتفق معه عمرو بن العاص علی أن یخلع کل صاحبه ویدعون الناس للشوری. فتقدم أبوموسی ثم قال: أیها الناس أجمع رأیی ورأی صاحبی علی خلع علیّ ومعاویة ویکون الأمر شوری بین المسلمین. فقام عمرو بن العاص وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعه کما خلعه، وأثبت صاحبی معاویة فی الخلافة، فإنه ولی عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه. (1)

2- الاستفادة من آراء الآخرین

لاشک أنّ الشوری تشکل أحد اُسس التعالیم الإسلامیة التی حظت بأهمیة فائقة فی الآیات القرآنیة والروایات والأخبار. فالقرآن یری أنّ المشورة من علامات الإیمان، ویجعلها فی مصاف الصلاة والزکاة - التی تعد من أرکان الإسلام - «والَّذِینَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأُمْرُهُمْ شُوری بَیْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ» . (2)

کما أمر الله سبحانه صراحة باستشارة المؤمنین فی الاُمور المهمة، رغم إتّصال رسول الله صلی الله علیه و آله بالوحی وکونه العقل الکامل «وَشاوِرْهُمْ فِی الأَمْرِ» (3)والمهم فی قضیة المشورة إنتخاب المستشار الذی یتحلی ببعض خصائص الصفات التی وردت فی الخطبة التی نحن بصددها: «الناصح الشفیق العالم المجرب» ، والحق أنّ مخالفة الفرد الذی یتصف بهذه الصفات لا تفضی سوی إلی الحسرة والندامة.

صحیح أنّ المتعصبین فی صفین لم یستشیروا الإمام علیه السلام إلّاأنّ الإمام علیه السلام أبدی رأیه الذی یمثل رأی الناصح الشقیق والعالم المجرب، إلّاأنّهم وللاِسف الشدید لم یستجیبوا لرأی الإمام علیه السلام وهبوا لمجابهته وهددوه بالقتل، فلم تتمخض النتیجة سوی عن ندمهم التاریخی الذی جر الویلات علی العالم الإسلامی.

ص:233


1- 1) إقتباس وتلخیص لما ورد فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/206 - 256. [1]
2- 2) سورة الشوری / 38 [2]
3- 3) سورة آل عمران / 159. [3]

ص:234

الخطبة السادسة و الثلاثون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

فی تخویف أهل النهروان

«فَأَنَا نَذِیرٌ لَکُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَی بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هَذَا الْغائِطِ، عَلَی غَیْرِ بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ، وَلا سُلْطانٍ مُبِینٍ مَعَکُمْ: قَدْ طَوَّحَتْ بِکُمُ الدّارُ وَاحْتَبَلَکُمُ الْمِقْدارُ. وَقَدْ کُنْتُ نَهَیْتُکُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُکُومَةِ فَأَبَیْتُمْ عَلَیَّ إِباءَ الْمُنابِذِینَ، حَتَّی صَرَفْتُ رَأْیِی إِلَی هَوَاکُمْ وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفّاءُ الْهَامِ، سُفَهاءُ الْأَحْلامِ؛ وَلَمْ آتِ - لا أَبا لَکُمْ - بُجْراً وَلا أَرَدْتُ لَکُمْ ضُرّاً» .

نظرة إلی الخطبة

واضح أنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة فی النهروان جنب النهر فی یوم القتال عام 37 ه. وقد أشار علیه السلام ألی ثلاثة اُمور:

1- عدم خوض القتال دون قیام الدلیل الشرعی والبینة من الله، وإلّا فأنّهم یقضون علی أنفسهم.

ص:235


1- 1) وردت هذه الخطبة أو بعضها مسندة أو مرسلة من قبل المؤرخین والمحدثین. م - قال ابن أبی الحدید (2/283) [1] نقلها ابن حبیب البغدادی (المتوفی عام 254) . ب - ابن قتیبة الدینوری فی الامامة والسیاسة، 1/127. ج - البلاذری فی أنساب الأشراف، 2/371. [2] ء - الطبری فی تأریخ الرسل والملوک، 6/3377. [3]

2- أنّ القوم تذرعوا بقضیة التحکیم، والحال أنّ الإمام علیه السلام کان یرفضها منذ البدایة.

3- أنّهم یقاتلون الإمام علیه السلام دون أن یصدر عنه ما یدعو لذلک من معصیة، فانّ کان هنالک من خلاف فقد صدر منهم ومن بعض الأفراد، ومن الجهل تحمیل الإمام علیه السلام مسؤولیة ذلک الخلاف، وهکذا أتم علیهم الإمام علیه السلام الحجة.

الشرح والتفسیر

إتمام الحجة علی الخوارج

کما أشرنا سابقاً فان الإمام علیه السلام خطبها قبل بدأ معرکة النهروان التی أفرزتها قضیة التحکیم. فقد خرجت تلک الطائفة الجاهلة علی الإمام بعد التحکیم لتعتبره هو المسؤول عنه، فی حین کان الإمام علیه السلام یعارض أصل التحکیم من الأساس إلی جانب رفضه الحکم. فالواقع أنّ الخطبة إتمام الحجة علیهم. فقد إستهل خطبته بالقول «نحن أهل بیت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائکة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحکمة - نحن أفق الحجاز، بنا یلحق البطیء وإلینا یرجع التائب» (1)ثم خاطبهم قائلاً: «فانا نذیر لکم أن تصبحوا صرعی (2)باثناء هذا النهر، وبأهضام (3)هذا الغائط (4)علی غیر بینة من ربّکم، ولا سلطان مبین معکم» . فعبارة الإمام علیه السلام نبوءة صریحة بشأن عاقبة معرکة النهروان حیث أخبرهم بأنّهم سیصرعون دون النهر، والافضع من ذلک موقفهم العسیر یوم القیامة واسوداد وجوههم، حیث لیس لهم من دافع للقتال سوی العصیبة والجهل دون وجود أیة بینة.

شرعیة یمکنهم الاستناد إلیها وعلیه فهم یهلکون أنفسهم فی الحیاة الدنیا ولیس لهم فی الآخرة إلّاالنار. ثم قال علیه السلام «قد طوحت (5)بکم. الدار وأحتبلکم (6)المقدار» والمفردة (دار) إشارة

ص:236


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 283. [1]
2- 2) «صرعی» جمع «صریع» من مادة «صرع» بمعنی طریح، و تعنی الجنازة أو المقتول الملقی علی الأرض؛ کما یطلق علی من یسقط علی الأرض فی المصارعة، و من هنا یطلق مرض الصرع علی من یغمی علیه و یقع علی الأرض.
3- 3) «أهضام» جمع هضم وهو المطمئن من الوادی وتعنی الکسر والضغط.
4- 4) الغائط ما سفل من الأرض والمراد هنا المنخفضات.
5- 5) «طوحت» من مادة «طوح» بمعنی السقوط والهلکة، وإذا ورد من باب التفعیل کما ورد فی الخطبة فانّه بمعنی القذف فی المتاهة والمضلة.
6- 6) «احتبل» من مادة «حبل» ، أوقعکم فی حباله، والمقدار القدر الإلهی.

إلی دار الدنیا أو بعبارة اُخری الاغترار بالدنیا والعبودیة لها و «احتیل» من مادة حیل بمعنی الفخ، والمراد بالمقدار حسب بعض شرّاح نهج البلاغة الفکر الخاطیء والتحلیل العبثی لمختلف الحوادث، وقال البعض الآخر تعنی القدر الإلهی. وإذا تأملنا تأریخ الحادثة سیتضح لدینا الأثر البالغ الذی لعبه کلام الإمام علیه السلام فی هذه الطائفة، فقد کانت طائفة متعصبة لجوجة جاهلة هزیلة. ثم أشار علیه السلام إلی قضیة التحکیم فقال «وقد کنت نهیتکم عن هذه الحکومة فابیتم علی إباء المخالفین المنابذین، حتی صرفت رأبی إلی هواکم» إنکم لتحملونی مسؤولیة عمل أنتم إرتکبتموه، بل أبعد من ذلک جعلتم تهددونی بالقتل علی قبوله، والآن بعد أن تبیّن لکم فداحة خطأ العمل تحاولون إلقاء تبعته علیَّ «وأنتم معاشر أخفاء الهام (1)سفهاء الأحلام» . یمکن أن تکون هذه العبارة تأکید لسفاهة وبلاهة أصحاب النهروان.

کما یمکن أن تکون العبارد السابقة - کما ذکر ذلک بعض شرّاح نهج البلاغة - إشارة إلی خفة أهل النهروان الذین تتغیر أفکارهم وحرکتهم لأدنی شی، فهم یتعصبون یوماً للتحکیم، وآخر یعادونه أشد العداء، أمّا العبارة الأخیرة فهی تشیر إلی ضحالة فکرهم، وذلک لأن مؤامرات العدو کانت تتکشف یوماً بعد آخر ولم تکن خافیة علی أهل البصائر إلّاأنّهم لم یکونوا یرونها أو یدرکونها؛ الأمر الذی جعلهم یخدعون أکثر من مرة بحیل معاویة وبطانته، فیرتکبون ما یؤدی إلی بؤسهم وشقائهم وجر الویلات والمصائب علی المسلمین. ثم یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالتأکید علی هذه الحقیقة بأنّ کل ما یصیبکم من بلاء ممّا إرتکبته أیدیکم ولست طرفا فیه أبداً، بل خالفتمونی وشهرتم سیوفکم لتهددونی بالقتل «ولم آت - لا أبا لکم! - بجرا ولا أردت لکم ضراً» . العبارة لا أبا لکم یمکن أن تکون سباً ولعناً، تشیر إلی أنّکم لم تحظوا بتربیة أسریة إسلامیة صحیحة، ومن هنا فانّکم تفعلون الأفعال الشائنة وتنسبوها إلی الآخرین، ویمکن أن تکون دعاءا علیهم؛ أی أمات الله آبائکم وهی فی الواقع کنایة عن ذلتهم وهوانهم؛ لأنّ فقدان الأب فی ریعان الشباب تدعو إلی الذلة والهوان.

ص:237


1- 1) «الهام» جمع هامة رأس الإنسان أو سائر الکائنات الحیة، واخفاء الهام تغنی ضعاف الفعل.

قصة التحکیم ثم ظهور أمر الخوارج

ذکرنا حین شرحنا للخطبة الشقشقیة فی المجلد الأول أنّ الخوارج فئة متعصبة وجاهلة قد ظهرت من بطن صفین وقضیة التحکیم. فقد أقرت مسألة التحکیم (عمرو بن العاص وأبو موسی الأشعری) وفرضوها علی الإمام علیه السلام. ولم یصفوا إلی قول الإمام علیه السلام أنها خدعة ولم یبق إلا القلیل علی ختم فتنة أهل الشام وزعیمهم معاویة. لکنهم تدموا بعد نتیجة التحکیم وتابوا لکنهم أفرطوا هذه المرة حیث حکموا یکفر قبول التحکیم وشعارهم الحکم لله فلابد أن یتوب علی علیه السلام من هذه المعصیته. قال الإمام علیه السلام أن التحکیم لیس کفرا، فقد أشار القرآن إلی هذه المسألة فی حل الخلافات العائلیة «فابعثوا حکما من أهله وحکما من أهلها» وفی کفارة الإحرام «یحکم به ذوا عدل منکم» لکن التحکیم الذی أقررتموه کان خاطئا - علی کل حال إقتنع هؤلاء - وکان من بینهم بعض المتظاهرین بالعبادة والإتیان بالمستحبات - بقشور الإسلام وترکوا جوهره فاجتمعوا ضد أمیرالمؤمنین علیه السلام فی منطقة قرب الکوفة تدعی الحروراء قرب النهروان. فبالغ الإمام علیه السلام فی وعظهم ونصحهم حتی عاد أکثرهم إلی رشده بینما بقی أربعة آلاف منهم فلما تثبت المعرکة صرعوا جنب النهر ولم ینج منهم إلا القلیل کما أخبر الإمام علیه السلام.

وقد شهدت حیاة الخوارج وسیرتهم العدید من التناقضات العجیبة ومن ذلک:

1- لقیهم عبدالله بن الخباب فی عنقه مصحف، علی حمار، ومعه إمرأته وهی حامل، فقالوا له: إن هذا الذی فی عنقک لیأمرنا بقتلک، فقال لهم: ما أحیاه القرآن فأحیوه،

وما أماته فأمیتوه، فوثب رحیل منهم علی رطبة سقطت من نخلة فوضعها فی فیه، فصاحوا به، فلفظها تورعا. وعرض لرجل منهم خنزیر فضربه فقتله، فقالوا: هذا فساد فی الأرض، ثم قالوا لابن الخباب: حدثنا عن أبیک. فقال: إنی سمعت أبی یقول: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول: ستکون بعدی فتنة یموت فیها قلب الرجل کما یموت بدنه، یمسی مؤمنا ویصبح کافرا، فکن عبدالله المقتول ولا تکن القاتل - قالوا: فما تقول فی علی بعد التحکیم والحکومة؟ قال: إن علیا أعلم بالله وأشد توقیا علی دینه وأنفذ بصیرة - فقالوا: إنک لست تتبع الهدی، ثم قربوه إلی شاطیء النهر فأضجعوه فذبحوه. (1)

ص:238


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/281 و [1]تأریخ الطبری 2/60 - 61، [2] حوادث عام 37.

2- قال قیس بن سعد بن عبادة: إستنطقهم الإمام علیه السلام بقتل عبدالله بن الخباب فأقروا به، فقال: إنفردوا کتائب لأسمع قولکم کتیبة کتیبة. فأقرا جمیعا بقتله. فقال علی علیه السلام: «والله لو أقر أهل الدنیا کلهم بقتله هکذا وأنا أقدر علی قتلهم به لقتلتهم» . (1)

3- حین هجم الخوارج علی جیش الإمام علیه السلام إلتفت إلی أصحابه فقال: والله لا ینجو منهم عشرة ولا یهلک منکم عشرة.

والعجیب أنه لم یقتل من أصحاب الإمام علیه السلام سوی تسعة ولم ینج من الخوارج إلا ثمانیة.

4- کانت قضیة الخوارج قد فعلت فعلها فی الإمام علیه السلام وقد إنعکست سلبا علی الوسط الإسلامی، فکان علیه السلام لا ینفک عن التحدث عنها لیبین للناس کیفیة إنحرافهم فیعتبروا بهم، ولا غرو فمثل هذا التفکیر السطحی المشوب بالجهل والعناد لا یخلو منه عصر ومصر. والخطب التی تحدث فیها الإمام علیه السلام عن الخوارج هی الخطبة: 40، 59، 60، 61، 121، 122، 127، 184، والرسالة 77، 78 والتی سنعرض لشرحها جمیعا إن شاء الله.

الجدیر بالذکر أن خط الخوارج - کما ذکرنا - تیار یتواجد علی مدی التأریخ ولا یقتصر علی عهد علی علیه السلام - فهم فئة لا تعرف من الدین سوی ظاهره ولا تعتد إلا بأفعالها وأعمالها وتری إنحراف کل من سواها وقد ملئت سیرتها بالتناقضات، فهی بلاء وآفة تصیب المجتمع. والغریب فی الأمر أن الإمام علیه السلام أشار إلی هذه الفئة کظاهرة فوصفهم فی الخطبة 60 قائلا: «کلا والله، إنهم نطف فی أصلاب الرجال وقرارات النساء کلما نجم منهم قرن قطع حتی یکون آخرهم لصوصا سلابین.

ص:239


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/271 - 282. [1]

ص:240

الخطبة السابعة والثلاثون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

یجری مَجری الخطبة وفیه یذکر فضائله علیه السلام قاله بعد وقعة النَّهروان.

نظرة إلی الخطبة

بناءً علی ما ذکره ابن أبی الحدید فانّ هذه الخطبة تشتمل علی أربعة فصول لا یمتزج بعضها ببعض:

الفصل الأول: یشیر فیه الإمام علیه السلام إلی خدماته الجلیلة التی أسداها للإسلام إبان انبثاق الدعوة الإسلامیة فقد أوجز ذلک بقوله: «فقد قمت بالأمر حین فشلوا وتطلعت حین تقبعوا ونطقت حین تعتعوا ومضیت بنور الله حین وقفوا، کالجبل لا تحرکه القواصف ولا تزیله العواصف. لم یکن لأحد فی مهمز ولا لقائل فی مغمز» .

ص:241


1- 1) قال صاحب مصادر نهج البلاغة هذه من الخطب المعروفة التی رواها أغلب العلماء والمحدثین الذین عاشوا قبل السید الرضی (ره) ومنهم: 1 - الجاحظ فی البیان والتبیین 1 / 170. 2 - ابن قتیبة الدینوری فی الإمامة والسیاسة 1 / 150. 3 - ابن عبد ربة فی العقد الفرید 4 / 71. 4 - البلاذری فی کتاب أنساب الأشراف (فی شرح سیرة علی علیه السلام) / 380. 5 - القاضی نعمان المصری فی دعائم الإسلام 1 / 391 (مع اختلاف وما ورد فی النهج وقال الشارح الخوئی یستفاد من بحار الأنوار والإحتجاج والإرشاد أنّ هذه الخطبة جزء من الخطبة 27 (شرح نهج البلاغة، الخوئی 4 / 21) .

الفصل الثانی یشیر إلی وقوفه الصلب علی الدوام بوجه الظلمة من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

الفصل الثالث یشیر إلی إستحالة الکذب علیم لأنه أول من صدق بالنبی صلی الله علیه و آله وعلیه فلا ینبعی أن یستسرب الشک إلی إخباره عن المغیبات التی أخبره بها رسول الله صلی الله علیه و آله.

الفصل الرابع یختتم الخطبة بعذره فی البیعة لمن سبقه من الخلفاء، وأنّه فعل ذلک طاعة لرسول الله صلی الله علیه و آله وخشیة الفرقة والتشتت فی صفوف المسلمین واستغلال ذلک من قبل خصوم الدعوة الإسلامیة.

ج ج

ص:242

القسم الأول: الصمود أمام العواصف

«فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِینَ فَشِلُوا وَتَطَلَّعْتُ حِینَ تَقَبَّعُوا وَنَطَقْتُ حِینَ تَعْتَعُوا وَمَضَیْتُ بِنُورِ اللّهِ حِینَ وَقَفُوا - وَکُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَأَعْلاهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنانِها وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهانِها، کالْجَبَلِ لا تُحَرِّکُهُ الْقَواصِفُ وَلا تُزِیلُهُ الْعَواصِفُ. لَمْ یَکُنْ لِأَحَدٍ فِیَّ مَهْمَزٌ وَلا لِقائِلٍ فِیَّ مَغْمَزٌ» .

الشرح والتفسیر

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ الفصل الأول من الخطبة یتضمن ذکر الإمام علیه السلام لمقاماته فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر أیام أحداث عثمان، وکون المهاجرین والأنصار کلهم لم ینکروا ولم یواجهوا عثمان بما کان یواجهه به وینهاه عنه إلّاأنّ سیاق الکلام یشیر إلی الحوادث التی وقعت علی عهد النبی صلی الله علیه و آله ولا سیما فی بدایة انطلاق الدعوة الإسلامیة. فقال علیه السلام «فقمت بالأمر حین فشلوا وتطلعت (1)حین تقبعوا (2)ونطقت حین تعتعوا (3)ومضیت بنور الله حین وقفوا. وکنت أخفضهم صوتاً وأعلاهم فوتاً (4)» ثم أضاف علیه السلام أنّه تألق تلک المدة وحاز السبق علی الآخرین «فطرت بعنانها واستبددت برهانها (5)، کالجبل لا تحرکه

ص:243


1- 1) «تطلعت» من مادة «طلع» بمعنی مد العنق بحثا عن شی، وأصلها طلوع بمعنی الظهور والبروز.
2- 2) «تقبعوا» من مادة «قبع» بمعنی الاختباء، وأصله تقبع القنفذ إذا أدخل رأسه فی جلده.
3- 3) «تعتعوا» من مادة «عتع» بمعنی تلعثم اللسان، والمراد ترددوا فی کلامهم.
4- 4) فوت تعنی فقدان الشی، وتطلق علی التفاوت بین شیئین وابتعاد هما عن بعضهما بحیث لا یدرک أحد هماالآخر، ومن هنا تطلق هذه المفردة علی من یسبق الآخرین، وهذا هو الذی ارید بها فی العبارة.
5- 5) «الرهان» من مادة «رهن» بمعنی جعل الشی عند الاخر، ومن هنا یطلق الرهن علی وثیقة الدین، کما یطلق الرهان علی جوائز المسابقات، والمراد بقوله «استبددت برهانها» إنفردت بجائزة هذه المسابقة الإلهیة.

القواصف ولا تزیله العواصف، لم یکن لأحد فیّ مهمز (1)ولا لقائل فی مغمز (2)» .

فقد أشار الإمام علیه السلام إلی أربعة اُمور هی: -

الأول: أنّ الآخرین کانوا آنذاک یعانون من الضعف والعجز، وأنا الذی نهضت بالأمر وقمت بوظیفتی.

الثانی: أنّ الخوف دفع الآخرین آنذاک لأن یقبعوا فی جحورهم وأنا الذی إنبریت للأمر وکنت أتطلع إلی العدو.

الثالث: أنا الذی نطق لسانی بالحق وبیان الحقائق الدینیة والتعالیم الإسلامیة حین عجز الآخرون عن الکلام.

الرابع: لم یعترینی الشک آنذاک کما إعتری الآخرین فواصلت سبیلی علی هدی من ربی ونور إیمانی ویقینی بالوحی.

ورغم کل ما تقدم لم أکن لأتفاخر علی أحد «کنت أخفضهم صوتاً» ثم یخلص علیه السلام من کل ذلک إلی نتیجة مؤداها «فطرت بعنانها واستددت برهانها» . ثم یعود علیه السلام للتأکید علی ما مضی من حوادث وکیف واجهها فقال «کالجبل لا تحرکه القواصف ولا تزیله العواصف» مع ذلک فقد خضت ما خضت و «لم یکن لأحد فیّ مهمز ولا لقائل فیّ مغمز» .

کما أوردنا آنفا فانّ المراد بهذه العبارات ما حدث فی بدایة إنبثاق الدعوة الإسلامیة؛ لأننا نعلم جمیعاً بانّ علیاً علیه السلام کان أول من أسلم حین کان الإسلام غریباً ولم یکن هناک من یهب للدفاع عن الإسلام والقرآن والنبی صلی الله علیه و آله؛ المعنی الذی یلمس بوضوح فی یوم الدار حین انطلقت الدعوة الإسلامیة للعلن بعد ثلاث سنوات من الدعوة السریة.

ولم یجب النبی صلی الله علیه و آله ویعلن دعمه له ووقوفه إلی جانبه سوی علی علیه السلام وفی لیلة المبیت نام علی فراش رسول الله صلی الله علیه و آله لینجو من مؤامرة قریش التی استهدفت قتله، ناهیک عن فتح خیبر حین عجز الآخرون، وبروزه لعمرو بن عبدود العامری فی الأحزاب حین لم یکن غیره من انبری لقتاله.

ص:244


1- 1) لم یکن فی مهمز من الهمز یعنی لم یکن فی عیب أعاب به.
2- 2) «الغمز» بمعنی الطعن والغماز من یبحث عن العیوب ویطعن بالناس، وهذا هو المراد بالعبارة.

کما یحتمل أن یکون المراد بالقیام بالأمر والجمل اللاحقة الدفاع عن الإسلام علی عهد الخلفاء، لانّ أغلب المورخین المسلمین یقرون بان علیاً علیه السلام کان المفزع فی حل المشاکل والمعضلات التی تواجه المسلمین.

فقد وردت العبارة المعروفة عن الخلیفة الثانی عمر بن الخطاب «اللّهم لا تبقنی لمعضلة لیس لها أبو الحسن» (1).

أو ما تناقلته کتب الفریقین والتی تؤکد هذا المعنی، حتی صرح بعض أرباب اللغة أنّ العبارة «مشکلة لیس لها أبو الحسن» أصبحت مثلاً لدی العرب. وهنالک إحتمال ثالث فی أن یکون المراد قیامه علیه السلام بأمر الخلافة بعد انهیار حکومة عثمان وإثر تلک العواصف التی عصفت بالمسلمین بعد مقتل الخلیفة الثالث، فقد تصدعت آنذاک عری المجتمع الإسلامی، وقد تأهبت عناصر النفاق ومن تبقی من أسلاف الجاهلیة ومشرکی العرب، فلم یکن للاُمّة من أمل سوی علی علیه السلام، أجل لقد نهض الإمام علیه السلام بالامر فی ظل تلک الظروف وحفظ وحدة المسلمین.

أما قوله «کنت أخفضهم صوتاً» فلعله إشارة إلی تواضع الإمام علیه السلام إلی جانب کل تلک الانتصارات والنجاحات، أو إشارة إلی أن الإمام علیه السلام لم یکن من أهل التظاهر وإثارة الصخب والضوضاء فهذه معانی الأفراد الضعفاء العجزة.

ومن هنا أردفها بقوله «وأعلاهم فوتا» التی تعنی السبق علی الآخرین، السبق فی الإیمان والهجرة، والسبق بالجهاد والقتال، وأخیرا السبق فی کافة الفضائل الأخلاقیة.

وقوله علیه السلام «فطرت بعنانها واستبددت برهانها» هو الآخر تأکید لهذا الأمر، ولا سیما أن فاء التفریع وردت فی البدایة کنتیجة للبرامج السابقة، أی أنّی رکبت مرکب النصر وسبقت الآخرین، وذلک لانّی لم أشعر بالضعف طرفة عین ولم أهب الحوادث المرعیة وأفقد الفرص المواتیة، ومع ذلک لم أثیر أیة ضجة أو صخب وضوضاء.

ثم یشبه نفسه علیه السلام بالجبل العظیم الذی لا تحرکه القواصف ولا تزیله العواصف. والطریف فی الأمر أن الإمام علیه السلام ذکر القواصف ثم أردفها بالعواصف، وذلک لان القواصف تعنی الریاح

ص:245


1- 1) ورد هذا الحدیث بعدة تعبیرات فی أغلب مصادر العامة، ومن أراد الوقوف علی المزید فلیراجع الغدیر 3 /97. [1]

العاتیة الکاسرة، والعواصف الریاح السریعة الجارفة، فی اشارة إلی أنّ الحادثة کانت من الشدة بحیث تقضی علی الإنسان فی موضعه، وأحیانا تکون أکثر شدة فتجرفه کما تجرف أوراق الشجر وتقذف به فی مکان سحیق.

ثم قال علیه السلام: «ولم یکن لأحد فی مهمز ولا لقائل فی مغمز» . فالمعروف أنّ من یعمل یخطی ومن یرد المیدان الاجتماعی ویمارس الأنشطة والفعالیات فانّه یتعرض إلی بعض الانتقادات من هنا وهناک، فما ظنک بالإمام علیه السلام الذی کان سباقاً فی کل المیادین. وبالطبع فانّ العیوب والمطاعن فی غیره لم تحص رغم ندرة إقتحامه للمیدان الاجتماعی. (1)

ص:246


1- 1) لقد أوردنا توضیحات مسهبة بهذا الشأن فی شرح الخطبة الشقشقیة.

القسم الثانی: القوی عندی ضعیف

اشارة

«الذَّلِیلُ عِنْدِی عَزِیزٌ حَتَّی آخُذَ الْحَقَّ لَهُ وَالْقَوِیُّ عِنْدِی ضَعِیفٌ حَتَّی آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، رَضِینا عَنِ اللّهِ قَضاءَهُ وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ» .

الشرح والتفسیر

لما کانت عدالة الإمام علیه السلام هی السبب الذی یقف وراء أغلب الحوادث الألیمة والحروب الدامیة، واعتیاد الناس لسنوات علی الظلم والجور والاضطهاد علی عهد الخلفاء الثلاث ولاسیما عصر عثمان، فانّهم لم یکونوا مستعدین بهذه السهولة لقبول منطق المساواة أمام القانون وفی العطاء من بیت المال.

فالإمام علیه السلام یؤکد فی هذه الخطبة أنّی سأواصل سیرتی فی العدل وإحقاق الحق وانتزاعه من القوی، بل هذا هو هدفی من الحکومة، وبناءً علیه فالقوی عندی ضعیف حتی آخذ الحق منه والضعیف قوی حتی آخذ الحق له «الذلیل عندی عزیز حتی آخذ الحق له والقوی عندی ضعیف حتی آخذ الحق منه» ومن هنا کان لاینفک علیه السلام عن تأکیده علی الحدیث المعروف عن رسول الله صلی الله علیه و آله والذی ضمنه عهده إلی مالک بعد أن أوصاه قائلاً: واجعل لذوی الحاجات منک قسماً تفرغ لهم فیه شخصک، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فیه للّه الذی خلقک. . . فقد سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله یقول لن تقدس أمّة لا یؤخذ للضعیف فیها حقّه من القوی غیر متتعتع» . (1)

ص:247


1- 1) نهج البلاغة، الرسالة 53. [1]

کان الإمام علیه السلام شدید الحرص علی العدالة لا یؤثر علیها أی شی وقد وردت عدة أحادیث بهذا الشأن فی أنّ الإمام علیه السلام کان یقسم عطاء بیت المال فقدم رجل من الأنصار فاعطاه ثلاثة دنا نیر، ثم دخل علیه عبد أسود فاعطاه ثلاثة أیضاً، فقال له الأنصاری، یا أمیرالمؤمنین سویت بینی وبین عبدی الذی عتقته بالأمس. فقال علیه السلام لم أرفی الکتاب فضلاً لولد اسماعیل علی ولد اسحاق «إن آدم لم یلد عبداً ولا أمة إن الناس کلهم أحرار» (1).

ثم قال علیه السلام: «رضینا عن الله قضاءه وسلمنا له أمره» تنطوی هذه العبارة علی معنیین: الأول أنّ الله أمرنا بنصرة المظلوم ومقاتلة الظالم، وإنّی مسلم لهذا الأمر ولابدّ من التسلیم والرضی قبل الاخرون شاءوا أم أبوا.

نصرة المظلوم ومجِابهة الظالم

لقد شحن نهج البلاغة بوصایاه علیه السلام التی تؤکد علی الحکومة الإسلامیة فی أن تکون للمظلوم عوناً وللظالم خصماً. ومن ذلک ماورد فی خطبته المعروفة بالشقشقیة من أنّ الحکومة وسیلة للانتصاف للمظلوم «وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلوم» ، أما أخر وصیة لولده الحسن علیه السلام والحسین علیه السلام «کونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» . (2)

وقال فی موضع آخر من نهج البلاغة «وآیم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته حتی اُورده منهل الحق وإن کان کارهاً» (3).

ولا غرابة فالقرآن الکریم قد أکد هذا الأمر لیحث المؤمنین علی نصرة المظلومین ولو تطلب ذلک القتال «وَما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ المُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلْدانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ القَرْیَةِ الظالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیّاً وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصِیراً» (4).

ص:248


1- 1) روضة الکافی / 69 ح 26.
2- 2) نهج البلاغة، الرسالة 47. [1]
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 136. [2]
4- 4) سورة النساء / 75. [3]

جدیر بالذکر أنّ الفلسفة الأصلیة لتشکیل الحکومة وتشریع القوانین (سواء القوانین الإلهیة أو الوضعیة التی تسنها الأنظمة البشریة) هو حفظ حقوق الضعفاء وتوفیر الدعم والاسناد لهم، لأنّ الطغاة والجبابرة یعتمدون منطق القوة الغاشم من أجل هضم حقوق الآخرین، وعلیه فلو تخلت الحکومة والقانون عن دعم المظلومین والمستضعفین فانّها ستفقد فلسفة وجودها لتتحول إلی وسیلة بید الظلمة لتبریر ظلمهم وجورهم. ومن هنا کان قبول الإمام علیه السلام للحکومة کما ذکر ذلک فی خطبته الشقشقیة یکمن فی الوقوف إلی جانب المظلوم ومجابهة الظالم.

ومن هنا أیضا فإن القانون یعطی نتیجة معکوسة فی المجتمعات التی تغیر مسار القانون بالرشوة، لأن الراشی هو الظالم لا المظلوم - وفی هذه المجتمعات یتحول القانون إلی مصدر دخل غیر مشروع للظلمة وأداة لتوجیه ظلم الآخرین. لکن ینبغی العلم بأن تحمل العدل ومجابهة الظلم ودعم المظلوم إنما یشق علی الأعم الأغلب. فمن الصعب قبول العدل من قبل من یری مراعاته تشکل خطرا علی مصالحه اللا مشروعة، أو الأسوأ من ذلک من یری لنفسه إمتیازا فی المجتمع ولا یمکنهم أن یتساوی مع الآخرین ویری أن من الإسادة إلیه أن یتساوی معهم، فیعمد إلی عرقلة مسیرة الحکومة العادلة ولا یتورع عن ممارسة أبشع الأعمال. وهؤلاء هم الأفراد الذین وقفوا بوجه الإمام علیه السلام وأثاروا الفتن والإضطرابات وحرفوا الوسط الإسلامی.

وأخیرا فقد ورد أنّ سبب إنفراج العرب عن أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام إنّما یکمن فی الأموال وکیفیة توزیعها، فلم یکن علیه السلام یری من فضل لشریف علی غیر شریف أو عربی علی أعجمی، کما لم یکن یستن بسنة السلاطین فی معاملة زعماء القبائل، ولم یستمیل أحدا عن طریق المال أبداً، بینما کان معاویة یمارس العکس تماماً. (1)

ص:249


1- 1) بحار الانوار 42 / 133. [1]

ص:250

القسم الثالث: أول من أسلم

اشارة

«أَ تَرانِی أَکْذِبُ عَلَی رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله؟ وَاللّهِ لأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ! فَلا أَکُونُ أَوَّلَ مَنْ کَذَبَ عَلَیْهِ. فَنَظَرْتُ فِی أَمْرِی. فَإِذَا طَاعَتِی قَدْ سَبَقَتْ بَیْعَتِی وَإِذَا الْمِیثاقُ فِی عُنُقِی لِغَیْرِی» .

الشرح والتفسیر

کما أشرنا سابقاً یبدو أنّ ما ورد فی هذه الخطبة فصول مختلفة من خطبة طویلة فصلها السید الرضی (ره) عن بعضها البعض، ولذلک قد لا یکون هناک من ترابط وثیق بین هذه الفصول. علی کل حال فانّ هذا الفصل من الخطبة یتناول أمرین: الأول إخباره علیه السلام عن الحوادث الآتیة مصرحاً بأنّ ذلک ممّا علمه إیاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ومن ذلک إخباره عن وقائع الجمل وصفین والنهروان، أمّا بعض ضعاف الإیمان کانوا یشککون فی أخبار الإمام علیه السلام، فرد علیهم بالقول «أترانی أکذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟ واللّه لأنا أول من صدقه! فلا أکون أول من کذب علیه» . لقد صدقته حین کذبه الناس، وکنت أول من صدق به فشمرت فی الدفاع عنه، کنت أقیه بنفسی فی الحروب والمواقف التی تنکص فیها الابطال، أفیمکن أن أنحرف عن طریقتی وأکذب علیه محال ذلک. الاحتمال الآخر فی تفسیر هذه العبارة أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یقول: بایعت من سبقنی من الخلفاء لا لأنّهم أجدر بها منی، بل دفعاً للخلاف والفرقة فی صفوف المسلمین طاعة لأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله، أفترون أنی أکذب علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله بهذا الکلام، أم تعتقدون أنّی أنقض وصیة النبی صلی الله علیه و آله؟ وعلیه فقد بایعت من بایعت وتنازلت عن

ص:251

حقی طاعة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله. ویبدو أنّ هذا التفسیر هو الأنسب لأنّه ینسجم والعبارت اللاحقة. ثم قال علیه السلام: «فنظرت فی أمری، فاذا طاعتی قد سبقت بیعتی وإذا المیثاق فی عنقی لغیری» والتفاسیر وإن إختلفت بشأن هذه البعارة - التی تعد من عبارت نهج البلاغة المعقدة - إلّاأنّ التفسیر الذی أوردناه آنفا هو الانسب من جمیع التفاسیر وکأنّ العبارة تجیب علی سؤال قد یقتدح إلی الأذهان فی أنّ الإمام علیه السلام لم یبایع الخلفاء الثلاث وهو یری أنه أجدر بالخلافة منهم وقد نص رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی إمامته؟ وجواب الإمام علیه السلام أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله عهد إلیّ السکوت حفظاً للإسلام إن خالفنی القوم، ولابدّ لی من البیعة من أجل حفظ المصالح التی یجب علیَّ مراعاتها. وعلیه فقد جعلت طاعتی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله أولی من بیعتی، کانت عهداً من النبی صلی الله علیه و آله فی عنقی ولیس أمامی سوی الوفاء بالعهد، کما ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة، کما أوردنا سابقاً إلی أنّ المراد أنّ طاعة النبی صلی الله علیه و آله مقدمة لدی علی بیعة الخلفاء، لقد عهد إلیّ النبی صلی الله علیه و آله بالسکوت فی ظل مثل هذه الظروف، وذکر بعض الشرّاح إنّ المراد بقوله «فنظرت فی أمری. .» أنّ هذه الکلمات مقطوعة من کلام یذکر فیه حاله بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأنّه کان معهودا إلیه ألا ینازع فی الأمر، ولا یثیر فتنة، بل یطلبه بالرفق، فان حصل له وإلّا أمسک، فالمراد: فنظرت فاذا طاعتی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله؛ أی وجوب طاعتی، قد سبقت بیعتی للقوم، أی وجوب طاعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وامتثال أمره سابق علی بیعتی للقوم، فلا سبیل إلی الامتتاع من البیعة لأنّه صلی الله علیه و آله أمرنی بها، «وإذا المیثاق فی عنقی لغیری» أی رسول اللّه صلی الله علیه و آله أخذ علیَّ المیثاق بترک الشقاق والمنازعة، فلم یحل لی أن أتعدی أمره، أو أخالف نهیه. (1)وقال البعض أنّ العبارة تنسجم وما قال الإمام علیه السلام فی الخطبة الشقشقیة «أما والذی فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر. . . لألقیت حبلها علی غاربها» . ویبدو أنّ هذا التفسیر هو الآخر مستبعداً، لأنّ القوم تمردوا علی طاعة الإمام علیه السلام قبل البیعة، واعلنوا بیعتهم فلم یکن هناک من میثاق، إلّا أن نفسر المیثاق مجازیاً.

ص:252


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 296؛ [1] محمد عبده الشارح المعروف والعلّامة الخوئی إختاروا هذاالمعنی أیضاً.

عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی العهد الذی عهده إلیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ویفهم من العبارة أنّ النبی صلی الله علیه و آله عهد لعلی علیه السلام بمماشاة الخلفاء، وإن لم تستند حکومتهم إلی الموازین الشرعیة. وقد صرحت بعض الروایات بمضمون ذلک العهد، ومنها ما أورده المرحوم السید ابن طاووس فی کشف المحجة فی روایة عن علی علیه السلام: «وقد کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله عهد إلی عهداً، فقال: «یابن أبی طالب! لک ولاء اُمّتی. فان ولوک فی عافیة واجمعوا علیک بالرضا فقم بأمرهم وإن إختلفوا علیک فدعهم وما هم فیه فانّ اللّه سیجعل لک مخرجاً» . فالواقع أنّ الإنسان قد یقف أحیاناً علی مفترق طرق کلاهما مریر، إلّاأن أحدهما أمّر من الآخر، فالعقل فی مثل هذه الحالة یحکم باجتناب الأمّر وتقبل المریر؛ القاعدة التی یصطلح علیها فی الفقه بقاعدة الأهم والمهم، کما یعبر عنها أحیاناً بدفع الأفسد بالفاسد، وهذا ما سلکه أمیرَالمؤمنین علیه السلام بعید وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله. فقد کان أمامه علیه السلام سبیلان لاثالث لهما، إمّا إن یترک حقه المسلم فی الخلافة حفظا للإسلام والمصالح الإسلامیة، أو أن ینهض بالامر فیطالب بحقه، دون الإکتراث لوحدة المسلمین وتربص الاحزاب الجاهلیة بالإسلام والفرصة التی کان ینتظرها المنافقون بفارغ الصبر أملا فی إقتتال المسلمین وتسللهم إلی الحکومة، الأمر الذی تکهن به رسول اللّه صلی الله علیه و آله فعهد لعلی علیه السلام ذلک العهد، ولم یکن من علی الذی أوقف نفسه للإسلام سوی الالتزام بذلک العهد.

ص:253

ص:254

الخطبة: الثامنة و الثلاثون

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

وفیها علّةُ تسمیة الشُّبهة شبهةٌ ثُمَّ بیانُ حال النّاسِ فیها. (1)

نظرة إلی الخطبة

إنّ أدنی تأمل للخطبة سیفید أنّ هذا الکلام فصل من کلام طویل إختاره السید الرضی (ره) ، ومن هنا نری الکلام عبارة عن فصلین، أحدهما غیر منسجم مع الآخر، بل مبتور عنه. أمّا الفصل الأول فهو الکلام فی الشبهة ولماذا سمیت شبهة، وسبیل الخلاص من الشبهات. والفصل الثانی بیان حال الناس إزاء الموت، حیث لا ینجو منه من خافه، ولا یمنح البقاء من طلبه فکلاهما میت. وتدل القرائن علی أن الرضی (ره) کان یلتقط الکلام إلتقاطاً، ومراده أن یأتی بفصیح کلامه علیه السلام وما یجری مجری الخطابة والکتابة، ویؤید هذا العبارة «من کلام له» و «من خطبة له» ونعرف أنّ من هنا تبعیضیة، فلم یقل ومن خطبته أو ومن کلماته، فقد أراد أن ما ورد هنا جزء من خطبته علیه السلام. علی کل حال فانّ الخطبة ورغم قصرها تتناول موضوعین أحدهما؛ الشبهة والآخر الموت.

ج ج

ص:255


1- 1) نقل هذه الخطبة الامدی فی غررالحکم مع إختلاف طفیف وما ورد فی نهج البلاغة، ویفهم من هذا أنّ الآمدی قد روی هذه الخطبة من مصدر آخر غیر نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 1 / 435) .

ص:256

«وَإِنَّما سُمِّیَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّها تُشْبِهُ الْحَقَّ: فَأَمّا أَوْلِیَاءُ اللّهِ فَضِیاؤُهُمْ فِیها الْیَقِینُ وَدَلِیلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَی وَأَمّا أَعْداءُ اللّهِ فَدُعاؤُهُمْ فِیها الضَّلالُ وَدَلِیلُهُمُ الْعَمَی، فَما یَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خافَهُ، وَلا یُعْطَی الْبَقاءَ مَنْ أَحَبَّهُ» .

الشرح والتفسیر

النجاة من الشبهة

یستفاد من بعض المصادر أنّ هذا الفصل من الخطبة یتعلق بقصة طلحة والزبیر ومعرکة الجمل؛ لأنّهما خلقا شبهة لدی الناس ودعوهم لنکث البیعة والقیام ضد الحق. ومن عناصر تلک الشبهة زج زوج النبی صلی الله علیه و آله فی تلک المعرکة والمطالبة بدم عثمان وما شا کل ذلک. قد تحدث الإمام علیه السلام عن الشبهة قائلا: «وإنّما سمیت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحق» ومن هنا کانت سببا لخداع السذج وذریعة بید الشیاطین للفرار من الحق. فالواقع أنّ الاُمور التی تواجه الإنسان فی حیاته الفردیة والاجتماعیة لا تخرج عن ثلاث؛ فقد یکون الحق ظاهراً جلیاً کأن نقول من یعمل الخیر یحصد الخیر ومن یعمل الشر یحصد الشر؛ أو یکون الباطل واضحاً، کأن نقول الفوضی وغیاب القانون أفضل من النظام وسیادة القانون، فمن البداهة القول ببطلان هذا الأمر. غیر أن هنالک بعض الحالات التی لیست من قبیل القسم الأول ولا الثانی، حیث یتلبس الباطل أحیاناً بثوب الحق، أمر ظاهره حق وباطنه باطل، کتلک الاُمور الجوفاء التی تمسک بها أصحاب الجمل وصفین من أجل إشعال نیران تلک المعارک. ویبدو أنّ هذه هی مشکلة المجتمعات البشریة، وقد إتسعت فی مجتمعاتنا المعاصرة، حیث نری أغلب الأهداف الباطلة والسلطة الخبیثة التی تلبست ثیاب حقوق الإنسان والدفاع عن الحریة والدیمقراطیة وحفظ القانون وإعادة السلام والاستقرار إلی المنطقة. ثم أشار علیه السلام إلی طرق النجاة من

ص:257

الشبهات التی یعتمدها أولیاء اللّه «فأما أولیاء اللّه فضیاؤهم فیها الیقین ودلیلهم سمت (1)الهدی» . فالعبارة قد تکون إشارة لأحد أمرین: الأول أنّ أولیاء اللّه الذین یؤمنون باللّه والغیب إنّما یلوذون بالقرآن وکلمات أئمة العصمة لمواجهة ظلم الشبهات والخلاص منها بدافع من یقینهم بالوحی، وعلیه فالیقین فی العبارة هو الإیمان باللّه ورسوله «وسمت الهدی» إشارة إلی هدی الوحی، کما قال القرآن «ذ لِکَ الْکِتابُ لَارَیْبَ فِیهِ هُدًی لِلمُتَّقِین» (2). وقیل المراد بالیقین الاستفادة من المقدمات القطعیة والاُمور الیقینیة التی من شأنها إنارة الطریق والقضاء علی الشبهة، وبعبارة اُخری فانّ أولیاء اللّه الذین لایکترثون للاهواء ویحکمون العقل إنّما یسعهم فی ظل هذا لاعقل أن یجتازوا الشبهات ویهتدوا إلی السبیل، ولو کان للأهواء من سبیل إلی العقل لما وسع هذا الفرد تمییز الحق من الباطل إذا إلتبس علیه الأمر. والتفسیران لایتعارضان، ویمکن الجمع بینهما فی مفهوم العبارة المذکورة. قد یقال أنّ بعض الآیات والروایات قد اشتملت علی المشتبه الذی یتضمن مختلف التفاسیر، فما العمل فی هذا الحالة؟ لقد أجاب القرآن الکریم صراحة عن هذا السؤال وذلک بالرجوع إلی الآیات المحکمة والروایات الصریحة التی تفسر تلک المتشابهة حتی یتمکن الفرد من إجتیاز هذا الامتحان الإلهی بالآیات والروایات المتشابهة. والحیاة الإنسانیة علی غرار الآیات القرآنیة قد تنطوی علی محکمات ومتشابهات، فقد تری مثلاً حرکة مریبة من أحد الأصدقاء تحتمل الوجهین فی التفسیر، وقد أرشدت مختلف الحوادث إلی نزاهته وعفته خلال کل هذه المسیرة، فلا شک أنّ حسن السیرة هذا من المحکمات وتلک الحرکة المریبة من المتشابهات التی یمکن تفسیرها من خلال المحکمات. ثم تطرق الإمام علیه السلام لأعداء اللّه فی کیفیة التعامل مع الشبهات فقال: «وأما أعداءاللّه فدعاؤهم فیها الضلال ودلیلهم العمی» فکل سبیل یتطلب دافعاً ودلیلاً من أجل الحرکة، وهنا یفترق الأفراد إلی أولیاء اللّه وأعدائه، فلیس لأولیاء اللّه من دافع سوی الیقین باللّه والیوم الآخر ودلیل سوی الوحی والنبوة، بینما دافع أعداء ودلیلهم الضلال وهوی

ص:258


1- 1) سمت بمعنی الطریق أو الجادة، کما تطلق مشکل المحسنین، والتسمیت هو الدعاء لمن یعطس حیث یسأل الله له السلامة، فالعطسة من علامات السلامة.
2- 2) سورة البقرة / 2. [1]

النفس ووساوس شیاطین الانس والجن وعمی البصر والبصیرة. ومن هنا فانّ الفلاح والسعادة فی الدنیا والآخرة هی مصیر الطائفة الاُولی «أَ لا إِنَّ أَوْلِیاءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ. . . لَهُمُ البُشْری فِی الحَیاةِ الدُّنْیا وَفِی الآخِرَةِ» (1)بینما لیس لأعداء اللّه سوی الظلمات «أَوْ کَظُلُماتٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ یَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَراها وَمَنْ لَمْ یَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (2). أمّا ما ورد فی خطبة الإمام علیه السلام فهو صادق علی الحیاة الفردیة وکذلک الحیاة الاجتماعیة، بل إنّ أبعاده لأعظم وأخطر فی الجانب الاجتماعی وقد تجسد النموذج الکامل لذلک فی الطائفة الثانیة (أعداء اللّه) من قبیل الفرق الثلاث التی خاضت معرکة الجمل وصفین والنهروان من خلال الشبهات الواهیة والادلة الجوفاء الأضعف من بیت العنکبوت لتهب لقتال الإمام علیه السلام وتوجّه ضرباتها الماحقة لکیان الإسلام والمسلمین. جدیر بالذکر ما أورده صحیح البخاری عن أبی بکرة - أحد صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله - أنّه قال سمعت حدیثاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله نفعنی أیام الجمل، فقد کدت أن ألتحق بمعسکر أصحاب الجمل، حیث بلغ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّ طائفة من الإیرانیین قد ولوا علیهم بنت کسری فقال صلی الله علیه و آله «لن یفلح قوم ولو أمرهم إمرأة» . (3)

تأثیر الشبهة فی تحریف الحقائق

لو ظهر الباطل کما هو لما خفی علی أحد، ولما قبله الوجدان والطبع السلیم، ولا یستجیب له سوی مرضی القلوب ومنحرفی الأفکار إلّاأنّ المشکلة تتعقد حین یتزین الباطل بلباس الحق، فیقبل علیه بعض طلاب الحق بعد أن یغترون بحسن ظاهره، وهذه فی الواقع إحدی شعب الشبهة. الشعبة الاُخری أن یمزج مقدار من الحق بمقدار من الباطل فتختفی صورة الباطل القبیحة فی ظل الحق. وأخیراً فقد یزیف الباطل ویجمل حتی یبدو بصورة حق دون أن

ص:259


1- 1) سورة یونس / 62 - 64. [1]
2- 2) سورة النور / 40. [2]
3- 3) صحیح البخاری 6 / 10 باب کتاب النبی صلی الله علیه و آله إلی کسری وقیصر.

یمتزج به. وقد حفل تأریخ البشریة بما لا یحصی من الفتن والویلات التی طالته من خلال الشبهات والوساوس الشیطانیة، حتی مارس الطغاة والمخادعون سلطتهم علی الناس بواسطة تلک الشبهات. وأفضل نموذج علی ذلک المعارک الثلاث المعروفة - الجمل وصفین والنهروان - التی أودت بحیاة تلک الجماعة العظیمة من المسلمین وما ذلک إلّامن خلال الشبهات التی إعتمدها أصحاب الباطل من أجل تحقیق أطماعهم ومآربهم؛ فالبکاء لیل نهار علی قتل الخلیفة المظلوم (عثمان) والطواف بقمیصه الملطخ بالدم من أجل تعبئة الناس، حتی من قبل أولئک الذین ساهموا فی قتله وتلطخت أیدیهم بدمه، ومن ثم الإتیان باُم المؤمنین ورکوبها الجمل و. . . کلها نماذج حیة من الشبهة. رفع المصاحف علی أسنة الرماح وشعار التسلیم الحکم القرآن والحیلولة دون إراقة دماء المسلمین هی الاخری من شبهات معرکة صفین. بل أبشع صورة للشبهة فی محاولة تحمیل الإمام علی علیه السلام مسؤولیة قتل عمار بن یاسر فی معرکة صفین حیث إحتج الإمام علیه السلام بقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «یا عمار تقتلک الفئة الباغیة» ، فاحتج علیه بأنّ الفئة الباغبة من أتت بعمار إلی المعرکة. أما أصحاب النهروان ممن کانوا یتظاهرون بصلاة اللیل وقراءة القرآن التی لاتتجازو تراقیهم، فقد رفعوا شعارهم المعروف «لا حکم إلّااللّه» وقد انطوت هذه الشبهة علی فئة عظیمة من الناس والتی أدت فی الختام إلی قتلهم وخلودهم فی جهنم وبئس المصیر. ویشهد عالمنا المعاصر الیوم أسوأ أنواع الشبهات، فما أکثر الشعارات البراقة الساحرة، من قبیل شعار الحریة والدیمقراطیة والمساواة وتفعیل حقوق الإنسان والحضارة والمدنیة وتطویر البشریة والتی ترتکب باسمها أعتی الجنایات وأقبح الجرائهم. وسنسلط مزیداً من الضوء علی هذا الموضوع حین نصل إلی الخطبة الاربعین والخمسین الواردة بهذا الشأن، کما أشار الإمام علیه السلام إلی هذا الأمر فی الحکمة 198 من قصار کلماته فی نهج البلاغة.

عبثیة الخوف من الموت

یری أغلب شرّاح نهج البلاغة عدم وجود آیة رابطة لقولة علیه السلام: «فما ینجو من الموت من خافه، ولا یعطی البقاء من أحبه» وما ورد فی أول الخطبة، وأنّ السید الرضی (ره) إنّما یلتقط

ص:260

کلام الإمام علیه السلام من أکثر من خطبة. ولعلنا نستطیع تصور رابطة بین الفصلین من الخطبة وذلک أنّ الأفراد قد یستسلمون للشبهات خوفاً من الموت، فإشار علیه السلام إلی أنّ خوف الموت لا ینجی من الموت أبداً. علی کل حال فان هذا الفصل من الخطبة یشتمل علی عبارتین تعالج کل منها قضیة الموت. فقد قال علیه السلام «فما ینجو من الموت من خافه» ، بل إنّ هذا الخوف قد یکون من العناصر المقربة للموت. فالموت هو القلادة التی خطت علی جید ابن آدم وسائر الکائنات الحیة والقانون الذی لایعرف الشواذ والاستثناء، فلیس هنا لک من خلود سوی للّه سبحانه. فجمیع الکائنات محدودة وأنّها ستنتهی لامحالة وتؤول إلی الفناء. ولیس من بقاء سوی للذات الإلهیة المقدسة، وعلیه فخوف الموت لن یغیر من حقیقته شیئاً، کما أن السعی من أجل البقاء والحیاة الخالدة لن یکلل بالنجاح أبداً. ومن هنا قال الإمام علیه السلام فی العبارة الثانیة «ولا یعطی البقاء من أحبه» . قد تطول مدة الحیاة أو تقصر إلّاأنّها سائرة للزوال فی خاتمة المطاف ومن الوهم الساذج والباطل التفکیر بالبقاء والخلود. فقد صرح القرآن الکریم «کُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ» وقال «کُلُّ شَیءٍ هالِکٌ إِلّا وَجْهَهُ» . والعبرة هنا فی أن یستعد الإنسان للموت ویتزود له، فالموت لا یعنی الفناء المطلق بقدر ما یعنی الانتقال من دار صغیرة محدودة إلی أخری کبیرة واسعة تشتمل علی مختلف النعم واللذائذ، وإذا أصلحنا عملنا فلیس هنالک ما یدعو إلی الخوف من الموت.

ص:261

ص:262

الخطبة : التاسعة والثلاثون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

خطبها عند علمه بغزوة النعمان بن بشیر، صاحب معاویة لعین التمر، وفیها یبدی عذره ویستنهض الناس لنصرته.

نظرة إلی الخطبة

أمر النعمان بن بشیر مع علیّ ومالک بن کعب الأرحبیّ

وردت هذه الخطبة کما ذکرنا سابقا حین غزا النعمان بن بشیر عین التمر الموضع المعروف فی العراق.

وقد کان معاویة قال قبل ذلک بشهرین أو ثلاثة: أمَا من رجل أبعثُ به بجریدة خیل؛ حتی یُغِیرَ علی شاطیء الفرات! فإنّ اللّه یُرعِبُ بها أهلَ العراق! فقال له النعمان: فابْعثنِی؛ فإنّ لی فی قتالهم نیّة وهوًی - وکان النعمان عثمانیاً: قال: فانتدب علی اسمِ اللّه، فانتدَبَ ونَدَب معه ألفیْ رَجل، وأوصاه أن یتجنّب المدن والجماعات، وألاّ یُغیر إلّاعلی مَسْلَحة، وأن یعجّل الرجوع.

فأقبلَ النعمانُ بن بشیر؛ حتی دنا من عین الَّتمْر، وبها مالک بن کعب الأرحبیّ الذی جری له معه ما جَری، ومع مالک ألفُ رجل؛ وقد أذِن لهم، فرجعوا إلی الکوفة، فلم یبق معه إلّامائة أو

ص:263


1- 1) وردت هذه الخطبة فی ثلاثة مصادر علی الأقل قبل السید الرضی وهی: الغارات لابراهیم بن هلال الثقفی (283) وأنساب الاشراف للبلاذری الذی أورد بعضها وتأریخ الطبری الذی روی بعض أقسامها، وکذلک مصادر نهج البلاغة 1 / 438.

نحوها، فکتب مالک إلی علیّ علیه السلام: أما بعد؛ فإنّ النعمان بن بشیر، قد نَزَل بی فی جمع کَثِیف، فَرَ رأیَک، سدّدک اللّه تعالی وثبتک. والسلام. فوصل الکتابُ إلی علیّ علیه السلام؛ فصعد المنبر فحمداللّه وأثنی علیه، ثم قال:

اخرجُوا هداکم اللّه إلی مالک بن کعب أخیکم، فإنّ النعمان بن بشیر قد نَزَل به فی جمع من أهل الشام؛ لیس بالکثیر، فانهضوا إلی إخوانکم، لعلّ اللّهَ یقطعُ بکم من الکافرین طَرَفاً. ثم نزل.

فلم یخرجوا، فأرسل إلی وُجُوهم وکُبَرائهم، فأمرَهم أن ینهضُوا ویحثّوا الناسَ علی المسیر، فلم یصنعوا شیئاً، واجتمع منهم نفر یسیر نحو ثلثمائة فارس أوْ دونها، فقام علیه السلام، فخطب الخطبة. (1)

ص:264


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1/437. [1]

القسم الأول: سکوت الإمام علیه السلام

«مُنِیتُ بِمَنْ لا یُطِیعُ إِذا أَمَرْتُ وَلا یُجِیبُ إِذا دَعَوْتُ، لا أَبالَکُمْ! ما تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِکُمْ رَبَّکُمْ؟ أَما دِینٌ یَجْمَعُکُمْ وَلا حَمِیَّةَ تُحْمِشُکُمْ؟ أَقُومُ فِیکُمْ مُسْتَصْرِخاً وَأُنادِیکُمْ مُتَغَوِّثاً، فَلا تَسْمَعُونَ لِی قَوْلاً، وَلا تُطِیعُونَ لِی أَمْراً، حَتَّی تَکَشَّفَ الْأُمُورُ عَنْ عَواقِبِ الْمَساءَةِ، فَما یُدْرَکُ بِکُمْ ثارٌ، وَلا یُبْلَغُ بِکُمْ مَرامٌ» .

الشرح والتفسیر

أشرنا سابقاً إلی أن الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة حین بعث معاویة النعمان بن بشیر لیرعب إحدی مناطق العراق ویضعف معنویات أهلها، فدعا الإمام علیه السلام الناس لقتالهم، غیر أن عجز أهل العراق وضعفهم جعلهم یردون بالسلب علی دعوة الإمام علیه السلام، فخطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة لغرضین: الأول: تحمیل أهل العراق المسؤولیة التامة للمصائب والویلات التی تتعرض لها البلاد بفعل هذا الضعف والذلة تجاه العدو، الثانی: لعل هذه الکلمات تؤثر فی تلک الأرواح الهامدة فتلتفت إلی عظم الأخطار التی کانت تتربص بها فتهم بموا جهتها. فقد قال علیه السلام: «منیت بمن لا یطیع إذا أمرت ولا یجیب إذا دعوت» فمن الطبیعی أنّ أعظم القادة والاُمراء وأشجعهم لایسعهم فعل شیء إذا ما ابتلوا بمثل هؤلاء الأفراد، وما من فشل أو هزیمة تصیبهم إلّا ویتحملون مسؤولیتها کاملة. ثم قال علیه السلام: «لا أبا لکم: ما تنظرون بنصرکم ربکم» ؟ إنّ جمیع الظروف متوفرة لدیکم من أجل القتال، فعندکم العدّة والعدد، کما تعلمون مؤامرات عدوکم وقد أحدق الخطر بکم، فماذا تنتظرون؟ أتتطلعون لقتلکم بهذه الذلة والهوان؟ وقد

ص:265

أشْرنا سابقاً إلی أن قوله علیه السلام: «لا أبا لکم» إما یفید عدم تربیتهم التربیة الاُسریة الإسلامیة الصحیحة بحیث یبدون کل هذا الضعف والعجز، أو أنّه دعاء علیهم بان یمیت اللّه آبائهم، وهو الآخر کنایة عن الذلة والهوان الذی یستشعره الإنسان لفقد والده. ثم قال علیه السلام: «أما دین یجمعکم ولا حمیة تحمشکم» (1)؟ فالواقع من شأن أی من هذین الأمرین دواء دائهم، فالدین حلقة إتصال یمکنها إستقطاب الفئات والطوائف المختلفة حول هدف مرکزی واحد، فاذا غاب الدین الذی یجمعهم، فانّ الغیرة الاجتماعیة وحبّ الاهل والوطن إنّما تسوقهم للاتحاد أمام العدو ومواجهته، غیر أنّ المؤسف له هو أنّ أهل العراق آنذاک قد فقدوا هذین الدافعین، فلم یکن دینهم محکماً راسخاً، کما لم تکن لهم حمیة تجعلهم یغضبون ویواجهون العدو. ولا شک أن مثل هؤلاء القوم یعتبرون عقبة کؤوداً فی طریق الحاکم. ومن هنا خاطبهم الإمام علیه السلام مصوراً حجم ضعفهم والذل الذی سیطر علیهم «أرید أن اُداوی بکم وانتم دائی کناقش الشوکة بالشوکة» . (2)

ومن هنا قال علیه السلام: «أقوم فیکم مستصرخاً (3)وأنادیکم متغوثّاً، (4)فلا تسمعون لی قولاً، ولا تطیعون لی أمراً، حتی تکشف الاُمور عن عواقب المساءة» (5)فهل هناک أعظم من هذه المأساة، فی أن یبتلی مثل هذا الإمام علیه السلام الشجاع العالم العادل المجرب بمثل هؤلاء القوم الذین لایکترثون لصراخه ولا یطیعون أوامره. ویفید التأریخ أنّ هذا الأمر لم یقتصر علی أمیرالمؤمنین علیه السلام وقد مارست الاُمّة نفس هذا الموقف مع الإمام الحسن والحسین علیهما السلام فقد وقعت حادثة کربلاء لیقتل الإمام وصحبه بتلک الشاعة، آنذاک ندم أهل الکوفة وهبوا للمطالبة بدم الحسین علیه السلام ولکن بعد أن وقع ما لم یکن ینبغی أن یقع، فقد تخلوا آنذاک عن دعم

ص:266


1- 1) «تحمش» من مادة «حمش» ، قال صاحب المقاییس لها معنیین الغضب والنحافة، وقد وردت هنا بمعنی الغضب؛ أی ألیس لکم حمیة تغضبکم علی عدوکم.
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 121. [1]
3- 3) «مستصرخ» من مادة «صرخ» ، الصراخ حین الخوف أو المصاب وطلب النصرة.
4- 4) «متغوث» من مادة «غوث» بمعنی النصرة حین الشدة، وعلیه یطلق المتغوث علی من یطلب نصرة الآخرین عند الشدائد.
5- 5) «المساءة» مصدر مادة «سوء» ، بمعنی فقد ان النعم المادیه أو المعنویة الدنیویة أو الاخرویة، البدنیة أو غیرالبدنیة.

سفیر الحسین علیه السلام مسلم بن عقیل ونکثوا بیعته ولزموا بیوتهم، فبقی مسلم وحده یقاتل الأعداء حتی استشهد. وأخیراً خلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة «فما یدرک بکم ثار، ولا یبلغ بکم مرام» .

ص:267

ص:268

القسم الثانی: الضعف أمام العدو

اشارة

«دَعَوْتُکُمْ إِلَی نَصْرِ إِخْوانِکُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ (1)الْجَمَلِ الْأَسَرِّ (2)وَتَثاقَلْتُمْ تَثاقُلَ النِّضْوِ (3)الْأَدْبَرِ (4)ثُمَّ خَرَجَ إِلَیَّ مِنْکُمْ جُنَیْدٌ (5)مُتَذائِبٌ (6)ضَعِیفٌ «کَأَنَّما یُساقُونَ إِلَی الْمَوْتِ وَهُمْ یَنْظُرُونَ» .

الشرح والتفسیر

واصل الإمام علیه السلام ذمه لأهل الکوفة علی ما أبدوه من ضعف وعجز تجاه الهجمات المبرمجة للعدو فقال علیه السلام: «دعوتکم إلی نصر إخوانکم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الادبر» أی أنّکم أعریتم عن عجزکم فی الکلام کما فعلتم ما یفشلکم فی الدنیا والآخرة ویمکن العدو من تکبیدکم الخسائر فی أموالکم وأرواحکم، فقد دعوتکم لنصر أخوانکم (مالک بن کعب وصحبه ممن تعرضوا لغارات اهل الشام فی منطقة عین التمر) فکانت حرکتکم کحرکة الجمل وتثاقل النضو الادبر «دعوتکم إلی نصر إخوانکم فجرجرتم

ص:269


1- 1) «جرجرة» صوت یردده البعیر فی حنجرته عند عسفه، وقیل من مادة «الجرر» بمعنی الجر، واطلق الجررلتکراره.
2- 2) «أسر» من مادة «سرر» المصاب بداء السرر، وهو مرض فی کرکرة البعیر أی زوره ینشأ من الدبرة والقرحة.
3- 3) «النضو» المهزول من الابل، والأدبر المدبور، أی المجروح المصاب بالدبرة، وهی العقر والجرح من القتب ونحوه.
4- 4) «أدبر» من مادة «دبر» بمعنی الجرح الذی یتعرض له الحیوان إثر ضغط السراج.
5- 5) جنید مصغر جند.
6- 6) «متذائب» بمعنی مضطرب، من قولهم تذاءبت الریح أی إضطرب هبوها ومنه سمی الذئب ذئباً لاضطراب مشیته.

جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر» ولعل تشبیههم بالحیوانات المریضة إشارة إلی ضعفهم الفکری وعجزهم فی إتخاذ القرار، لأنّ الإنسان العاقل لایدع العدو یهجم علیه بهذه الطریقة بحیث یضرب أینما شاء دون وازع أو رادع. ثم أشار علیه السلام إلی تلک الفئة القلیلة التی لبت دعوته، بینما کان الخوف والهلع یسیطر علیهم «ثم خرج إلی منکم جنید متذائب ضعیف کأنّما یساقون إلی الموت وهم ینظرون» . وقد أورد السید الرضی (ره) فی آخر الخطبة قائلاً: قوله علیه السلام متذائب؛ أی مضطرب، من قولهم: تذائبت الریح، أی اضطراب هبوبها. ومنه سمی الذئب ذئباً، لاضطراب مشیته. ومن هنا فانّ هذه الفئة القلیلة لم تکن مصداقاً لقوله سبحانه «کم من فئة قلیلة غلبت فئة کثیرة» بل کانت فئة ضعیفة قلقلة مضطربة کأنّهم یساقون إلی المذبح وهم ینظرون إلی موتهم، فهی فئة عدمها خیر من وجودها والوثوق بها مخجل، فما أعظم محنته الإمام علیه السلام وابتلائه بهؤلاء القوم طبعاً قوله علیه السلام کأنّما یساقون إلی الموت وهم ینظرون. إنّما اقتبسه علیه السلام من الآیة السادسة من سورة الانفال التی وردت بشأن بعض المؤمنین الضعفاء علی عهد النبی صلی الله علیه و آله الذین کانوا یتشبثون بمختلف الذرائع والحجج للفرار من الجهاد إلی جانب جدالهم للنبی صلی الله علیه و آله حول موقعة بدر، غیر أنّ حوادث بدر أثبتت لا حقاً مدی خطأهم وتزاید خوفهم عبثاً حتی إنتهت الموقعة بالنصر المؤزر للمسلمین، والعجیب أنّ هؤلاء کانوا من المعترضین علی کیفیة توزیع الغنائم بعد انتهاء المعرکة. ولعل المراد بالعبارة أن هذه الفئة القلیلة لو کانت تمتلک العزم الراسخ والقوة والصلابة من شأنها الانتصار علی العدو، غیر أن المؤسف. . .

عاقبة الضعف أمام العدو

رغم أن التعالیم الإسلامیة تستند إلی ارساء قواعد السلام مع کافة الاُمم والشعوب - باستثناء تلک الحالات التی یشهر فیها السلاح ضد الإسلام والمسلمین - إلّاأنها توصی بالشدة والصلابة فی بعض الحالات الطارئة، ونموذج ذلک ما ورد فی هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة بشأن العتاة المردة من أهل الشام من جیش معاویة. فقد کان معاویة یستغل الفرص من أجل إضعاف أهل العراق وزعزعة روحیاتهم، فقد کان یجهز بعض الجماعات

ص:270

ویعبئها لشن غاراتها علی بعض المناطق الإسلامیة فتنشر فیها الذعر والخراب والدمار وتذبح من فیها دون الإکتراث للشیوخ والنساء والصبیان إلی جانب نهب الأموال والثروات وقد تکررت مثل هذه الحادثة لأکثر من مرّة علی عهد الإمام علیه السلام، فکان الإمام علیه السلام یستصرخ أهل الکوفة لمواجهة هذه الأخطار فکانوا یردون علیه بکل ضعف وفتور وکأنّهم لم یعلموا بما یجری حولهم وقد غطوا فی نوم عمیق: الأمر الذی جعل إعتداءات أهل شام تتصاعد یوماً بعد آخر، حتی أصبح العراق بعید شهادة الإمام علیه السلام لقمة سائغة لمعاویة ورهطهَ بحیث لم یتمکن الإمام الحسن علیه السلام من الوقوف بوجه ذلک الظالم، ولا عجب فی الأمر فلم تکن لدیه القوة الکافیة من الأفراد التی یستطیع بواسطتها قتال معاویة. ونلمس الیوم هذه الحقیقة بوضوح فی عالمنا المعاصر، وإذا لم نلتفت إلی تحرشات العدو وتقبرها فی المهد فانّها ستتسع شیئاً فشیئاً، آنذاک لم یمکن المواجهة والصمود. وعلیه فلابد من الانتباه إلی أدنی حرکة عسکریة أو إعلامیة أو إقتصادیة والتعامل معها فوراً بمنتهی الصلابة لیضطر العدو للدفاع بدلاً من الهجوم. فعادة ما تحاول العناصر الضعیفة التی تمیل إلی الدعة والراحه لحمل مثل هذه الحرکات علی البراءة بعید عن حملها محمل الجد وإساءة الظن بها، والحال أنّها إنّما تبدر من العدو الذی لاینبغی الغفلة عن إتهامه ریثما تتکشف الحقائق. ونختتم البحث بالعبارات الواردة فی خطبة الجهاد حیث قال علیه السلام: «ألا وإنّی قد دعوتکم إلی قتال هؤلاء القوم لیلاً ونهاراً وسراً وأعلاناً وقلت لکم: إغزوهم قبل أن یغزوکم: فواللّه ما غزی قوم قط فی عقر دارهم إلّاذلوا» . (1)

سؤال

لعل هنالک من یتساءل لم کل هذه الشدّة من الإمام علیه السلام مع أصحابه ومخاطبتهم بهذه اللکمات وتحقیرهم إلی هذا الحد، أفلیس من الأفضل أن یرفق بهم ویتلطف معهم؟

الجواب: بینا الإجابة علی ذلک کراراً فی الخطب السابقة، وقلنا أنّ ذلک یمثل آخر الدواء، وکأنّه عملیة لاستئصال مرض عضال.

ص:271


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 27. [1]

ص:272

الخطبة الاربعون

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

فی الخوارج لما سمع قولهم: «لا حکم الا اللّه»

نظرة إلی الخطبة

خطبها علیه السلام بعد موقعة صفین حین إعترض علیه الخوارج بقبول التحکیم وانتخاب ممثلین أحدهما من أصحاب الإمام والآخر من أصحاب معاویة لهذا الأمر لیحکما بشأن عاقبة موقعة صفین وخلافة المسلمین، بینما یصرح القران «إِنِ الحُکْمُ إِلّا لِلّهِ» (1)فاقتبسوا من الآیة قولهم «لاحکم إلّاللّه» لیحتجوا بها علی الإمام علیه السلام، وبالطبع فان هنالک مغالطة کبری وقعوا فیها ولم یدرکوا حقیقة الامر. فلما سمع الإمام علیه السلام هذا الشعار، رد بهذه الخطبة وأشار فیها إلی أربعة أمور:

الأول: کشف النقاب عن مغالطتهم فی هذا الشعار، وأنّ القول «لا حکم إلّاللّه» کلمة حق یریدون بها باطلاً.

الثانی: حاجة الاُمّة إلی الحاکم، وبعبارة اُخری ضرورة الحکومة.

الثالث: شرح وظائف الحاکم العادل وایجازها فی سبع.

الرابع: نتیجة وجود الحکومة العادلة.

وقد نقل المرحوم السید الرضی (ره) آخر هذه الخطبة نفس هذا المضمون طبق روایة أخری بعبارات أقصر.

ص:273


1- 1) سورة الانعام / 57؛ [1]سورة یوسف / 40 و67. [2]

ص:274

«قالَ علیه السلام: کَلِمَةُ حَقٍّ یُرادُ بِها باطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُکْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَلَکِنَّ هَؤُلاءِ یَقُولُونَ: لا إِمْرَةَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَإِنَّهُ لا بُدَّ لِلنّاسِ مِنْ أَمِیرٍ بَرٍّ أَوْ فاجِرٍ یَعْمَلُ فِی إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَیَسْتَمْتِعُ فِیها الْکافِرُ، وَیُبَلِّغُ اللّهُ فِیها الْأَجَلَ وَیُجْمَعُ بِهِ الْفَیْءُ، وَیُقاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ وَیُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِیفِ مِنَ الْقَوِیِّ؛ حَتَّی یَسْتَرِیحَ بَرٌّ وَیُسْتَراحَ مِنْ فاجِرٍ.

فِی رِوایَةٍ أُخْرَی أَنَّهُ علیه السلام لَمّا سَمِعَ تَحْکِیمَهُمْ قالَ: حُکْمَ اللّهِ أَنْتَظِرُ فِیکُمْ. وَقالَ: أَمّا الْإِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَیَعْمَلُ فِیها التَّقِیُّ، وَأَمّا الْإِمْرَةُ الْفاجِرَةُ فَیَتَمَتَّعُ فِیها الشَّقِیُّ، إِلَی أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَتُدْرِکَهُ مَنِیَّتُهُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام إلی الشعار الذی رفعه الخوارج «لاحکم إلّاللّه» بقوله «کلمة حق یراد بها باطل» ثم بین علیه السلام بطلان ما أراده الخوارج من تحریفهم لهذا الکلام الحق بقوله «نعم إنّه لاحکم إلّا للّه ولکن هؤلاء یقولون: لا إمرة إلّاللّه» خطأ الخوارج فی هذا الشعار الحق الذی إقتبسوه من القرآن أنّهم أرادوا به أن الحکومة بین الناس للّه، ومن هنا فقد إعترضوا علی مسألة التحکیم ورأوها نوعاً من الشرک، وذلک لأنّها منحت الحکومة لغیر اللّه من الأفراد! فمن البدیهی أن یکون الحاکم بین الناس هو اللّه إذا کان الحکم مقتصراً علی اللّه، وعلیه لابدّ من إزالة أصل الحکومة، لَما وعلیه من إزالة القضاء والمحاکم بالتبع فهی من قبیل الحکومة التی یمارسها الأفراد. لقد خیل لتلک الفئة أنّها ترید أن تعیش توحید اللّه علی مستوی الحاکمیة والتخلص من الشرک فی هذا المجال، إلّاأنّهم إثر جهلهم وتعصبهم سقطوا فی مستنقع الفوضی والهرج والمرج ورفض الحکومة فی أوساط المجتمعات البشریة، واصیبوا بالهلوسة التی

ص:275

جعلتهم یعتقدون بأنّ رعایة التوحید تتطلب نفی کافة ألوان الحکومة والامرة، غیر أنّهم سرعان ما وقفوا علی بطلان مذهبهم فی الحکومة لما شعروا بحاجتهم إلی من یتزعمهم ویحکم بینهم، رغم عنادهم الذی أفرزه جهلهم والذی لم یدعهم یفیقون إلی أنفسهم. مع ذلک فقد قضت کلمات الإمام علیه السلام مضاجعهم واستطاعت أن تفعل فعلها فی میدان القتال فجعلت الکثیر منهم یعودون إلی رشدهم فیعلنوا توبتهم بعد أن وقفوا علی عمق إنحرافهم، علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام یؤکد فی هذه الخطبة أنّ الحاکم وا لمشرع الاصلی هو اللّه سبحانه؛ حتی الحکم بین الناس لابدّ أن یستند إلی تخویل منه، إلّاأنّ هذا لایعنی أن اللّه ینبغی أن یحضر بنفسه فی المحاکم لیقضی ویحکم بین الناس، أو أن یأخذ بزمام الاُمور فیمارس وظیفته کرئیس للبلاد أو والیاً وعاملاً علی منطقة، أو أن یوکل هذه المهمة إلی الملائکة فیبعثهم إلی الأرض. فهذا کلام عبثی ولغو فارغ لا یرتضیه من کان له أدنی فهم وإدراک، إلّاأنّ المؤسف هو أن هذه الفکرة کانت متأصلة فی أفکار الخوارج، ومن هنا خالفوا أمیرالمؤمنین علیه السلام واعترضوا علیه: لم قبلت التحکیم؟ ! وصرح بعض شرّاح نهج البلاغة بأنّ الخوارج یزعمون أن الحکم یتطلب الاذن الإلهی ولابدّ أن یصرح القرآن بهذا الأمر، بینما لم یأذن القرآن لأحد. ولعل هذا هو الذی دفع بعض الاعلام (1)لأن یستدلون علی نفی عقیدة الخوارج بالآیة القرآنیة الشریفة الواردة بشأن الحکم فی الاختلافات العائلیة «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَیْنِهِما فَابْعَثُوا حَکَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَکَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ یُرِیدا إِصْلاحاً یُوَفِّقِ اللّهُ بَیْنَهُما إِنَّ اللّهَ کانَ عَلِیماً خَبِیراً» (2). فاذا کانت هذه المسألة الصغیرة تحتاج إلی الحکم فما ظنک بالمسائل المهمة التی یدعو الاختلاف فیها إلی تفشی الهرج والمرج فی صفوف المجتمع، أفلا ینبغی فصل هذه الاختلافات وحلها عن طریق الحکم؟ ! ومن هنا یری البعض أنّ الإمام علیه السلام لم یکن مخالفاً لمسألة التحکیم فی بعض الحالات، إلّا أنّه لم یکن یوافق شخص الحکمین وکان یعترض علیهما بشدة.

ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فی ضرورة تشکیل الحکومة، لأنّ لخوارج. کما أشرنا سابقا - لم

ص:276


1- 1) العلّامة الخوئی 4 / 183 من شرح نهج البلاغة قد أشار إلی هذا المعنی، ویستفاد من التأریخ الکامل لابن أثیر أن ابن عباس احتج علی الخوارج بهذه الآیة (الکامل 3 / 327) . [1]
2- 2) سورة النساء / 35. [2]

یخالفوا مسألة التحکیم فی صفین فحسب، بل شککوا فی أصل الحکومة وزعموا عدم الحاجة إلی الحاکم، إلّاأنّهم رجعوا عن ذلک لما أمروا علیهم عبداللّه بن وهب الراسبی (1). ثم علل الإمام علیه السلام ضرورة تشکیل الحکومة والحاکم «وإنّه لابدّ للناس من أمیر بر أو فاجر» لیذکر سبعة فوائد تترتب علی قیام الحکومة بعضها یتصل بالجانب المعنوی والبعض الآخر بالجانب المادی وهی: أولاً: «یعمل فی إمرته (2)المؤمن» . (3)

ثانیاً: «ویستمتع فیها الکافر» ، ثالثاً: «ویبلغ اللّه فیها الاجل» ، رابعاً: «ویجمع به الفیئ» ، خامساً: «ویقاتل به العدو» سادساً: «وتأمن به السبل» سابعاً: «ویؤخذ به للضعیف من القوی» . ثم تفضی هذه الوظائف السبع إلی هذه النتیجة النهائیة المترتبة علی الحکومة «حتی یستریح بر ویستراح من فاجر» . ویدل التأریخ السیاسی أنّ فئة قلیلة جداً فی الماضی وحتی فی الوقت الراهن هی التی لاتری ضرورة تشکیل الحکومة - مستدلة ببعض الأدلة الجوفاء التی سنشیر لها فی البحث القادم - والخوارج مصداق لهذه الفئة. وقد رد التأریخ بصراحة علی هذه الفکرة الساذحِة فقد رأینا بأم أعیننا وسمعنا بملئ آذاننا مدی الأخطار الجسام التی یواجهها المجتمع إبان إنهیار الحکومة ولو لساعات من قبیل قتل الأنفس وإراقة الدماء وعملیات السرقة والسلب والنهب التی تتعرض لها المؤسسات بل حتی بیوت الناس وانتهاک الاعراض والنوامیس وانعدام الامن والاستقرار وسیادة الفوضی والهرج والمرج الاضطراب وشل حرکة کافة النشاطات الاجتماعیة؛ کما تصبح البلاد لقمة سائغة للاعداء الذین یعیثون فی الأرض فساداً فلا یسلم المؤمن من شرهم ولا الکافر فتهضم جمیع الحقوق ویعیش الناس الخوف والذعر فمما لاشک فیه أن الف باء الحیاة إنّما یکمن فی إستتباب الأمن والنظام، ثم وجود العناصر المقتدرة التی تقف کالطود الشامخ بوجه العدو الخارجی وعملائه فی الداخل، ولا یتیسر مثل هذا الأمر إلّافی ظل الحکومة. وهنا یبرز هذا السؤال: هل یسع الحاکم الفاجر أن یقوم بالوظائف السبع المارة الذکر التی یقوم بها الحاکم البر والعادل؟ فقد

ص:277


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 308. [1]
2- 2) «إمرة» علی وزن عبرة مصدر أو إسم مصدر من مادة «أمر» ، و «الامرة» هنا بمعنی الحکومة.
3- 3) واضح ان الضمیر فی إمرته یعود إلی مطلق الامیر سواء البر أو الفاجر وکذلک ضمیر فیها، ولیس صحیح ما اورده بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ الأول یعود إلی البر والثانی إلی الفاجر، أو کلاهما للفاجر.

ذکرها الإمام علیه السلام لکلیهما، بحیث یقوم کل منهما بهذه الوظائف. وللإجابة علی هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلی هذه النقطة وهی أنّ الحاکم البر إنّما یقوم قطعا بمثل هذه الوظائف، إلّاأنّها لیست کذلک بالنسبة للفاجر بصورة مطلقة نعم یمارسها بصورة نسبیة، فهو مضطر لاستمرار حکومته أن یراعی النظام، ویقف بوجه العدو الخارجی ویحول نسبیا دون ظلم الظلمة، وان کان فی حد ذاته ظالماً؛ والّا فان الناس ستخرج علیه وتتزلزل دعائم حکومته فیطیح به الأعداء، ومن هنا فانّ أغلب الحکومات مهما کان تتسعی فهی جاهدة للقیام بتلک الوظائف المذکورة. ونخلص ممّا سبق أنّ أیة حکومة تتساهل فی الوظائف المذکورة إنّما تکون قد مهدت السبیل إلی تصدع کیانها وإنهیارها. السؤال الآخر هو أنّ الإمام علیه السلام قد فرق بین المؤمن والکافر. فقال علیه السلام بشأن المؤمن «یعمل» والکافر (یستمتع) فما علة ذلک؟ والجواب هو أنّ المؤمن لایهدف فی حیاته إلی الاستفادة من الامکانات المتاحة من أجل التمتع العابر، بل هدفه الأصلی الفوز برضی اللّه، وما إستفادته من متع الدنیا إلّابالتبع وکونها مطلوباً ثانویاً، ولیس الحال کذلک بالنسبة للکافر، فهو لیس فقط لا ینشد رضی اللّه، بل یقصر همه علی هذه الحیاة الدنیا لیتمتع فیها وإن کان ذلک من خلال الحرام والطرق اللامشروعة، ومن هنا صرح الإمام علیه السلام بأنّ الحکومة ضرورة للطرفین المؤمن والکافر، یعمل فیها هذا ویتمتع فیها ذاک، ولولا الحکومة لما وسع المؤمن العمل ولا الکافر الاستقرار والتمتع.

ج ج

قال السید الرضی (ره) فی ذیل هذه الخطبة، وفی روایة أخری أنّ الإمام علیه السلام لما سمع تحکیمهم قال: «حکم اللّه أنتظر فیکم» فالعبارة یمکن أن تکون إقتباساً من کلامهم للرد علیهم فأنتم تقولون الحکم للّه، وأنا أنتظر هذا الحکم فیکم، فانّه سیحکم فیکم بالعقاب الشدید لهذه اللجاجة والجهل وتفریق صفوف المؤمنین. أو أنی انتظر اتمام الحجة علیکم فمن بقی علی جهله وتعصبه أجریت علیه حکم اللّه. ثم أضاف السید الرضی (ره) - علی ضوء هذه الروایة - وقال علیه السلام «أما الامرة البرة فیعمل فیها التقی، وأما الامرة الفاجرة فیتمتع فیها الشقی، إلی أن تنقطع مدته وتدرکه منیته» . ولکن بالاستناد إلی مفهوم هذه العبارة فی أن الفجار یحرمون من التمتع المباح فی حکومة البر، ولا یستشعر المؤمنون الاستقرار والسکنیة فی

ص:278

ظل حکومة الفاجر (وهذا یتناقض وهدف الخطبة فی أنّ الحکومة ضرورة برة کانت أم فاجرة) یبدو أنّ الروایة الاولی أصح وأنسب وأدق.

هذا وقد ورد فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید ما یوضح العبارة المذکورة «حکم اللّه أنتظر فیکم» : لما رجع علی علیه السلام من صفین إلی الکوفة، أقام الخوارج حتی جموا (جموا بمعنی إستراحوا وکثروا) ثم خرجوا إلی صحراء بالکوفة تسمی حروراء، فنادوا: لا حکم إلّاللّه ولو کره المشرکون: ألا أنّ علیاً ومعاویة أشرکا فی حکم اللّه. فدخل واحد منهم علی علی علیه السلام بالمسجد، والناس حوله، فصاح: لاحکم إلّاللّه ولو کره المشرکون، فتلفت الناس فنادی: لا حکم إلّاللّه ولو کره المتلفتون، فرفع علی علیه السلام رأسه إلیه. فقال: لا حکم إلّاللّه ولو کره أبوحسن. فقال علی علیه السلام: إنّ أبالحسن لایکره أن یکون الحکم للّه، ثم قال: حکم اللّه أنتظر فیکم. فقال له الناس: هلا ملت یا أمیرالمؤمنین علی هؤلاء فأفنیتهم! فقال: إنّهم لایفنون، إنّهم لفی أصلاب الرجال وأرحام النساء إلی یوم القیامة. (1)

تأمّلان

1 - بلاء التحریف

لم یقتصر تأویل الحقائق وتحریف الآیات القرآنیة علی الخوارج بغیة الوصول إلی مآربهم وأهدافهم المشبوهة، بل إذا تصفحنا تأریخ البشریة لوجدنا قضیة تحریف الحقائق من الحراب والوسائل الفعاله التی إعتمدها الظلمة والطواغیت علی مر العصور. فقد مارس هؤلاء أبشع تحریف لکلام اللّه وکلام الأنبیاء والأولیاء وفسروها حسب أهوائهم وهم ینشدون هدفین: الهدف الأول خداع الناس والآخر خداع أنفسهم. وما قضیة النمرود مع نبی اللّه إبراهیم علیه السلام وفرعون مع موسی علیه السلام والتی تطرقت لها أغلب الآیات القرآنیة فی سورة البقرة وطه وسائر السور منک ببعید فقد کانوا یقولون کلمات حق ولا یریدون بها سوی الباطل من أجل خداع من حولهم والتغریر بهم. ونشاهد الیوم أبشع صور هذا التحریف وکلمات الحق التی یراد بها

ص:279


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 310. [1]

الباطل من قبیل کلماتهم فی الحریة والدیمقراطیة والکرامة الإنسانیة وحقوق الإنسان والثقافة والحضارة والمدنیة ومکافحة الارهاب وما إلی ذلک من الشعارات التی تلقلق بها ألسنة الطواغیت والجبابرة، ولا یریدون بها سوی الباطل، بل هنالک منافسة کبری بین هؤلاء الطغاة فی إنتخاب الشعارات البراقة الأکثر تأثیراً وخداعاً من أجل نیل أهدافهم المشؤومة. ومن هنا تشتد وظیفة العلماء الاعلام فی ضرورة تنبیه الاُمّة إلی عظم الأخطار المحدقة وضرورة التحلی بالیقظة والوعی وعدم الانزلاق وراء هذه الشعارات الزائفة لیرفعوا من مستوی الاُمّة الثقافی فلا تنطلی علیها خدع الاستکبار وألاعیبه.

2 - ضرورة تشکیل الحکومة

اشارة

إنّ مسألة تشکیل الحکومة تعد من المسائل التی کثر الحدیث فیها الأوساط العملیة علی المستوی النظری دون أن یتسرب الشک إلیها علی المستوی العملی قط. فقد شهدت البشریة طیلة التأریخ قیام الحکومة سواء کانت قبیلة یتزعمها رئیس القبیلة أو هذه الحکومات الطبیعة التی یترأسها الملک والسلطان والحاکم، حتی تجلت الیوم بهذا الشکل الجماهیری فأصبح یقودها رئیس الجمهوریة، ولا یحتاج قیامها إلی دلیل فالمجتمع مهما کان حجمه إنّما یحتاج إلی الأمن والاستقرار ورعایة الحقوق والحیلولة دون نشوب النزاعات والخلافات، ولا تتیسر مثل هذه الاُمور إلّافی ظل الحکومة ووجود الحاکم. وقد أتضحت هذه المسألة الیوم أکثر فی المجتمعات المعاصرة، فهنالک الفعالیات والأنشطة الثقافیة والاقتصادیة والسیاسیة التی لا یکتب لها النجاح لولا الاشراف المباشر من قبل الحکومة، بل الحکومة هی تبلور هذه الأنشطة أن ترکت ممارستها وتنفیذها لأبناء المجتمع، إلّاأن هنالک بعض الأفراد والنزعات فی الماضی والحاضر التی تتبنی شعار غیاب الحکومة وعدم الحاجة إلیها وأنّ الشعب قادر علی إدارة شؤونه دون قیام الدولة، بل ذهب المارکسیون أبعد من ذلک لیصرحوا بانّ فلسفة قیام الدولة إنّما تنبع من فکرة حفظ المصالح الطبقیة! والرأسمالیون هم الذین ینهضون بهذه المهمة، فاذا ما أزیلت الفوارق الطبقة فانّ فلسفة تشکیل الحکومة ستنتفی ولا تعد هناک ضرورة لقیامها، إلّاأنّ المارکسیة وسائر النزعات عجزت حتی الآن عن طرح

ص:280

نموذجها العملی فی المیدان؛ الأمر الذی یؤکد خواء هذه النزعات وإقتصارها علی الجوانب النظریة، لقد تناسی أصحاب هذه النظریات أنّ وظیفة الدولة والحکومة - ولو سلنا لما ذکروه - لاتقتصر علی حفظ المصالح الطبقیة، بل هنا لک سلسلة من البرامج الاجتماعیة والمشاریع والمخططات المرتبطة بکافة الأفراد فی جمیع المجالات والتی تنهض بعبئها الدولة. فالتربیة والتعلیم ضروریة لجمیع الطبقات، فهل یمکن القیام بهذه الوظیفة دون برمجة وإختیار من ینهض بمسؤولیة هذا العمل؟ الاُمور الاقتصادیة فی المجتمع فی القطاع الزراعی والصناعی والتجاری والتی یتطلب کل حقل منها تخطیط شامل وکامل وتحتاج إلی إدارة صحیحة ووزیر، قطاع الصحة المرتبط بکافة أبناء الشعب والذی یحتاج بدوره إلی مشاریع وبرامج تخصصیة وإشراف تام، فهل یمکن قیام مثل هذه الاُمور فی حالة غیاب الدولة ناهیک عن النزاعات والخصومات والحاجه إلی البت فی الدعاوی من قبیل الجهاز القضائی والمحاکم، وکل هذه الاُمور هی الاخری لا تحقق إلّافی ظل تشکیل الحکومة، والتی تتقوم برئیس الوزراء أو رئیس الجمهوریة وما شابه ذلک. ومن هنا کانت الاُمم والشعوب رغم اختلاف أفکارها وعقائدها، إلّاأنّها تتبنی نوعاً من أنواع الحکومة. وهذا هو الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی الخطبة کما تطرق إلی ذکر الوظائف الملقاة علی عاتق الحاکم، کما قال فی موضع آخر بهذا الشأن «سلطان ظلوم خیر من فتنة تدوم» (1)حیث أشرنا سابقاً إلی أنّ الحکومات مهما کانت ظالمة متجبرة الا أنّها تسعی لأن تراعی جانب الأمن والعدل وما إلی ذلک، مع العلم أنّها قد تظلم إلّاأنّها علی الأقل لا تدع الآخرین یمارسون الظلم، فالحکومة عادلة کانت أم ظالمة لن تدوم فی ظل الفوضی والاضطراب، وأنّها تؤول لا محالة إلی السقوط الانهیار، ومن هنا فانّ کافة الحکومات تسعی للحیولة دون الهرج والمرج وتقدم مشاریعها من أجل البناء والعمران، ولعل هذا المعنی یتجسد فی ما أشار إلیه الحدیث المعروف «الملک یبقی مع الکفر و لا یبقی مع الظلم» .

ص:281


1- 1) میزان الحکمة 1 / 98.
خطأ إبن أبی الحدید

قال ابن أبی الحدید فی تعلیقه علی هذه الخطبة: هذا نص صریح منه علیه السلام بانّ الإمامة واجبة وقد إختلف الناس فی هذه المسألة فقال المتکلّمون: کلمة الإمامة واجبة؛ إلّاما یحکَی عن أبی بکر الأصَمّ من قدماء أصحابنا أنّها غیرُ واجبة؛ إذا تناصفت الأمّة؛ ولم تتظالم.

وقال المتأخّرون من أصحابنا: إنّ هذا القول منه غیرُ مخالف لما علیه الأمّة؛ لأنه إذا کان لا یجوز فی العادة أن تستقیم أمورُ الناس من دون رئیس یحکم بینهم؛ فقد قال بوجود الرئاسة علی کلّ حال؛ اللّهم إلّاأن یقول: إنّه یجوز أن تَستَقیم أمورُ الناس من دون رئیس؛ وهذا بعید أن یقوله: فأما طریق وجوب الإمامة ما هی؟ فإن مشایخَنا البصرییّن رحمهم اللّه یقولون طریق وجوبها الشرع، ولیس فی العقل ما یدلّ علی وجوبها.

وقال البغدادیون وأبو عثمان الجاحظ من البصریین، وشیخنا أبو الحسین رحمه اللّه تعالی: إنّ العقلَ یدلّ علی وجوب الریاسة؛ وهو قول الإمامیة، إلّاأنّ الوجه الذی منه یوجب أصحابنا الرئاسة غیر الوجه الذی توجب الإمامیة منه الرئاسة، وذاک أنّ أصحابنا یوجبون الرئاسة عَلَی المکلّفین، من حیث کان فی الریاسة مصالح دنیویة، ودفع مضارّ دنیویة. والإمامیة یُوجبون الرئاسة عَلَی اللّه تعالی، من حیث کان فی الرئاسة لُطْف وبعدٌ للمکلّفین عن مواقعة القبائح العقلیة.

والظاهر من کلام أمیرالمؤمنین علیه السلام یطابِق ما یقوله أصحابنا، ألاَ تراه کیف علّل قوله: «لا بدَّ للناس من أمیر» ، فقال فی تعلیله: یُجَمع به الفیء، ویقاتَل به العدوّ وتؤمَن به السُّبل، ویؤخذ للضعیف من القویّ! وهذه کلّها من مصالح الدنیا.

فإنْ قیل: ذکرتم أنّ الناس کافّة قالوا بوجوب الإمام، فکیفَ بقول أمیرالمؤمنین علیه السلام عن الخوارج إنّهم یقولون: «لا إمرة» .

قیل: إنّهم کانوا فی بدء أمرهم یقولون ذلک، ویذهبون إلی أنّه لا حاجةَ إلی الإمام، ثم رجعوا عن ذلک القول لما أمّروا علیهم عبدَاللّه بن وهب الرّاسبیّ.

ویبدو أن خطأ إبن ابی لاحدید نابع من حصره الوظائف السبع التی ذکرها أمیرالمؤمنین علیه السلام کهدف للحکومة بالمصالح المادیة، والحال أنّ العبارة «یعمل فی إمرته الؤمن»

ص:282

إنّما تعالج المسائل المعنویة، لأنّ عمل المؤمن یهدف الآخرة - علی کل حال وعلی فرض أنّ لکافة هذه الاُمور صبغة مادیة، فانّ کلام الإمام علیه السلام یدور حول محور إمارة الناس وحکومتهم التی تشکل أحد الأبعاد الوجودیة للإمام المعصوم، لأنّ عقیدة علماء الإمامیة ومتکلمیهم فی الإمام إنّه الحاکم فی اُمور الدین والدنیا والهادی إلی اللّه ومفسّر القرآن ومبین أحکامه وأعماله حجة علی الناس، ومن هنا لابدّ أن یکون معصوماً، ومعلوم أن المعصوم لا یعرف سوی اللّه، ولذلک یعتقدون أن الإمام ینصب من جانب اللّه وقد أجاب بعض شرّاح نهج البلاغة علی کلام إبن أبی الحدید بأنّ الخطبة تعالج قضیة نصب الأمیر ولیست لها صلة بنصب الإمام من اللّه ولذلک قال علیه السلام «لابدّ للناس من أمیر بر أو فاجر» ونعلم أن الامیر الفاجر لایمکن أن یکون إماماً. الا ان ما أوردناه هو الجواب فی أن الامارة جزء من مسؤولیات الإمام (لابدّ من الدقة فی الأمر،) والشاهد علی ذلک أن متکلمینا ذکروا فی کتبهم العقائدیة المصالح الدنیویة وما ورد فی هذه الخطبة حین ذکرهم لأدلة وجوب نصب الإمام. بعبارة اُخری فان الشیعة لاتری الامرة منفصلة عن الإمامة، أما الاذعان لامرة الفاجر فلیست علی أساس أنّها هدف نهائی، بل یدفع إلیها الاضطرار حین تتعذر حکومة الإمام المعصوم.

ج ج

ص:283

ص:284

الخطبة الحادیة و الاربعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها ینهی عن الغدر ویحذر منه

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی ثلاثة أمور مهمّة: الأول: أهمیة الوفاء وصدق الحدیث، وذم ناقضی العهد، الثانی: أنّ الخداع والغدر والخیانة لیست من العقل والذکاء کما یظن ذلک الغدرة الفجرة. والعقل والفطنة فی الصدق والوفاء بالعهد.

الثالث: ضرورة إغتنام الفرص من أجل المبادرة إلی الآخرة والوفاء بالعهود والالتزام بالمواثیق.

ج ج

ص:285


1- 1) رواها ابن طلحة الشافعی فی مطالب السئوال، صحیح أنّ ابن طلحة الشافعی عاش بعد السید الرضی إلّاأنّ روایة أبن طلحة تفید أنّه عثر علیها فی مصدر غیر نهج البلاغة. ورواها الجاحظ فی رسالة المعاش والمعاد وقال فی مطلع الخطبة «الصدق والوفاء تؤامان» وهذا یدل علی أنّه رأها فی المصادر التی صنفت قبل الرضی (لأن الجاحظ عاش أوائل القرن الثالث بینما یعتبر السید الرضی من کبار علماء أواخر القرن الرابع) مصادر نهج البلاغة 1 / 440.

ص:286

«أَیُّها النّاسُ، إِنَّ الْوَفاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَلا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَی مِنْهُ وَما یَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ کَیْفَ الْمَرْجِعُ. وَلَقَدْ أَصْبَحْنا فِی زَمانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَکْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ کَیْساً وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِیهِ إِلَی حُسْنِ الْحِیلَةِ. ما لَهُمْ قاتَلَهُمُ اللّهُ! قَدْ یَرَی الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِیلَةِ وَدُونَها مانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللّهِ وَنَهْیِهِ، فَیَدَعُها رَأْیَ عَیْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَیْهَا، وَیَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لا حَرِیجَةَ لَهُ فِی الدِّینِ» .

الشرح والتفسیر

لم یذکر شرّاح نهج البلاغة - حسب علمنا - سبب إیراد هذه الخطبة، إلّاأنّ الرابطة المعنویة بین هذه الخطبة والخطبة رقم 35 وسائر القرائن تشیر إلی انّ هذه الخطبة ناظرة لمعرکة صفین وقضیة التحکیم، لأنّ مسألة التحکیم المأساویة إتخذت أبعاداً واسعة فی البحث والنقاش بین صفوف المسلمین - ولعل بعض الجهال نسب مکر عمرو بن العاص وخیانته وغدره إلی الکیاسة والفطنة؛ الأمر الذی قد یشجع الآخرین لممارسة مثل هذه الأعمال الشائنة البعیدة عن الإسلام وتعالیمه الحقة، ومن هنا خطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة لیقبر هذه الأفکار المنحرفة ویحد من شیاعها بین الناس، ثم عرض بالذم إلی المکرو والخدیعة ونقض المیثاق وأشار إلی العواقب الوخیمة التی تفضی إلیها هذه الأعمال ثم أثنی علی الوفاء والصدق فقد إستهل الخطبة بخطاب الجمیع «أیها الناس إن الوفاء توأم (1)الصدق» . التوأم بمعنی الذی یولد مع الآخر فی حمل واحد، ویستعمل بشأن کل شیئین یرتبطان معا برابطة وثیقة، ومن هنا فقد شبه الإمام علیه السلام فضیلتی الوفاء والصدق بالتوأم ولعل التمعن فی مفهوم هاتین الصفتین ومصدرهما الفکری

ص:287


1- 1) «توأم» من مادة «وئام» بمعنی الموافقة حسبما صرح بعض أرباب اللغة، بینما ذهب البعض کصاحب المقاییس إلی أنّ التاء أصلیة، واتئام ( مصدر باب إفعال) بمعنی ولادة أحد مع الآخر من حمل واحد.

الروحی یفید أنّ الأمر کذلک، فالوفاء یعنی الالتزام بالعهد، وهو فی الواقع نوع من الصدق، کما أنّ الصدق نوع من الوفاء. والصدق ذو معنی واسع وشامل لایقتصر علی الحدیث، بل یشمل العمل أیضا، ومن هنا صرح القرآن قائلا: «مِنَ المُؤْمِنِینَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَیْهِ» (1)فمن الواضح أنّ المراد بصدق العهد فی الآیة هو الصدق فی العمل، ولذلک أردفت بالقول «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضی نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ یَنْتَظِرُ» . ومن هنا تتضح عمق الرابطة بین الوفاء والصدق، فلو أبرم شخص عهداً ونقض عهده فقد کذب، ومن هنا یمکن اعتبار ناقض العهد کاذباً، ولما کان حسن الصدق وقبح الکذب ظاهر لکافة الناس، فانّ الإمام علیه السلام قرن بهما الوفاء بالعهد ونقضه لیتضح حسنهما وقبحهما. ثم تطرق الإمام إلی الآثار الایجابیة للوفاء بالعهد فقال: «ولا أعلم جنة (2)أوقی منه» ، فهذه فی الواقع من أهم آثار الوفاء بالعهد وبرکاته الدنیویة فی أنّه جنّة وثیقة؛ لأنّ أساس الحیاة الاجتماعة یتمثل بالتعاون والتکافل والثقة المتبادلة والالتزام بالعهود والمواثیق الفردیة والاجتماعیة، بعبارة اُخری فانّ الثقة المتبادلة تذلل کثیراً من المصاعب، بینما یتعذر حل هذه المصاعب إذا ما انعدمت الثقة وسلب الاعتماد بین الناس، ولذلک کانت الدعامة الأصلیة للدین تتجسد فی الوفاء بالعهود والمواثیق، حتی ورد فی الحدیث النبوی المعروف «لادین لمن لاعهد له» (3)کما ورد أیضاً «إذا نقضوا العهد سلط اللّه علیهم عدوهم» (4)جدیر بالذکر أن الجنّة بمعنی الدرع الذی یقی أخطار العدو فی میدان القتال. تشبیه الوفاء بهذا الدرع یفید کونه یشکل الوسیلة الدفاعیة تجاه الأخطار الاجتماعیة التی تفرزها حالة الفوضی وعرقلة القوانین والمقررات. ثم أشار علیه السلام إلی أبعاده المعنویة والاُخرویة فقال «وما یغدر من علم کیف المرجع» ؛ الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی نهج البلاغة بقوله «لولا کراهیة الغدر لکنت من أدهی الناس، ولکن کل غدرة فجرة، وکل فجرة کفرة ولکل

ص:288


1- 1) سورة الأحزاب / 23. [1]
2- 2) «جنة» علی وزن «غصة» بمعنی الدرع واشتقت فی الأصل من مادة جن علی وزن فن بمعنی الستر ومنه المجنون، کما تطلق الجنة علی البستان کأنه تغطی بالأشجار، ومنه الجنین المغطی برحم الأم وإطلاق الجن علی تلک الجماعة لخفائها.
3- 3) نوادر الرواندی / 5.
4- 4) بحارالأنوار 97 / 46. [2]

غادر لواء یعرف به یوم القیامة» (1). ولما کان انحراف المجتمع عن المبادئ الأخلاقیة یقود إلی تنکر القیم وتبدلها، حتی یعد العهد والمکر والخداع کیاسة والالتزام بالعهود سذاجة وبلاهة فقد قال الإمام علیه السلام «ولقد أصبحنا فی زمان قد إتخذ أکثر أهله الغدر کیساً ونسبهم أهل الجهل فیه إلی حسن الحلیة» ! نعم فانّ قیم المجتمع إذا تنکرت بفضلها المعیار والمحک للحسن من القبیح فانّ ظهور مثل هذا الخلط لایبدو مستغرباً، فمن الطبیعی أن یصبح المعروف منکراً، والمنکر معروفاً، والملک شیطاناً والشیطان ملکاً وقدیساً. وممّا یؤسف له أنّ هذه الظاهرة قد تفشت وبشکل واسع فی عالمنا المعاصر فقد ینظر إلی الثعالب المکرة فی السیاسة العالمیة علی أنهم الساسة المهرة، بینها یرمون بالسذاجة وانعدام التجربة من یلتزم بالعهود والمواثیق ویراعون القیم الإنسانیة والإلهیة فی سیاستهم، وما أصعب العیش فی مثل هذا العالم، وبالطبع فانّ نقض العهود واعتماد الکذب والخداع قد یجر علی صاحبه بعض المنافع علی المدی القریب ویحظی بمدیح هذا وثناء ذاک، إلّاأنّ المفروغ منه أن عری المجتمع إنّما تؤول إلی التصدع والانهیار علی المدی البعید. ومن هنا فان الأفراد من أهل الإیمان والوفاء إنّما یسعون لتحصین أموالهم وحفظ ثرواتهم من خلال الامانة وإحترام العهد فی المعاملة، والدولة هی الاُخری مدعوة لرعایة هذا الأمر من أجل کسب ثقة سائر البلدان واستقطابها لضمان مصالح البلاد الاقتصادیة. ومن هنا صرحت الروایة «الأمانة تجلب الغنی والخیانة تجلب الفقر» . (2)ولا شک أنّ هناک رابطة حمیمة بین الأمانة والوفاء، رغم کونهما مفهومین منفصلین، ولذلک قال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «الأمانة والوفاء صدق الأفعال» (3). قال أحد أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ویدعی عبدالرحمن بن سبابه: ساءت حالی بعد وفاة أبی فلما حججت البیت رأیت الإمام الصادق علیه السلام فقال لی: أعظک؟ قلت بلی جعلت فداک، قال: «علیک بصدق الحدیث وأداء الامانة تشرک الناس فی أموالهم هکذا - وجمع بین أصابعه - قال فحفظت ذلک عنه، فزکیت ثلاثمأة ألف درهم» . (4)

ص:289


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 200. [1]
2- 2) بحارالانوار 72 / 114. [2]
3- 3) غرر الحکم ح 83 - 2.
4- 4) فروع الکافی 5 / 124. [3]

ثم رد علیه السلام علی من إتهمه بعدم العلم بالسیاسة فقال: «ما لهم قاتلهم اللّه قد یری الحول (1)القلب وجه الحیلة ودونها مانع من أمر اللّه ونهیه، فیدعها رأی العین بعد القدرة علیها» أمّا ذلک الذی لایتورع عن الذنب والمعصیة وعدم الإکتراث للدین فانّه ینتهز الفرصة لیفعل ما یشاء فیراه البلهاء سیاسیا ناجحا «وینتهز (2)فرصتها من لاحریجة (3)له فی الدین» فالإمام علیه السلام یقول إنّ عدم استغلالی للفرص الغدرة من أجل التفوق علی العدو لایعنی عدم علمی بالاُمور، بل ذلک یعنی أنی أخاف اللّه، وإنّی لا عتمد الورع والتقوی والعدل حتی مع أعدی أعدائی، ولا أری الغایة تبرر الوسیلة، بل لا أومن بالنصر کیفما کانت قیمته وثمنه، إلّا أنّ أعدائی لا یراعون أی من هذه المبادئ، فهم یقارفون کل جنایة ولا یتورعون عن أیة جریمة، فلا یقیمون وزناً لدماء الأبریاء، ولا یتحرجون من الظلم والعدوان، ولا یلتزمون بالعهود والمواثیق، نعم لیس لهم من هم سوی تحقیق أهدافهم اللامشروعة بأیة وسیلة. فاذا رأی الناس تصرفاتهم وتحرجی عدوهم ساسة أکفاء، والحال ما هم ساسة وأنّهم لحفنة من الظلمة الذین یفتقرون إلی الورع والتقوی.

السیاسة الإلهیة والشیطانیة

إن الاختلاف فی الاسالیب السیاسیة إنّما تفرزه الرؤی بشأن الحکومة، فالسیاسة التی ینتهجها اُولئک الذین ینشدون الحکومة من أجل ضمان مصالحهم الشخصیة أو الفئویة، تختلف عن السیاسة التی یتبعها اُولئک الذین لایرون فی الحکومة سوی وسیلة لحفظ القیم والمثل. فالحکومات السابقة کانت تتصف بالدکتاتوریة المقیتة التی تتکرس فی فرد واحد مستبد غاشم یسعی جاهداً لتحقیق مآربه وإشباع رغباته وضمان مصالح بطانته معتمداً منطق القوة والعنف من أجل ترسیخ دعائم حکومته فلا یری من حرمة لقیم ومثل سوی تلک التی تخدم

ص:290


1- 1) - الحول القلب بضم الاول وتشدید الثانی هو البصیر بتحویل الاُمور وتقلیبها.
2- 2) «ینتهز» من مادة «إنتهاز» بمعنی الإقدام علی عمل، کما یعنی الاستفادة التامة من الفرصة.
3- 3) «حریجة» من مادة «حرج» بمعنی التحرج والتحرز من الآثام، ویأتی الحرج أحیاناً بمعنی الذنب.

مصالحه أمّا الیوم فالحکومات وإن تغیّرت شکلاً، إلّاأنّ جوهرها وماهیتها لم تختلف کثیراً عن تلک التی کانت سائدة فی الماضی، وان کان المعروف عن هذه الحکومات إقتحامها المیدان کفئات وأحزاب. علی سبیل المثال فانّ الأحزاب هی التی تمسک بزمام الاُمور فی البلدان الصناعیة المعاصرة، بحیث یسعی کل حزب لضمان مصالحِ فئة معینة، ثم یعتمد کافة الوسائل من أجل الحصول علی أکثر عدد من الآراء بغیة الوصول إلی الحکومة، فاذا تسلموا الحکومة، أتوا بالأفراد الذین یعملون علی ترسیخ دعائم حکومته وبالطبع فانّ مثل هذه الحکومات قد تتبنی بعض الشعارات من قبیل حقوق الإنسان وحریة المرأة وأحیاناً یطرحون بعض المسائل الأخلاقیة، إلّاأنّهم یعلمون کما یعلم الاخرون أنّهم لیسوا جادین فی ما یقولون، فاصواتهم عادة ما تتعالی بحجة أن البلد الفلانی - إذا کان من أعدائهم - قد إنتهک حقوق الإنسان، وان کان من أصدقائهم فقد یحظی بتأییدهم ودعمهم وإن انتهک تلک الحقوق الف مرة کل یوم - وفی مقابل هذه الحکومات، هنالک حکومة الأنبیاء والأولیاء التی لا تعرف المصالح الفردیة ولا الفئویة، وهی قائمة علی أساس القیم والمثل. فالحکومات السابقة تصرح علنا بتعذر الجمع بین السیاسة والأخلاق، وعلیه فالحاکم الذی یراعی المبادئ الاخلاقیة إنّما یفتقر فی الواقع حسب ظنهم إلی العقل السیاسی؛ وسوف لن یکتب لحکومته الدوام والاستمرار، فالغایة تبرر الوسیلة، وکل ما یقرب من الهدف فهو حسن ومطلوب. بینما تری الحکومة الأخیرة ان شعارها یتکرس فی «إنّما بعثت لاُتمم مکارم الأخلاق» (1)أو «لو لا. . . ما أخذ اللّه علی العلماء أن لایقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلوم. . .» (2)أو «وإنّما خرجت لطلب الإصلاح فی اُمّة جدی صلی الله علیه و آله» (3)ومن الطبیعی أن یکون هناک بوناً شاسعاً بین سیاسة الحکومات بالمعنی الأول والحکومات الإلهیة، بل هناک تعارض وتضارب بینهما فالطائفة الاولی تضحی بکل القیم وتذبحها من أجل الوصول إلی دفة الحکم، بینما تخلت الطائفة الثانیة بشهادة التأریخ عن الحکومة من أجل الحفاظ علی القیم والمثل. وهذا ما وضحه الإمام علیه السلام فی الخطبة «واللّه ما معاویة بأدهی منی ولکنه یغدر ویفجر ولولا کراهیة الغدر لکنت من

ص:291


1- 1) کنز العمال 3 / 16 ح 5217.
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 3. [1]
3- 3) بحارالانوار 44 / 329. [2]

أدهی الناس» (1)وقال علیه السلام: «أتأمرونی أن أطلب النصر بالجور فیمن ولیت علیه؛ واللّه لا أطور به، ما سمر سمیر، وما أم نجم فی السماء نجماً» (2)والاختلاف بین هاتین الرؤیتین فی السیاسة الإلهیة والسیاسة الشیطانیة هو الذی یجعل بعض الأفراد یشکلون أحیاناً علی الساسة الربانیین ویحملون أعمالهم علی السذاجة وعدم المعرفة بفنون السیاسة، بینما یغفلون عن حقیقة کبری وهی أنّ هؤلاء الأفراد إنّما یحثون السیر إلی عالم آخر لا تجیز مبادئه وضوابطه التشبث بأی أسلوب وطریقة. فمثلاً لما غلب معاویة أهل العراق علی الماء منعهم منه، فلما حمل أهل العراق إنکشف أهل الشام عن الماء، وملک أهل العراق المشرعة - فقال أصحاب علی علیه السلام: أمنعهم الماء یا أمیرالمؤمنین کما منعوک - فقال: «لا، خلوا بینهم وبینه، لا أفعل ما فعله الجاهلون. (3)والّا عجب من ذلک عدم إلتفات رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی أصحابه الذین أشاروا علیه بمنع الیهود الماء حین محاصرة قلاع خیبر فلم یجبهم صلی الله علیه و آله» (4)ویتعجب أولئک الغافلون حین یسمعون مسلم بن عقیل وقد إمتنع عن قتل إبن زیاد غیلة فی دار هانئ بن عروة قائلاً: «الإیمان قید الفتک» (5). أضف إلی ذلک فانّ علیاً علیه السلام إمتنع عن قتل عمرو بن العاص فی صفین حین کشف عن عورته. فکل هذه الاُمور لایرونها تنسجم والسیاسة، بل السیاسی الفذ فی نظرهم من یدافع عن العهدو والمواثیق ویلتزم بالمبادئ إذا کانت تجری لصالحه، وإلّا فلابدّ أن یضربها جمیعا عرض الحائط. فالسیاسی الورع والمتقی یری النصر علی الأعداء إنّما یحتل الدرجة الثانیة، والدرجة الاولی تتمثل بحفظ المبادئ ورعایة القیم والمثل. والجدیر بالذکر ما أورده ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة حین تحدث عن مروءة ووفاء أحد أحفاد الإمام الحسن المجتبی علیه السلام هو إبراهیم بن عبداللّه فقال: «وکان لغیر إبراهیم علیه السلام من آل أبی طالب من هذا النوع أخبار کثیرة، وکان القوم أصحاب دین لیسوا من الدنیا بسبیل، وإنّما یطلبونها لیقیموا عمود الدین بالامرة فیها، فلم یستقم لهم، والدنیا إلی أهلها أمیل» .

ص:292


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 200، [1] وروی عنه علیه السلام أنّه قال: «لولا التقی - أو لولا الدین والتقی لکنت أدهی العرب» . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 28. [2]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 126. [3]
3- 3) تأریخ الطبری 3 / 569. [4]
4- 4) سید المرسلین 2 / 408 تقلاً عن السیرة الحلبیة 3 / 40. [5]
5- 5) بحارالانوار 44 / 344. [6]

الخطبة الثانیة و الاربعون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

وفیه یحذر من اتباع الهوی وطول الأمل فی الدنیا.

نظرة إلی الخطبة

أورد الإمام علیه السلام هذه الخطبة علی ضوء نقل نصربن مزاحم فی کتاب صفین بعد موقعة الجمل حین ورد علیه السلام الکوفة، وهی تعالج غرور الأفراد وطمعهم بعد تحقیق النصر ولا سیما إن کانت هناک غنائم؛ الأمر الذی یثیر حفیظة البعض للتکالب علی الدنیا وبالتبع یتطلع إلی المزید من کان له دور أکبر فی المعرکة والحصول علی الغنائم. فهدف الإمام علیه السلام تحذیر الناس وتذکیرهم بالأهداف المعنویة التی قاتلوا من أجلها، کما یحذرهم من رذیلتی إتباع الهوی وطول الأمل الذان یصدان عن الحق وینسیان الآخرة. ثم یؤکد الإمام علیه السلام علی قصر عمر الدینا وضرورة إغتنام الفرص فیها من أجل العمل الصالح والتزود للآخرة، حیث یوجز هذا الأمر الحیوی بعبارات قصیرة بلیغة المعنی.

ج ج

ص:293


1- 1) سند الخطبة: وردت هذه الخطبة بعدة أسناد. رواها قبل السید الرضی (ره) نصر بن مزاحم فی کتاب صفین والشیخ المفید فی المجالس والمسعودی فی مروج الذهب. وقال نصر بن مزاحم دخل الإمام علیه السلام الکوفة بعد معرکة الجمل فأسرع قرّاء الکوفة وأشرافها لإستقباله. فدخل المسجد وصلی رکعتین ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنی علیه وصلی علی رسوله ثم خطب الخطبة.

ص:294

القسم الأول

«أَیُّها النّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَیْکُمُ اثْنانِ: اتِّباعُ الْهَوَی وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمّا اتِّبَاعُ الْهَوَی فَیَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمّا طُولُ الْأَمَلِ فَیُنْسِی الْآخِرَةَ» .

الشرح والتفسیر

أوردنا سابقاً أنّ الإمام علیه السلام خطبها بعد الجمل حین ورد الکوفة، بهدف الحد من الغرور الذی تفرزه طبیعة النصر والتنافس علی غنائم المعرکة، فقال علیه السلام: «أیّها الناس إن أخوف ما أخاف علیکم إثنان: إتباع الهوی وطول الأمل، فأمّا إتباع الهوی فیصد عن الحق، وأمّا طول الأمل فینسی الآخرة» . والعبارة الآخیرة مهمّة ذات أثر بالغ فی مصیر الاُمّة، بحیث ورد التأکید علیها فی أحادیث النبی صلی الله علیه و آله، کما أشار إلیه الإمام علیه السلام سابقاً فی الخطبة الثامنة والعشرین» . (1)ویتضِح من معنی مفردة الهوی التی تشیر إلی أهواء ورغبات النفس الأمارة باللذات الدنیویة دون الحدود والقیود مدی صدها الإنسان عن الحق ومنعه من بلوغه، لأنّ الهوی حجاب علی العقل یحول دون إدراک الحقائق ومشاهدتها، بینهما یزین له هذا الهوی الباطل لیبدیه له أنصع من الحق، فی حین یشوه له الحق ویظهره له کابشع صورة للباطل، وقد لمست هذه الحقیقة کثیراً خلال تجربتی ومطالعتی لسیرة الماضین فی کیفیة تبریر أتباع الهوی لبعض صور الحق والباطل وتغییر هویتهما. وأما طول الأمل فیستقطب جمیع طاقات الإنسان وقواه حتی ینسیه الآخرة، ولما کانت قوی الإنسان محدودة فانّه یستهلکها فی الآمال الکاذبة اللامتناهیة بحیث لا یبقی لنفسه من قوة یدخرها للآخرة، ولا سیما أنّ الامال لا تعرف للنهایة

ص:295


1- 1) بحارالانوار 74 / 188 (مع اختلاف طفیف) وبحارالانوار 70 / 90 - 91 مع فارق ضئیل جداً.

من معنی، وتقتضی طبیعتها أن یتجه الإنسان إلی الاُخری فور ظفره بالاولی حتی یجند نفسه علی الدوام بغیة الظفر بها جمیعا، بل إن تحقیقه لأمل ربما یدفعه لآخر، لأنّ الآمال عادة مترابطة مع بعضها البعض، وعلی هذا الضوء فسوف لن یبقی لدیه من وقت کما لا تبقی له من قوة، وبالتالی سوف لن یمتلک الدفاع نحو الآخرة. وبالطبع فانّه لن یفیق من غفلته حتی یصفعه الموت، وقد ولی العمر وتصرمت أیامه وفرصه فلم یظفر بأماله ولم یدرک آخرته. وما أروع ما قال أبو العتاهیة حین دعی لإنشاد الشعر بحضرة هارون حین أراد أن یفتتح له قصراً جدیداً فی مصر:

عش ما بدا لک سالماً فی ظل شاهقة القصور یهدی إلیک بما اشتهیت لدی الرواح وفی الکبور حتی إذا تزعزعت النفوس ودحرجت فهناک تعلم موقناً ما کنت إلّافی غرور. (1)

فشعر من حول هارون بالامتعاظ من هذه الأبیات علی أنها لا تنسجم والمناسبة، إلّاأنّ هارون مدحه وأثنی علیه.

وقد علق بعض شرّاح نهج البلاغة علی أنّ طول الأمل ینسی الآخرة وذلک لأنّ هذا الفرد یغتر بمظاهر الدنیا ویری فی الموت الوسیلة التی تقطعه عن هذه الدنیا، فینسی المعاد ویوم القیامة جدیر بالذکر أنّ للأمل دور إیجابی فی حیاة الإنسان والذی عبر عنه القرآن بالرجاء، ولاسیما إذا کان مقرونا بالتوکل علی اللّه.

ص:296


1- 1) الأنوار النعمانیة 3 / 114. [1]

القسم الثانی

اشارة

«أَلا وَإِنَّ الدُّنْیا قَدْ وَلَّتْ حَذّاءَ؛ فَلَمْ یَبْقَ مِنْها إِلاَّ صُبابَةٌ کَصُبابَةِ الْإِناءِ اصْطَبَّها صابُّها. أَلا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِکُلٍّ مِنْهُما بَنُونَ. فَکُونُوا مِنْ أَبْناءِ الْآخِرَةِ وَلا تَکُونُوا مِنْ أَبْناءِ الدُّنْیا. فَإِنَّ کُلَّ وَلَدٍ سَیُلْحَقُ بِأَبِیهِ یَوْمَ الْقِیامَةِ، وَإِنَّ الْیَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسابَ، وَغَداً حِسابٌ وَلا عَمَلَ» .

الشرح والتفسیر

واصل علیه السلام خطبته التی ابتدأها بذم إتباع الهوی وطول الأمل الذان یصدان عن الحق وینسیان الآخرة، وبالتالی یحولان دون سعادة الإنسان وفلاحه، لیقدم تحلیلاً رائعاً عن أوضاع الدنیا والآخرة فقال «ألا وإنّ الدنیا قد ولت حذاء (1)، فلم یبق منها إلّاصبابة کصبابة (2)الاناء إصطبها صابها» .

فقد شبهت الدنیا هنا بالکائن الذی یعود بسرعة إلی مسیرته، الأمر الذی یفید حقیقة الحرکة السریعة لعمر الإنسان، الحرکة الخارجة عن إرادة الإنسان وتشمل کافة الکائنات الحیة سوی الذات الإلهیة المطلقة، ولا یستثنی من تلک الحرکة الکواکب والمجرات والسموات والارضین لتنتهی إلی الفناء والزوال الدنیوی لیکون نافذة علی عالم الخلود والبقاء. فالطفولة تتحرک نحو الفتوة والشباب، والفتوة تنطلق نحو الکهولة التی تنتهی بالموت، هذا إذا جرت الاُمور وفق القانون الطبیعی والاقد یتساقط بعض الاطفال والشباب من هذه القافلة لتنتهی

ص:297


1- 1) «حذاء» کما ورد فی تفسیر السید الرضی (ره) وشرّاح نهج البلاغة بمعنی السریع، من مادة حذ علی وزن حظ بمعنی القطع، أو القطع السریع، ثم اطلقت علی کل حرکة سریعة، وحذا مؤنث إحذاً.
2- 2) «صبابة» بالضم البقیة من الماء واللبن فی الإناء، والضمیر فی اصطبها وصابها یعود اِلی الصبابة، لأنّ الإناء مذکر والضمیر المؤنث لا یعود اِلیه.

أعمارهم دون بلوغ الکهولة. فالإمام علیه السلام یقول أنّ عمر الإنسان قصیر قلیل کبقیة الماء واللبن فی الإناء التی تعلق به عند قلبه، أو بعبارة اُخری فانّ الإنسان حین یقلب إناءاً مملوءاً بسائل ثم یعید الإناء إلی وضعه الأصلی إنّما یتبقی فیه مقدار من الماء یطلق علیه الصبابة وهذه فی الحقیقة هی عمر الإنسان ثم قال علیه السلام «ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت» فکلما قصر عمر الدنیا اقتربت الآخرة، فالواقع إننا نرکب قطار الزمان الذی یسیر بسرعة نحو الآخرة، والدقائق والساعات والأیّام والأسابیع والأشهر والسنوات إنّما تکشف عن سرعة مسیرة قطار الإنسانیة بأجمعها، ثم أوضح علیه السلام وظیفة الناس «ولکل منهما بنون فکونوا من أبناء الآخرة، ولا تکونوا من أبناء الدنیا، فانّ کل ولد سیلحق بأبیه یوم القیامة» نعم هناک خطان: خط عبدة الدنیا وخط عشاق الآخرة، وإن کانت هنالک بعض الجماعات المتذ بذ بة بین الخطین. ولا یعرف أبناء الدنیا سوی النوم والأکل والشرب والشهوة والطرب والعیش والملذات، فهم متعلقون بظاهر الدنیا دون أن یکفوا أنفسهم عناء التفکیر فی الآخرة، بل هم عنها عمون «یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الحَیاةِ الدُّنْیا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُون» (1). فکأنّهم مخلدون فی الدنیا ولیس هنا لک من آخرة، فوثقوا بأموالهم وثرواتهم علی أنّها تخلدهم فی دنیاهم «یَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» . أما أبناء الآخرة فقد نظروا بعین العقل والبصیرة إلی الدنیا وأدرکوا أنهم مفارقوها ومرتحلون عنها فلم یطمأنوا إلیها. لقد طلقوها کما طلقها الإمام علیه السلام ثلاثة لارجعة فیها. فقد إتعظوا بالقرآن الذی أوقفهم علی طبیعة خسرانها «وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ * إِلّا الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» . أمّا التعبیر عن عبدة الدنیا بأبناء الدنیا وعن المؤمنین الصالحین بأبناء الآخرة، وذلک لأن الابناء إنّما یشبهون إلی حد کبیر آبائهم واُمهاتهم بفعل الصفات الوراثیة التی تنتقل إلیهم عن طریق الجینات، وهو الشبه الذی یدعو إلی المحبة والإرتباط. نعم عبدة الدنیا أبنائها، ومن هنا أحاط حبّ الدنیا بقلوبهم بحیث أصبحوا لایرون سوی الدنیا ولایجنون سواها، وشعارهم فیها «إِنْ هِیَ إِلّا حَیاتُنا الدُّنْیا نَمُوتُ وَنَحْیا» (2)وإن کانوا ظاهرا یحملون الإسلام. أما أبناء الآخرة فقد سیطر حب اللّه علی

ص:298


1- 1) سورة الروم / 7. [1]
2- 2) سورة الجاثیة / 24. [2]

قلوبهم، فهم یتزودون من الدنیا إلی الآخرة دون أن یغرقوا فیها.

وقال بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد بالعبارة هو أن المؤمنین سیکونون فی الآخرة بمثابة الأبناء الذین یرتمون بأحضان آبائهم، بینما سیکون أبناء الدنیا کالیتامی. إلّاأنّ هذا التفسیر لاینسجم والعبارة «إن کل ولد سیلحق بأبیه یوم القیامة» ، بل یفید هذا التعبیر أن الحیاة الدنیا المادیة لیست سوی الجحیم الذی یرتمی فیه أبناء الدنیا إذا افتقرت إلی الإیمان والتقوی، وهذا ما أشار إلیه القرآن بقوله «فَأُمُّهُ هاوِیَهٌ» . (1)

أمّا إن کانت هذه الحیاة مقرونة بالایمان والتقوی والصبغة الآخرویة فتتجسم یوم القیامة علی هیئة جنّة سیرتمی فی أحضانها المؤمنون. ثم إختتم الإمام علیه السلام خطبته قائلا: «وإنّ الیوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل» فالعبارة تفید من جهة وجود الفرصة من أجل إستزادة العمل الصالح، وإذا ما شوهد المحسنون والمسیئون، والصالحون والطالحون، واولیاء اللّه وأعداء اللّه، وحزب اللّه وحزب الشیطان إلی جانب بعضهم البعض الآخر فی هذه الحیاة الدنیا فذلک لأنّ الدنیا دار عمل لاحساب فیها ولاجزاء وعقاب. ومن جهة اُخری تحذیر بأنّ نهایة العمر فی الدنیا تعنی إغلاق صحیفة الأعمال ولیس هنالک من سبیل للعودة والعمل وتدارک ما فرط، کما لیس للندم من أثر أو فائدة، فقد قال علی علیه السلام «لا عن قبیح یستطیعون إنتقالاً ولا فی حسن یستطیعون إزدیاداً» (2)کما لیس هناک من جدوی لصراخهم «رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّی أَعْمَلُ صالِحاً» (3)کما لا تفیدهم الآمال والأمانی «فَلَوْ أَنَّ لَنا کَرَّةً فَنَکُونَ مِنَ المُؤْمِنِینَ» . (4)

الموت یعنی إغلاق صحیفة الأعمال

ص:299


1- 1) سورة القارعة / 9. [1]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 188. [2]
3- 3) سورة المؤمنون / 99 - 100. [3]
4- 4) سورة الشعراء / 102. [4]

ما ورد فی الخطبة بهذا الخصوص ممّا أکدته الآیات القرآنیة، حتی صرحت بعض الآیات أنّ أبواب التوبة تغلق حین نزول عذاب الاستئصال (من قبیل العذاب الذی إستهدف إجتثاث جذور الأقوام السابقة حین طغت فی الأرض) بحیث لم یعد هناک من مجال لتدراک الأعمال، لأنّ الإنسان فی ظل هذه الظروف إنّما یودع الدنیا وینتقل إلی الآخرة مروراً بالبرزخ، ومن ذلک قوله سبحانه: «فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَکَفَرْنا بِما کُنّا بِهِ مُشْرِکِینَ * فَلَمْ یَکُ یَنْفَعُهُمْ إِیمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّةَ اللّهِ الَّتِی قَدْ خَلَتْ فِی عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِکَ الکافِرُونَ» . (1). کما نعلم بأنّ فرعون لما أدرکه الغرق وشعر بالموت أظهر الإیمان ولکن أغلقت بوجهه کافة أبواب التوبه فاتاه النداء «آلآنَ وَقَدْ عَصَیْتَ قَبْلُ وَکُنْتَ مِنَ المُفْسِدِینَ» (2). ونستتج من هذه الآیات وسائر الایات الواردة بهذا الشأن أنّ هناک سنة إلهیة تفید إغلاق صحیفة الإنسان وانقطاع أعماله حین یکون علی أبواب الموت المحتم، فلیس هنالک من سبیل للعودة والإصلاح. وهنا یبرز هذا السؤال وهو أنّ أغلب الروایات صرحت بأنّ آثار الأعمال الحسنة والسیئة تصل الإنسان بعد موته بحیث تثقل صحیفة أعماله خیرا أم شرا، فقد ورد فی الحدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «سبعة أسباباً یکتب للعبد ثوابها بعد وفاته، رجل غرس نخلاً أو حفر بئرا أو أجری نهراً أو بنی مسجداً أو کتب مصحفاً أو ورث علماً أو خلف ولداً صالحاً یستغفر له بعد وفاته» (3)ومن الواضح أنّ ما جاء فی هذا الحدیث نموذج باراز لأعمال الخیر، أفلا یتنافی هذا الأمر وما ذکر سابقاً؟ والجواب علی هذا السؤال واضح فلیس هنالک من عمل جدید یقوم به الإنسان بعد الموت، لا إنّ آثار الأعمال السابقة لا تصل إلیه. نعم صحیفة الأعمال الجدیدة مغلقة ولا یضاف إلیها شیئا، أما صحیفة أعماله السابقة قبل الموت فهی مفتوحة دائما وإن الإنسان یقطف ثمار عمله الصالح فی البرزخ ویوم القیامة، وتصله حتی الأعمال الصالحة فیما إذا خلف ولداً صالحاً یدعو له ویستغفر له.

ص:300


1- 1) سورة المؤمنون / 84 - 85. [1]
2- 2) سورة یونس / 91. [2]
3- 3) «تنبیه الخواطر» ، ( [3]طبق نقل میزان الحکمة، 3 / 23 - 24 مادة عمل) .

الخطبة الثالثة الاربعون

اشارة

(1)

من کلام له علیه السلام

وقد أشار علیه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جریربن عبداللّه البجلی إلی معاویة ولم ینزل معاویة علی بیعته.

نظرة إلی الخطبة

تشتمل الخطبة علی قسمین یختلف کل منهما عن الآخر، ویبدو أنّ کل منهما قد ورد مستقلاً فی موضعه، الا أنّ السید الرضی (ره) جمعهما لمناسبة - فالقسم الأول یتعلق یقضیة جریربن عبداللّه البجلی الذی کان عاملاً لعثمان علی ثغر همدان. فأمّا خبر جریر بن عبداللّه البجلی وبعث أمیرالمؤمنین علیه السلام إیّاه إلی معاویة، فقد ورد فی الأخبار: لما قدم علیه السلام الکوفة بعد إنقضاء أمر الجمل، کاتب العمال، فکتب إلی جریر بن عبداللّه البجلی. فلما قرأ جریر الکتاب، قام فقال: أیّها الناس، هذا کتاب أمیرالمؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام، وقد بایعه الناس الأولون من المهاجرین والأنصار والتابعین باحسان، ولو جعل هذا الأمر شوری بین المسلمین کان أحقه بها. فقال الناس سمعاً وطاعة. فکتب جریر إلی علی علیه السلام جواب کتابه بالطاعة وکتب علی علیه السلام إلی الاشعث وکان عامل عثمان علی أذربیجان یدعوه إلی البیعة والطاعة. وکتب جریر بن عبداللّه البجلی إلی الاشعث یحضه علی طاعة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وقبول کتابه. فقبل

ص:301


1- 1) وردت هذه الخطبة فی کتابین قبل نهج البلاغة، الأول کتاب صفین لنصربن مزاحم والآخر کتاب الإمامة والسیاسة مع فارق طفیف. أما القسم الثانی فقد رواه ابن عبد ربه فی العقد الفرید. مصادر نهج البلاغة، 1 / 446. [1]

الأشعث البیعة وسمع وأطاع، وأقبل جریر سائراً من ثغر همدان حتی ورد علی علیه السلام الکوفة فبایعه. ولما أراد علی علیه السلام أن یبعث إلی معاویة رسولاً، قال له جریر: إبعثنی یا أمیرالمؤمنین إلیه؛ وأدعوا أهل الشام إلی طاعتک وولایتک فجلهم قومی وأهل بلادی وقد رجوت ألا یعصونی. فبعثه علی علیه السلام. فانطلق جریر حتی أتی الشام ونزل بمعاویة ودفع إلیه کتاب علی علیه السلام. فقال معاویة أنظر وتنظر؛ واستطلع رأی أهل الشام. فکتب له الإمام علیه السلام: إنّما أراد معاویة ألا یکون لی فی عنقه بیعة، وأراد أن یریثک ویبطئک، فان بایعک الرجل، والّا فاقبل. قیل ولما أبطأ جریر عند معاویة إتهمه الناس، فلما سمع جریر ذلک فارق علیاً علیه السلام فلحق بقرقیسیاء (بلد بالخابور عند مصبه» ولحق به ناس من قسر من قومه، واقام فیها حتی توفی. (1)علی کل حال مکث جریر عدّة شهور فی الشام، حتی اقترح أصحاب الإمام علیه السلام علیه قتال أهل الشام، إلّاأنّ الإمام علیه السلام لم یجبهم إلی ذلک وجریر هناک، وأنّه قد وقت وقتاً لجریر، فلابدّ من إنتهاء، ذلک الوقت ومعرفة النتیجة.

القسم الثانی یتناول إصرار الإمام علیه السلام علی قتال أهل الشام، حیث اورد نصربن مزاحم فی کتاب صفین أنّ الإمام علیه السلام قال هذا الکلام لما کلمه أحد جنود الشام اثناء معرکة صفین بالهدنة وترک القتال علی أن یرجع أهل العراق إلی العراق وأهل الشام إلی الشام، فردّ علیه الإمام علیه السلام رداً قاطعاً بمواصلة القتال ثم تطرق إلی أسباب ذلک.

وأخیرا فالقسمان یوضحان بجلاء أن الإمام علیه السلام رجل الصلح والسلام فی ظروف الأمن والاستقرار، فاذا نشبت الحرب کان بطلها المجرب ولیثها الغاضب.

ونتجه بعد هذه المقدمة إلی شرح الخطبة.

ص:302


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 70 - 118 [1] بتلخیص.

القسم الأول: رجل الحرب والسلام

اشارة

«إِنَّ اسْتِعْدادِی لِحَرْبِ أَهْلِ الشّامِ وَجَرِیرٌ عِنْدَهُمْ، إِغْلاقٌ لِلشّامِ وَصَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَیْرٍ إِنْ أَرادُوهُ. وَلَکِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِیرٍ وَقْتاً لا یُقِیمُ بَعْدَهُ إِلاَّ مَخْدُوعاً أَوْ عاصِیاً. وَالرَّأْیُ عِنْدِی مَعَ الْأَناةِ فَأَرْوِدُوا وَلا أَکْرَهُ لَکُمُ الْإِعْدادَ» .

الشرح والتفسیر

کما أوردنا سالفاً فانّ الخطبة بشأن قضیة جریربن عبداللّه حین کان عاملاً لعثمان علی همدان، ثم قدم الکوفة فوجهه الإمام علیه السلام إلی الشام لأخذ البیعة من معاویة، إلّاأنّ فجاج مهمّة جریر کان یبدو ضیعفاً، ومن هنا رأی أصحاب الإمام علیه السلام قتالهم. فأجابهم الإمام علیه السلام قائلاً «إن استعدادی لحرب أهل الشام وجریر عندهم، إغلاق (1)للشام وصرف لأهله عن خیر إن أرادوه» فالعبارة تفید أنّ الإمام علیه السلام بصفته زعیم الدولة الإسلامیة لایری فی الحرب والقتال من وسیلة صحیحة لحل الاختلافات، ولابدّ من إبقاء باب السلام مفتوحاً لاتمام الحجة، فان لم تجد نفعاً، آنذاک تکون الحرب هی العلاج. والطریف فی الأمر أنّ الإمام علیه السلام لایأبه بمعاویة وإنّما یفکر بأهل الشام، فقال «إغلاق للشام» ، ثم أضاف قائلا «وصرف لأهله عن خیر إن أرادوه» فی إشارة إلی عبثیة جر أهل الشام للقتال وصدهم عن الصلح والسلام وإن کانت لکبیرة علی بعض الأفراد المتحمسین، إلّاأنّ الزعیم العالم لاینبغی أن تستمیله العواطف والأحاسیس، فلا یتصرف إلّامن خلال ضبط النفس والعقل والمنطق بما یرتضیه الحق

ص:303


1- 1) إغلاق مصدر من باب إفعال یستعمل عادة فی الأبواب.

سبحانه وتعالی. ثم أزال الإمام علیه السلام الإبهام الذی قد یتسرب إلی عقول هؤلاء الأفراد باستمرار هذه الحالة القلقة فقال «ولکن قد وقت لجریر وقتاً لایقیم بعده إلّامخدوعاً أو عاصیاً» فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام عین مدة بغیة الحفاظ علی مصالح المسلمین وعدم فوات الآوان ومرور الفرصة، فقد کان یعلم أنّ معاویة قد یماطل فی الوقت ویشغل جریر، وأقصی ذلک هو الاهبة والاستعداد للقتال، ثم یرد بالسلب علی دعوة الإمام علیه السلام بالبیعة فی الوقت الذی تسلب الفرصة والمبادرة من الإمام علیه السلام وصحبه. إما لماذا حصر الإمام علیه السلام بقاء جریر عند معاویة باحتمالین؛ الخداع أو العصیان، بینما یمکن أن تکون عرضت له بعض الوقائع من قبیل المرض وما شاکل ذلک، وذلک لأنّ سائر الاحتمالات تبدو ضعیفة لا یکترث بها إزاء هذین الاحتمالین، أو علی حد تعبیر علماء الاصول أنّ الاصل فی مثل هذه الاُمور السلامة، فلا ینبغی ترتیب الأثر علی سائر الاحتمالات. ثم حاول تهدأة خواطر صحبه والتسکین من روعهم فقال «والرأی عندی مع الأناة (1)فأرودوا (2)» . من جانب آخر فانّ الإمام علیه السلام بغیة عدم غفلة أصحابه فی ظل تلک الظروف الحساسة المصیریة، وضرورة الابقاء علی عزمهم الشدید والراسخ فی مجابهة العدو وعدم إطفاء جذوة الحماس للقتال فقال علیه السلام: «ولا أکره لکم الإعداد» ؛ أی أنی لا أعلن حالة التأهب فهذا الأمر یتعارض والصلح والسلام. وفی نفس الوقت لا أحول دون وظیفتکم فی التعبئة الطواعیة، والحق أنّ هذا لأعظم وأنجع اسلوب منطقی وعقلائی فی مثل تلک الظروف العصیبة؟ أی لا تغلق أبواب السلام، ولا یعیش الجمیع حالة الانفعال والغضب، ولا ینبغی أن تقع بعض الأعمال التی تفرزها طبیعة النفاق، وأخیراً لا ینبغی فوات الفرص دون جدوی!

الهدف من الدعوة إلی الصلح والبیعة

إن الإمام علیه السلام وخلافاً لما یعتقده البعض لم یقاتل معاویة، إلّاحین أتم الحجة علیه من کافة الجهات، بحیث لم یکن یلجأ إلی القتال إلّاحین یکون السبیل الأخیر الذی اُغلقت جمیع السبل

ص:304


1- 1) «اناة» بمعین التثبت والتأنی والصبر.
2- 2) «أرودوا» من مادة «رود» علی وزن فوت بمعنی طلب الشیئ بالرفق والمداراة، ومنه الإرادة.

دونه. تفید هذه الخطبة أنّ علیاً علیه السلام لم یستجب للضغوط التی مارسها أصحابه من أجل شروع القتال، وأنّه بذل قصاری جهده بهدف إرساء الصلح والسلام. والرسالة التی بعثها الإمام علیه السلام إلی معاویة بواسطة جریر لتؤکد هذا المعنی. فقد جاء فیها: «إنّه بایعنی القوم الذین بایعوا أبابکر وعمر وعثمان علی ما بایعوهم علیه، فلم یکن للشاهد أن یختار ولا للغائب أن یرد وإنّما الشوری للمهاجرین والأنصار، فان إجتمعوا علی رجل وسموه إماماً کان ذلک للّه رضی، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلی ما خرج منه، فان أبی قاتلوه علی إتباعه غیر سبیل المؤمنین، وولاه اللّه ما تولی. ولعمری یا معاویة، لئن نظرت بعقلک دون هواک لتجدنی أبر الناس من دم عثمان، ولتعلمن أنی کنت فی عزلة عنه إلّاأن تتجنی، فتجن ما بدا لک» . (1)والواقع کان معاویة یعتمد ذریعتین لترک البیعة، الاولی أنّه کان غائباً حین تمت البیعة لعلی علیه السلام، والثانیة أن الإمام علیه السلام مطالب بدم عثمان، فلا یمکن مبایعته، إلّاأنّ الإمام علیه السلام فند هاتین الذریعتین بالدلیل والبرهان فی الرسالة المذکورة، فلم یستجب معاویة بغیة تحقیق أهدافه وأطماعه. علی کل حال وکما ذکرنا أنفاً فانّ جریر عامل عثمان علی همدان أعلن بیعته للإمام علیه السلام ومعه الناس إثر وصول کتاب الإمام علیه السلام. ثم ورد الکوفة وطلب من الإمام علیه السلام أن یوجهه إلی الشام لأخذ بیعة معاویة، لأنّ جل أهل الشام کانوا من قومه وأهل بلده ویطمع إلّایعصون أمره. فاعترض الأشتر وقال للإمام علیه السلام: لا تبعثه ولا تصدقه، فواللّه إنّی لأظن هواه هواهم، ونیّته نیّتهم. إلّاأنّ الإمام علیه السلام إختاره لقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیه: «إنک من خیر ذی یمن» کما لم یبدر منه خلافاً حتی ذلک الحین، ولعله لم یکن هناک من هو أفضل منه. فدفع إلیه الإمام علیه السلام کتابه، وقال له: «إئت معاویة بکتابی، فان دخل فی ما دخل فیه المسلمون، وإلّا فانبذ إلیه واعلمه أنّی لا أرضی به أمراً، وأنّ العامة لا ترضی به خلیفة» . فانطلق جریر حتی أتی الشام، ونزل بمعاویة وأخبره باجتماع مسلمی أهل الحرمین وأهل المصرین والحجاز والیمن ومصر وأهل العروض علی بیعة الإمام علیه السلام ثم قال: فلم یبق إلّاهذه الحصون التی أنت فیها فبایع لعلی علیه السلام. ثم سلمه کتاب الإمام علیه السلام. فلم یستجب معاویة الذی کان شغفاً بالحکومة

ص:305


1- 1) نهج البلاغة، الرسالة 6. [1]

فقام فخطب الناس مطالباً بدم عثمان وأخذ البیعة من أهل الشام للقیام والمطالبة بدم عثمان. فاستحثه جریر بالبیعة. فقال: یا جریر، إنّها لیست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده فابلعنی ریقی. فأشار علیه أخوه بعمرو ابن العاص. وقد وعده النصیحة بعد أن اشترط علیه ولایة مصر. ثم دخل شرحبیل - رئیس الیمینیة وشیخها والمقدم علیها - فتحدث إلی جریر، فأقنعه جریر باتباع علیّ علیه السلام. إلّاأنّ معاویة کتب له کتاباً ودس إلیه الرجال یغرونه بعلی علیه السلام ویشهدون عنده أنّه قتل عثمان، حتی ملئوا صدره وقلبه حقداً وترة وإحنة علی علی علیه السلام وأصحابه، ثم دعاه فی الکتاب لمطالبة بدم عثمان. فتاهب شرحبیل للطلب بدم عثمان، ثم وجهه معاویة إلی الشام لدعوة الناس للمطالبة بدم عثمان وجعل لایأتی علی قوم إلّاقبلوا ما أتاهم به وهنا شعر جریر بالیأس من معاویة، ثم إلتفت معاویة إلی جریر فقال له: إنّی قد رأیت رأیاً، قال: هاته، قال: اُکتب إلی صاحبک یجعل لی الشام ومصر جبایة، فاذا حضرته الوفاة لم یجعل لأحد بعده فی عنقی بیعة، وأسلم له هذا الأمر، واُکتب إلیه بالخلافة. فقال جریر: اکتب ما أردت اُکتب معک. فکتب الإمام علیه السلام إلی جریر: إذا أتاک کتابی هذا فاحمل معاویة علی الفصل، ثم خیره وخذه بالجواب بین حرب مخزیة أو سلم محظیة «ولم یکن اللّه لیرانی اتخذ المضلین عضداً» فتأخر جریر مدّة ولعله کان یطمع فی عودة معاویة إلی رشده، فکثر فیه الکلام. (1)

ص:306


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 70 - 91 [1] بتصرف وتلخیص.

القسم الثانی

اشارة

«وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذا الْأَمْرِ وَعَیْنَهُ، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ، فَلَمْ أَرَ لِی فِیهِ إِلاَّ الْقِتالَ أَوِ الْکُفْرَ بِما جاءَ مُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله. إِنَّهُ قَدْ کانَ عَلَی الْأُمَّةِ والٍ أَحْدَثَ أَحْداثاً، وَأَوْجَدَ النّاسَ مَقالاً، فَقالُوا ثُمَّ نَقَمُوا فَغَیَّرُوا» .

الشرح والتفسیر

یقابل هذا القسم من الخطبة القسم المذکور تماما، أو بعبارة اُخری یمثل المرحلة الثانیة من مراحل المجابهة. فقد کان الإمام علیه السلام یؤکد فی القسم المذکور علی ضرورة ضبط النفس واجتناب القتال، واللجوء إلی منطق السلام والصبر والتحمل. بینما یتحدث هذا القسم بصورة قاطعة حادة عن القتال واللجوء إلی القوة؛ ولا غرو فقد أغلقت جمیع السبل والأسالیب، وثبت بالضرس القاطع أنّ معاویة لا یستسیغ أی منطق واستدلال، ولا یفهم سوی تحقیق مطامعه فی الحکومة التی یضحی من أجلها بالغالی والنفیس. ومن الطبیعی ألا یکون هنالک من سبیل لمواجهة هذا الشخص سوی الاستسلام وتفویض المقدّرات الإسلامیة إلیه، أو شهر السلاح بوجهه وقتاله. ومن هنا قال الإمام علیه السلام: «ولقد ضربت أنف هذا الأمر وعینه، وقلبت ظهره وبطنه، فلم أر لی إلّاالقتال أو الکفر بما جاء محمد صلی الله علیه و آله» . العبارة «ضربت أنف هذا الأمر وعینه» مثل تقوله العرب فی الاستقصاء فی البحث والتأمل والفکر. والعبارة «وقلبت ظهره وبطنه» هی الاُخری کنایة عن دراسة کافة جوانب الموضوع: لأنّ الإنسان إذا أراد أن یشتری بضاعة قلب ظهرها وبطنها لیتعرف علی کافة ممیزاتها. أما قوله علیه السلام «فلم أر لی إلّا القتال أو الکفر بماء جاء محمد صلی الله علیه و آله» فذلک لأنّ الإمام علیه السلام إذا سکت وترک الاُمّة لحالها لقاد ذلک إلی انحراف الناس عن الإسلام واستتباب الحکومة الجاهلیة الأمویة والسفیانیة وإحیاء

ص:307

مبادئ الشرک والوثنیة، وهذا یعنی تجاهل کافة القیم والمثل التی جهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله مدة ثلاث وعشرین سنة فی إرسائها وتحمل صنوف العذاب من أجل ترسیخها، وأصبح علی علیه السلام خمسة وعشرین عاماً جلیس البیت من أجل الحفاظ علیها، وعلیه فلم یبق من سبیل أمام الإمام علیه السلام سوی القتال بصفته الأمین علی الإسلام وقیمه، وهذا هو الرد الصریح علی کافة من یشکک فی قتاله علیه السلام لمعاویة. ثم أشار علیه السلام إلی مسئلة قتل عثمان واستغلالها من قبل معاویة وزبانیته بغیة الوصول إلی أغراضه ومآربه، فقال «إنّه قد کان علی الأمّة وال أحدث أحداثاً، وأوجد الناس مقالا، فقالوا ثم نقموا فغیروا» فمراد الإمام علیه السلام أن العامل الرئیسی لقتل عثمان هو نفس عثمان، الذی أتی بالأعمال المخالفة للعدل والسنة النبوبة، والتی أججت غضب الناس فحاصروه ثم قتلوه، ولذلک لم یتحرک أی من صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله للدفاع عنه، حتی قتل وبقی ثلاثاً علی الأرض لم یدفنه أحد من المسلمین (1)وهذا بدوره یکشف عن مدی غضب الاُمّة ونقمتها علیه. وعلیه فقتل عثمان لم یکن ذریعة تدعو للخروج علی أمیرالمؤمنین علیه السلام. وبالطبع فان أصحاب تلک الذریعة کانوا یعلمون هذا الأمر أکثر من غیرهم، إلّاأنّهم لم یروا أفضل من هذه الذریعة لتعبئة أهل الشام ضد أمیرالمؤمنین علیه السلام.

أعمال عثمان وأسباب قتله.

ذهب أغلب شراح نهج البلاغة إلی أن عثمان أحدث أحداثا مشهورة نقمها الناس علیه وأهم هذه الأحداث:

1- تأمیر بنی أمیة ولا سیما الفساق منهم وأرباب السفه وقلة الدین ومنهم الولید الفاسق وشارب الخمر الذی ولاه الکوفة. (2)وقرب الحکم بن أبی العاص عمه الذی طرده رسول الله صلی الله علیه و آله فألبسه جبة من الخز وأعطاه زکاة قبیلة قضاعة التی بلغت ثلاثمئة درهم - وذکر إبن قتیبة وابن عبد ربه والذهبی - من مشاهیر علماء العامة - أن من الأحداث التی نقمها الناس

ص:308


1- 1) الکامل لابن أثیر 3 / 180. [1]
2- 2) یتفق الفریقان علی نزول الآیة «وإن جائکم فاسق بنبأ فتبینوا» «الایة 6 من سورة الحجرات» [2] کان فی الولید. بل نقل العلامة المجلسی فی الغدیر 8/276 [3] الإجماع علی ذلک.

علی عثمان تقریبه للحکم بن أبی العاص الذی لم یقربه أبوبکر ولا عمر فی خلافتهما. (1)کما عین ابن عمه مروان بن الحکم مستشارا له وأعطاه غنائم أفریقیا التی بلغت خمسمئة ألف درهم.

2- أذاه لکبار صحابة النبی صلی الله علیه و آله کأبی ذر الذی نفاه للربذة حین کان یأمر بالمعروف وینهی عن المنکر ویعترض علی أعماله. (2)وضربه الشدید للصحابی الجلیل عمار بن یاسر ولم یکن ذنبه سوی مواجهة عثمان باعتراضات الناس. (3)وما فعله بالصحابی عبدالله بن مسعود بسبب إعتراضه علی التطاول علی بیت المال فجعل یضربه حتی کسر رباعیته. (4)

سئل الصحابی زید بن أرقم کیف حکمت بکفر عثمان؟ قال: لثلاث: تقسیمه لأموال بیت المال بین الأغنیاء ومحاربته لصحابة النبی صلی الله علیه و آله وعمله بغیر کتاب الله. (5)

3- توزیعه لأموال بیت المال علی بطانته وقرابته دون حساب وحرمان المؤمنین منها. وللمؤرخین والمحدثین شروحا وافیة بالنسبة لهذه الأمور لایسعها المقام. کل ذلک أری إلی نقمة الأنصار والمهاجرین ولا سیما صحابة النبی صلی الله علیه و آله علی عثمان فلم یروه خلیفة لرسول الله صلی الله علیه و آله کما قدم الناقمون من مصر والکوفة والبصرة، وحیث لم یکترث لهم، بینما لم ینصره أهل المدینة وهذا یدل علی نقمتهم علیه أیضا. أما معاویة الذی کان واقفا علی کل هذه الأمور فقد إستغلها لیحرض أهل الشام ضد أمیر المؤمنین علی علیه السلام بحجة المطالبة بدم عثمان.

ص:309


1- 1) الغدیر 8/241.
2- 2) الغدیر 8/241.
3- 3) نقل هذه القصة أغلب المؤرخین ومنهم البلاذری فی أنساب الأشراف 5/29.
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3/43 وتأریخ الیعقوبی 2/170. [1]
5- 5) شرح نهج البلاغة طبق نهج الحق /297. [2]

ص:310

الخطبة الرابعة والاربعون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

لما هرب مصقلة بن هبیرة الشیبانی إلی معاویة، وکان قد إبتاع سبی بنی ناجیة من عامل أمیرالمؤمنین علیه السلام وأعتقهم، فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلی الشام.

سبب الخطبة

قصة الخریت بن راشد الناجیّ وخروجه علی علیّ علیه السلام

کما ورد سابقا فالکلام یرتبط بقصة قبیلة بنی ناجیة: کان الخِرِّیت بن راشد النّاجِیّ، أحد بنی ناجِیَة، قد شهد مع علی علیه السلام صِفّین، فجاء إلی علیّ علیه السلام بعد انقضاء صِفّین، وبعد تحکِیم الحَکَمین فی ثلاثین فی أصحابه، یمشی بینهم حتی قام بین یدیه، فقال: لا واللّه لا أطِیعُ أمرَک، ولا أصلّی خَلْفَک، وإنی غداً لمفارق لک؛ فقال له: ثَکِلَتْک أمّک! إذاً تنقض عهدَک، وتَعْصِی رَبّک، ولا تضرّ إلّانفسَک، أخبرْنِی لم تفعلُ ذلک! قال: لأنّک حکّمت فی الکتاب، وضعُفْت عن الحق إذ جَدّ الجدّ، ورکنت إلی القوم الّذین ظلموا أنفسَهم، فأنا علیک رادّ، وعلیهم ناقم، ولکم جمیعا مباین.

فقال له علیّ علیه السلام: وَیْحَک! هلّم إلیّ أدارِسْک وأناظرْک فی السُّنن، وأفاتحْک أموراً من

ص:311


1- 1) سند الخطبة: أوردها عدد من المؤرخین ممن عاشوا قبل السید الرضی فی کتبهم ورووا قصة بنی ناجیة، ومنهم الطبری فی تأریخه المعروف فی وقائع عام 38 ه وابراهیم بن هلال الثقفی فی کتاب الغارات والبلاذری فی أنساب الاشراف والمسعودی فی کتاب مروج الذهب. مصادر نهج البلاغة، 1 / 451. [1]

الحق أنا أعلم بها منک؛ فلعلک تعرف ما أنت الآن له منکر، وتُبْصر ما أنت الآن عنه عَمٍ وبه جاهل، فقال الخریت: فإنّی غادٍ علیک غداً. فقال علیّ علیه السلام: اغْدُ ولا یستهوینّک الشیطان، ولا یتقحمَنَّ بک رأیُ السوء، ولا یستخفّنّک الجهلاء الذین لا یعلمون؛ فواللّه إن استرشدتَنی واستنصحتنی وقبلت مِنّی لأهدیّنک سبیل الرشاد.

فخرج الخرِّیت من عنده مُنْصرفاً إلی أهله.

قال عبداللّه بن قُعَین: فعجلت فی أثره مُسْرِعاً، وکان لی من بنی عَمّه صدیق، فأردت أن أَلْقَی ابنَ عمه فی ذلک، فأعلمه بما کان من قوله لأمیرالمؤمنین، وآمر ابنَ عمه أن یشتدّ بلسانه علیه، وأنْ یأمرَه بطاعة أمیرالمؤمنین ومُناصحته، ویخبره أنّ ذک خیر له فی عاجل الدنیا وآجل الآخرة. ثم بعث علیه السلام بمعقل بن قیس فقاتل الخریت حتی قتل وأسر أصحابه، فأطلق من کان منهم مسلما وبقی غیر المسلمین، وحین ورد الأسری الکوفة إشتری مصقلة الأسری بخمسمئة درهم من معقل وأعتقهم. فدفع مئتی درهم وعجز عن دفع الباقی فخاف وهرب. فخطب الإمام علیه السلام بهذه الخطبة. (1)

ص:312


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3/128 [1] بتصرف.

«قَبَّحَ اللّهُ مَصْقَلَةَ! فَعَلَ فِعْلَ السّادَةِ، وَفَرَّ فِرارَ الْعَبِیدِ! فَما أَنْطَقَ مادِحَهُ حَتَّی أَسْکَتَهُ، وَلا صَدَّقَ واصِفَهُ حَتَّی بَکَّتَهُ، وَلَوْ أَقامَ لأَخَذْنَا مَیْسُورَهُ وَانْتَظَرْنا بِمالِهِ وُفُورَهُ» .

الشرح والتفسیر

فرار العبید

قال الإمام علیه السلام بعد أن سمع خبر فرار مصقلة - عامل الإمام علی منطقة أردشیر حرّة من مناطق فارس - «قبح اللّه مصقلة فعل فعل السادة، وفر فرار العبید» . لقد قام مصقلة بعمل إنسانی کبیر وذلک حین إشتری أسری بنی ناجیة وأعتقهم فلما طولب بالمال وإعادته إلی بیت مال المسلمین وبدلاً من سؤال المهلة للتسدید هرب بالمال إلی الشام حیث معاویة الذی عرف بخداعه للناس واستعبادهم وظاهر القضیة أن مصقلة وخشیة دینه لبیت المال هرب إلی الشام، بینما یبدو أنّه کان مستعد مسبقاً لهذه الخیانة العظمی، فلعله کان یخشی الفضیحة من بعض الأعمال الاُخری التی قارفها، ولعل شدة علی علیه السلام فی العدل والاصرار علی إسترداد حقوق بیت المال قد شقت علیه کما شقت علی الآخرین. ویؤید ذلک ما قاله صاحب مصقلة ذهل بن حارث أنّ مصقلة قال لم أکن لأغتم لو کنت مدیناً لعثمان أو معاویة، فهما یتسامحان فی بیت المال، وقد فعلا ذلک بحق الالاف المؤلفة، الا أن علیا علیه السلام شدید التعامل مع بیت المال. مع ذلک فلیس هنالک من مبرر لفعل مصقلة، ولا سیما إثر ذلک التناقض الواضح، فقد تکرم من جانب لیقوم بذلک العمل الإنسانی، ومن جانب آخر قام بتلک الخیانة وهرب! لذلک قال علیه السلام:

ص:313

«فما أنطلق مادحه حتی أسکته، ولا صدق واصفه حتی بکته» (1)فقد فعل ما یدعو إلی مدحه من قبل کل من یسمعه، إلّاأنّ خبر عتقه لسبایا بنی ناجیة لم یکد ینتشر بین الناس حتی إنتشر قبله نبأ فراراه إلی الشام، فاصاب الجمیع بالدهشة والذهول، فکیف یلجأ إلی معاویة من یقوم بهذا العمل النجیب، فیؤثر مجاورة معاویة والوقوف إلی جانبه علی علی علیه السلام؟ نعم لایسع الجمیع تحمل العدل! ثم إختتم کلامه بالقول «ولو أقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بماله وفوره» أجل هذا منطق القرآن الکریم «وَإِنْ کانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلی مَیْسَرَةٍ» (2). لیس هنالک من یعتقد بأنّ علیاً علیه السلام سیعامله علی خلاف القرآن وأحکامه، وعلیه فلا یقبل عذره فی خشیته من الإمام علیه السلام فی تسدید ما بذمته لبیت المال. وهنا یبرز هذا السؤال لم لم یهبه الإمام علیه السلام ذلک المال تقدیراً لعمله الإنسانی، فمصقلة لم یکن لیتحمل بذلک الدین لمصالحه الشخصیة بل کان نتیجة طبیعة لذلک العمل الجبار الذی قام به؟ ونقول فی الجواب علی هذا السؤال أنّ الإمام علیه السلام لو فعل ذلک لأصبحت سنة فی المستقبل، بحیث یقوم کل عامل وآمر بالطلاق سراح الاُسری؛ الأمر الذی یفرز بعض المخاطر التی تهدد کیان المجتمع الإسلامی بینما یحظی الأمر بمدح الناس وثنائهم. أضف إلی ذلک فانّ مثل هذا البذل یزعزع أسس ودعائم بیت المال ویعید إلی الاذهان سیاسة البذخ والاسراف التی إتبعها عثمان تجاهه، بینما کان الإمام علیه السلام قد وعد الاُمّة بأنّه سیتسرجع کل ما أخذ من بیت المال بغیر حق وإن تزوج به النساء.

تأمّلان

1 - من بین الأسئلة التی تطرح بشأن هذه الخطبة

ص:314


1- 1) «بکته» من مادة «بکت» علی وزن بخت بمعنی الضرب بالعصا، کما تعنی التوبیخ والغلبة علی الآخرین عن طریق الاستدلال.
2- 2) سورة البقرة / 280. [1]

أو لیس بنی ناجیة مسلمین، فکیف یسبون ویفادون؟ ویبدو أنّ الجواب قد ورد فی قصة سبیهم، حیث خرج الخریت بن راشد الناجی ضد أمیرالمؤمنین علیه السلام واجتمع مع عدد من الأفراد، فلما بلغ الخبر الإمام علیه السلام. فوجه الإمام علیه السلام أحد أصحابه «معقل بن قیس» لقتال الخریت بن راشد فقتله وقتل جمعاً من أصحابه وأسر آخرین من مسلمین وغیر مسلمین من النصاری ومانعی الصدقة، فجعل مسلمیهم یمنة والنصاری ومانعی الصدقة یسرة، ثم خلی سبیل من کان مسلماً وأخذ بیعته، ومن کان إردتد عرض علیه الرجوع إلی الإسلام أو القتل. فلما أتی بالاُسری إلی الإمام علیه السلام فی منطقة أردشیر حرّة التی کان مصقلة عاملها، فبکی إلیه النساء والصبیان وتصایح الرجال. فقال مصقلة: أقسم باللّه لأتصدقن علیهم، فاشتراهم بخمسمائة ألف درهم فاعتقهم. فبعث مصقلة بمقدار من المال وبقی آخر. وانتظر علی علیه السلام مصقلة أن یبعث المال فابطأ به فبعث إلیه الإمام، فقدم الکوفة، فسأله الإمام علیه السلام المال، فأدی إلیه مائتی ألف درهم وعجز عن الباقی، علی أن یهبه الإمام علیه السلام ذلک، فلم یقبل الإمام علیه السلام، ولو وافقه الإمام علیه السلام لکان ذلک الأمر بدعة بحیث یشتری الآخرون الأسری ثم یعتقونهم ولا یؤدون المال إلی بیت مال المسلمین، إلی جانب کون تلک الموافقة تثییر تداعیات سیاسة عثمان إزاء بیت المال بحیث یساء الظن بحزم الإمام علیه السلام بالنسبة لبیت مال المسلمین. والعجیب أنّ أحد أصحابه قال له: لو شئت لم یمض علیک جمعة حتی تجمع هذا المال، فقال: ما کنت لأحملها قومی، ولا أطلب فیها إلی أحد. ثم قال: واللّه لو أنّ ابن هند مطالبی بها، أو ابن عفان، لترکها لی. فهذه الاُمور تشیر إلی أنّه قد یکون منذ البدایة قد عزم علی عدم أدائها، کما تفید الرسالة الثالثة والأربعون من نهج البلاغة أنّه کان عثمانیاً، ولذلک کان قد بذل بعض أموال بیت المال لبطانته وقومه، وخلاصة القول فان بنیته الفکریة والعملیة کانت قائمة علی نهج معاویة لا أمیرالمؤمنین علیه السلام. ولعله کان رجلاً صالحاً قبل وصوله إلی الحکومة إلّاأنّ حب الدنیا والاغترار بالجاه قد غلب علیه. ومن هنا شقت علیه عدالة الإمام علیه السلام حتی إلتحق فی خاتمة المطاف بمعاویة. فخطب الإمام علیه السلام هذه الخطبة واختتمها بقوله «ولو أقام لأخذنا میسوره، وانتظرنا بماله وفوره» . (1)

ویتضح ممّا ذکرنا أنّ الاسری المذکورین لم یکونوا من المسلمین.

ص:315


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 128 - 150 [1] بتصرف.

2 - فلسفة الحزم

السؤال الآخر الذی یمکن طرحه هنا: ما علة کل هذا الحزم من الإمام علیه السلام فی هذه الحالات؟

ونقول فی الجواب أنّ الإمام علیه السلام لم یتشدد فی هذا الأمر، بل کان قد أمهله لتسدید الدین عند المقدرة أولاً، وثانیاً لم یکن ذلک حقاً للإمام علیه السلام بحیث یهبه أموال بیت المال، بل هو حق المسلمین الذی لایفرط فیه أمیرالمؤمنین علیه السلام قط. ورغم حزمه فی هذا الأمر إلّاأنّه أبقی باب الرفق مفتوحاً، ومن ذلک إقترح البعض علی الإمام علیه السلام بعد فرار مصقلة إعادة السبایا والأسری، فلم یوافق الإمام علیه السلام علی أنّ مصقلة قد إبتاعهم واعتقهم، فالمدین مصقلة لا هؤلاء. (1)

ص:316


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3/128 - 150 بتصرف.

الخطبة الخامسة و الأربعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وهو بعض خطبة طویلة خطبها یوم الفطر، وفیها یحمداللّه ویذم الدنیا

نظرة إلی الخطبة

تشتمل الخطبة علی فصلین من کلام أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: أحدهما حمداللّه والثناء علیه، والآخر ذم الدنیا وحث الناس علی التزود للآخرة. ویبدو أنّ الرضی (ره) لم یذکر الخطبة کلها فهی طویلة جداً، ومن هنا لا یری هناک من إرتباط بین هذین الفصلین، إلّاأنّها رغم قصرهما یشیران إلی معان ضخمة مهمّة.

ج ج

ص:317


1- 1) سند الخطبة: قال أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ هذه الخطبة والخطبة رقم 28 کلاهما فصل من خطبة طویلة روی السید الرضی قسما منها هنا وآخر فی الخطبة المذکورة (کما ترک القسم الثالث) ویفید هذا الأمر مرة اُخری أنّ السید الرضی (ره) لم یرد نقل کافة خطب الإمام علیه السلام فی نهج البلاغة، بل کان یلتقط کلامه علیه السلام إلتقاط لأنّ غرضه ذکر فصاحته علیه السلام لا غیر. علی کل حال نقل هذه الخطبة قبل السید الرضی (ره) المرحوم الصدوق فی کتاب من لایحضره الفقیه، والمرحوم الشیخ الطوسی (بعد الرضی) فی مصباح المتهجد. (مصادر نهج البلاغة، 2/10 - 11) .

ص:318

القسم الأول: الرحمة اللامتناهیة

«الْحَمْدُ لِلَّهِ غَیْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ وَلا مَأْیُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ وَلا مُسْتَنْکَفٍ عَنْ عِبادَتِهِ، الَّذِی لا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ وَلا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ» .

الشرح والتفسیر

تناول هذا الفصل حمداللّه والثناء علیه، ثم أشار إلی ست من النعم الإلهیة التی تستحق الحمد والشکر، فقال علیه السلام «الحمد للّه غیر مقنوط (1)من رحمته» . کیف الیأس من رحمة اللّه الواسعة وهو القائل سبحانه «وَرَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیءٍ» (2)کما قال علی لسان نبیه یعقوب علیه السلام «لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلّا القَوْمُ الکافِرُونَ» (3)وعلی لسان خلیله إبراهیم علیه السلام «وَمَنْ یَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلّا الضّالُّونَ» (4)وعلیه فلابد للإنسان من الانابة إلی اللّه مهما کانت ذنوبه ومعاصیه، ولا ینبغی له الیأس من رحمة اللّه، بل إنّ هذا الیأس کفر وضلالة وهو من أعظم الذنوب ثم قال علیه السلام «ولا مخلو من نعمته» . کما ورد فی القرآن الکریم «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّهَ سَخَّرَ لَکُمْ ما فِی السَّمواتِ وَما فِی الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» (5)وأضاف علیه السلام «ولا مأیوس من مغفرته» کیف لا وهو القائل «قُلْ یا عِبادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُوا عَلی

ص:319


1- 1) «مقنوط» من مادة «قنوط» علی وزن قنوت بمعنی الیأس من الخیر والرحمة، والقنوط علی وزن بلوطصیغة مبالغة.
2- 2) سورة الاعراف / 156. [1]
3- 3) سورة یوسف / 87. [2]
4- 4) سورة الحجر / 56. [3]
5- 5) سورة لقمان / 20. [4]

أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِیمُ» (1). بل ورد فی الحدیث النبوی الشریف أنّ هذه الرحمة لمن السعة بحیث یتطاول علیها ویطمع بها حتی إبلیس «لیغفر اللّه یوم القیامة مغفرة ما خطرت علی قلب أحد حتی إبلیس یتطاول الیها» (2)کما جاء فی الروایة: «أنّ للّه مئة رحمة وقد أنزل واحدة منها إلی الأرض وقسمها بین مخلوقاته، وإستأثر بتسع وتسعین إدخرها لعباده یوم القیامة» (3). ولما کانت هذه الاُمور تسوق الناس إلی العبادة، قال علیه السلام: «ولا مستنکف (4)عن عبادته» وذلک لأنّ الاستنکاف عن العبادة لا یؤدی سوی إلی العذاب، فقد قال القرآن بهذا الخصوص «وَأَمّا الَّذِینَ اسْتَنْکَفُوا وَاسْتَکْبَرُوا فَیُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِیماً وَلا یَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِیّاً وَلا نَصِیراً» (5). ثم عد نعمتین اُخریین علیه السلام فقال «الذین لا تبرج منه رحمة، ولا تفقد له نعمة» فقد تکررت الرحمة والنعمة وکأن السابقة أشارت إلی أصل الرحمة والنعمة الإلهیة، بینما تحدثت العبارة اللاحقة عن دوام هذه النعمة وعدم إنقطاعها، وهذا ما ورد تأکیده فی القران «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها» (6). والطریف فی الأمر أنّ هذین الوصفین فی الواقع ذکرا کدلیل علی عدم استنکاف الناس عن عبادة اللّه؛ الأمر الذی تناوله علم الکلام تحت عنوان «شکر المنعم من دوافع معرفة اللّه» . أمّا المفردات الرحمة والمغفرة والنعمة فهی وإن کانت مرتبطة مع بعضها إلّا أنّ مفاهیمها مستقلة، فللرحمة معنی واسع یشمل کل فضل ولطف من اللّه للعباد سواء عن طریق إفاضة النعم أو مغفرة الذنوب، وبعبارة اُخری فانّ نسبة الرحمة إلی النعمة والمغفرة هی نسبة العموم والخصصوص المطلق، بینما لکل من النعمة والمغفرفة مفهوم منفصل عن الآخر، فالنعمة تختص بالإمکانات الوجودیة التی تأخذ بید الإنسان إلی السمو والکمال، أمّا المغفرة فهی إزالة آثار الذنب وتعبید الطریق بعد إزالة العراقیل.

ص:320


1- 1) سورة الزمر / 53. [1]
2- 2) فی ظلال نهج البلاغة 1 / 226. [2]
3- 3) مجمع البیان ذیل تفسر بسم اللّه الرحمن الرحیم من سورة الفاتحة.
4- 4) «إستنکاف» من مادة «نکف» علی وزن نظم بمعنی الابعاد، والانتکاف بمعنی الخروج من أرض إلی اُخری، والاستنکاف بمعنی الآباء والاعراض عن الشیء.
5- 5) سورة النساء / 173. [3]
6- 6) سورة النحل / 18. [4]

القسم الثانی: الدنیا دار المنی

اشارة

«وَالدُّنْیا دارٌ مُنِیَ لَها الْفَناءُ وَلِأَهْلِها مِنْها الْجَلاءُ وَهِیَ حُلْوَةٌ خَضْراءُ، وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطّالِبِ وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النّاظِرِ، فارْتَحِلُوا مِنْها بِأَحْسَنِ ما بِحَضْرَتِکُمْ مِنَ الزّادِ، وَلا تَسْأَلُوا فِیها فَوْقَ الْکَفافِ، وَلا تَطْلُبُوا مِنْها أَکْثَرَ مِنَ الْبَلاغِ» .

الشرح والتفسیر

لقد عرض الإمام علیه السلام هنا بذم الدنیا علی أنّ حبّها والتعلق بها یعد من آعظم آفات سبیل سعادة الإنسانیة. کما أنّ الاغترار بزخارفها وزینتها أساس الذنوب والمعاصی، فقال علیه السلام «والدنیا دار منی لها الفناء» (1). نعم فدعائم الکون تحکی آثار الزوال والفناء، فالأشجار التی تتفتح فی الربیع وتحمل الثمار إنّما تذبل فی فصل الخریف لتجف ثم تتساقط أوراقها علی الأرض فتعبث بها الریاح هنا وهناک، وکأنّ حیاة هذه الاشجار لم تشهد الربیع ولم تحمل الثمار. وهکذا حال الإنسان فالفتی القوی بالأمس، هو العجوز الهرم الیوم، والکهل العجوز الیوم سیکون عظاما نخرة غداً! ثم قال علیه السلام «ولأهلها منها الجلاء» (2)فکافة الأفراد دون إستثناء سیودعون عاجلا أم آجلا هذه الدنیا الفانیة لیتجهوا نحو تلک الحیاة الخالدة فی عالم الآخرة. فهذا قانون إلهی مطلق لا یسع أحد إنکاره والخروج علیه. ومن هنا عبرت بعض الآیات القرآنیة عن

ص:321


1- 1) منی لها الفناء، أی قدر لها لها الفناء. وتطلق علی الآمال التی یخطط لها الإنسان فالمراد أن الفناء مقدر فی طبیعة الدنیا.
2- 2) «الجلاء» بمعنی الظهور، ومنه الجلاء عن الوطن بمعنی الخروج منه، وکأنّ الإنسان کان مستخفیاً وقدظهر بعد أن خرج من وطنه.

الموت بالیقین، وذلک لأنّه یوقن به حتی من أنکر المعاد والحساب. ثم قال علیه السلام «وهی حلوة خضرة» وتختص الحلاوة بالذائقة بینما ترتبط الخضرة بالباصرة، فخضرة الدنیا وجمالها تخطف بصر الفرد الغافل وتشده إلیها، بینما تسوق حلاوتها ذلک الإنسان إلی المعصیة والخطیئة، ومن المعلوم أنّ خداع الدنیا لا یقتصر علی هذین الأمرین، بل لکل حاسة من حواس الإنسان ما یجذبها ویربطها بالدنیا. وأضاف علیه السلام «وقد عجلت للطالب والتبست (1)بقلب الناظر» فطبیعة الدنیا خیرها العاجل ومنافعها المبکرة، وإذا أتت الإنسان فإنّها تنفذ إلی قلبه حتی تکون جزءاً منه لأنّها جمیلة للناظر، کما أنّها حلوة للمذاق، ولذلک کان التحرر منها صعباً. وما ان فرغ الإمام علیه السلام من بیان صفات الدنیا لتتطلع القلوب إلی أوامر السماء حتی قال «فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتکم من الزاد ولا تسألوا فیها فوق الکفاف، ولا تطلبوا منها أکثر من البلاغ» (2). لا ینبغی أن ینسی الإنسان أنّه مسافر قد أقام هنا بصورة مؤقتة، والمسافر الفطن إنّما ینهمک باعداد الزاد والمتاع فی مثل هذا المنزل، فهو یتزود بأحسن الأمتعة والأشیاء ولا یثقل کاهله بالردی منها أبدا «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزّادِ التَّقْوی وَاتَّقُونِ یا أُولِی الأَلْبابِ» (3). فالتقوی أفضل زاد الدنیا إلی جانب الحذر من نوم الغفلة.

الکفاف والعفاف

لقد تضمنت الخطبة إشارات إلی مختلف أبعاد الحیاة الدنیا رغم قلة عباراتها وألفاظها. فقد أشارات إلی طبیعة الحیاة الدنیا والتی تکمن فی الفناء والزوال ورحیل أهلها عنها شاءوا أم أبوا. کما تطرقت إلی ظاهرها الأنیق الذی یشد الأنظار إلیه، ومن هنا یتجه نحوها من یخدع بالمظاهر، بینما یحذرها من یتمعن فی العواقب. وتناولت حب الدنیا الذی یقود بالتدریج إلی تربعها فی قلب الإنسان حتی تصبح جزءاً من کیانه؛ الأمر الذی یجعل من المتعذر علیه نزع

ص:322


1- 1) - مادة «الالتباس» إن تعدت بحرف الباء عنت الاختلاط والامتزاج، وإن تعدت بحرف علی عنت الاشتباه، ومن هنا یتضح أنّ المراد بالعبارة هنا الاشتباه.
2- 2) «البلاغ» بمعنی الوصول إلی الشی، ومنه البلوغ الذی یصل فیه الإنسان مرحلة خاصة. والمراد بها هنا مایتبلغ به، أی یقتات به مدة الحیاة.
3- 3) سورة البقرة / 197. [1]

حبّها من قلبه ثم أرشدت إلی النجاة من أخطارها وآفاتها بالقناعة بالکفاف والعفاف، والمراد بالکفاف (1)والعفاف (أو العفاف والکفاف» أن یقنع الإنسان فی الدنیا بقدر حاجته إلیها ویدع الرغبة بالمزید جانباً ویغض طرفه عن جمع الأموال؛ الأمر الذی یجعله یعیش الاستقرار والسکینة فی حیاته الدنیا ویحد من حمله فی حیاته الاُخرویة، وذلک لأنّ طامة الإنسان فی الحرص والطمع وعدم القناعة. طبعاً إذا کان تطلعه للمزید من أجل إغاثة الضعفاء والمحرومین فانّ ذلک لیس فقط لا یتنافی والعفاف والکفاف فحسب، بل من شأنه أن یقود الآخرین إلی الکفاف. فقد ورد فی القرآن الکریم: «یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَیِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَکُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا یُحِبُّ المُعْتَدِینَ» (2)، کما ورد هذا المعنی فی الروایات الإسلامیة، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله کان یدعو بهذا الدعاء: «اللّهم اُرزق محمداً وآل محمد ومن أحبّ محمداً وآل محمد العفاف والکفاف» (3). وعن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام أنّه قال: «قلیل یکفی خیر من کثیر یردی» (4)فالفرد إذا قنع باللازم من حیاته کان ذلک زینة له من الذنب وتحلی بالکفاف والعفاف: «من اقتنع بالکفاف أداه إلی العفاف» (5)أضف إلی ذلک وبغض النظر عن الجوانب المعنویة والأخلاقیة للقناعة بالضروری فی الحیاة فانّما مدعاة للسکینة والاستقرار الروحی والنفسی فی الحیاة الدنیا، فقد ورد عن الإمام علی علیه السلام أنّه قال: «ومن إقتصر علی بلغة الکفاف فقد إنتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة» (6). وقد أثنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی شخص فدعا له قائلاً: «اللّهم اُرزقه الکفاف» کما قال رسول اللّه: «إنّ ما قلّ وکفی خیر ممّا أکثر وألهی؛ اللّهم اُرزق محمّداً وآل محمد الکفاف» .

ص:323


1- 1) الکفاف من مادة کف بمعنی کف الید، ولما کان الإنسان یبعد الشیء عنه بکفه فقد وردت هذه المفردةبمعنی المنع والسلب، ومنه المکفوف لمن سلب بصره، ویقال للجماعة کافة لأنها تمنع العدو.
2- 2) سورة المائدة / 87. [1]
3- 3) اصول الکافی 2 / 140. [2]
4- 4) غرر الحکم، ح 234.
5- 5) غرر الحکم، ح 286. [3]
6- 6) نهج البلاغة / 371. [4]

ص:324

الخطبة السادسة و الاربعون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

عند عزمه علی المسیر إلی الشام وهو دعاء دعا به ربّه عند وضع رجله فی الرکاب.

نظرة إلی الخطبة

تتضمن هذه الخطبة أو هذا الدعاء عدّة أمور عمیقة ومهمّة، فقد بین الإمام علیه السلام جمیع المشاکل المتوقعة فی السفر فی ثلاث، ثم إستعاذ منها باللّه. ثم وصف الحق سبحانه بأنّه الصاحب فی السفر والخلیفة فی الأهل توکیداً لحضوره الذاتی المطلق لدی جمیع الکائنات.

ج ج

ص:325


1- 1) سند الخطبة رواه بعض المحدثین الذین عاشوا قبل السید الرضی (ره) ومنهم نصربن مزاحم فی کتاب صفین، وذکر بعض المؤرخین أنّ الإمام علیه السلام دعا بهذا الدعاء عند ما وضع رجله فی الرکاب وعزم علی المسیر إلی الشام لقتال معاویة. وقال السید الرضی وابتداء هذا الکلام مروی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد قفاه أمیرالمؤمنین علی علیه السلام. ورواه أعثم الکوفی فی کتاب الفتوح، ما اورده مع بعض الاضافات القاضی نعمان المصری فی کتاب دعائم الإسلام، وقال: إنّ الإمام علیه السلام کان یدعوا بهذا الدعاء عند کل سفر، مصادر نهج البلاغة، 2 / 12.

ص:326

«اللّهُمَّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ مِنْ وَعْثاءِ السَّفَرِ وَکَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِی الْأَهْلِ وَالْمالِ وَالْوَلَدِ، اللّهُمَّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِی السَّفَرِ، وَأَنْتَ الْخَلِیفَةُ فِی الْأَهْلِ وَلا یَجْمَعُهُما غَیْرُکَ، لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لا یَکُونُ مُسْتَصْحَباً، وَالْمُسْتَصْحَبُ لا یَکُونُ مُسْتَخْلَفاً» .

الشرح والتفسیر

الاستعاذة باللّه من وعثاء السفر

لا شک أنّ اُولیاء اللّه یعیشون التضرع إلی اللّه فی جمیع الأحوال إلّاأنّهم یکونون أکثر تضرعاً حین إشتداد المحن والخطوب، فیستأنفون أعمالهم بدعاء اللّه والتوسل إلیه لیفرج عنهم ویلهمهم القوة والصلابة والثقة بالنفس. الإمام علیه السلام من جانبه لما عزم علی المسیر لصفین تضرع بهذا الدعاء «اللّهم إنّی أعوذ بک من وعثاء (1)السفر وکآبة (2)المنقلب (3)وسوء المنظر فی الأهل والمال والولد» فالواقع أنّ ما یشغل ذهن المسافر من جراء السفر أوجزه الإمام علیه السلام فی ثلاث؛ الأول (وعثاء السفر) والثانی کیفیة العودة (وکآبة المنقلب» والثالث القلق علی الأهل (سوء المنظر فی الأهل والولد) . ویستعیذ الإمام علیه السلام باللّه من هذه الاُمور المقلقة ویسأله تذلیلها، ثم قال علیه السلام: «اللّهم أنت الصاحب فی السفر وأنت الخلیفة فی الاهل، ولا یجمعها غیرک» نعم الذات الإلهیة فقط المنزهة عن الزمان والمکان، فهی محیطة بجمیع الأمکنة والأزمنة، فلیس هنالک من مکان أقرب إلیها من آخر، ومن هنا فان اللّه معنا فی السفر ومع

ص:327


1- 1) «وعثاء» من مادة «وعث» علی وزن درس تعنی المشقة، وأصله المکان المتعب لکثرة رمله وغوص الأرجل فیه ومن هنا یطلق الوعثة علی المرأة المترهلة لأنّها لا تستطیع الحرکة بسهولة.
2- 2) «کآبة» بمعنی الإنزعاج وسوء الحال وتصدع البال ومن هنا یقال الکئیب للفرد غیر مرتاح البال.
3- 3) «منقلب» من مادة «قلب» مصدر بمعنی الرجوع، کما یمکن أن تکون إسم مصدر، واسم مکان وزمان، وهی هنا إسم مصدر أنسب منها مصدر.

أهلنا وولدنا فی الحضر، وما أروع أن نودع زمام أمور حیاتنا إلی من یحیط بکل شی ولا یحیط به شی. ثم یقدم الدلیل علی ما قال: «لأنّ المستخلف لایکون مستصحباً، والمستصحب لا یکون مستخلفاً» فالمکان یسود ویحکم جمیع الکائنات المادیة، ومن هنا فان وجودها فی مکان یعنی خلو الاخر منها، وما ذلک إلّالوجودها المحدود، ولیس هنالک من وجود لا محدود سوی اللّه سبحانه الذی لا یعرف المکان ولا الزمان ولا البعد ولا القرب، وهو کما قال: «وَهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَما کُنْتُمْ» (1)وقال: «فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ» (2).

قال السید الرضی (ره) آخر الکلام: وابتداء هذا الکلام مروی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله، وقد قفاه أمیرالمؤمنین علی علیه السلام بأبلغ کلام وتممه بأحسن تمام من قوله «لا یجمعهما غیرک» إلی آخر الفصل.

فلسفة الدعاء

من یتصفح المصادر الإسلامیة یدرک أنّ للدعاء مکانة خاصة فی التعالیم الإسلامیة، حتی عد الدعاء مخ العبادة. فقد جاء فی الحدیث النبوی الشریف «أفزعوا إلی اللّه عزّوجلّ فی حوائجکم، والجاؤوا إلیه فی ملماتکم، وتضرعاً إلیه، فانّ الدعاء مخ العبادة» (3). بینما وصفه حدیث آخر بسلاح المؤمن، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدین، ونور السموات والأرض» (4)، وقال أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «الدعاء مفاتیح النجاح، ومقالید الفلاح» (5)والدعاء علی درجة من الأهمیة بحیث قال القرآن الکریم: «قُلْ ما یَعْبَؤُاْ بِکُمْ رَبِّی لَوْلا دُعاؤُکُمْ» (6). مع ذلک هنا لک من إستشکل علی الدعاء ولا سیما اُولئک الذین غفلوا عن فلسفته:

1 - فهم یقولون أحیاناً: لا ینسجم الدعاء وروح الرضا والتسلیم لإرادة اللّه، فالذی یجب

ص:328


1- 1) سورة الحدید / 4. [1]
2- 2) سورة البقرة / 115. [2]
3- 3) بحارالانوار 90 / 302. [3]
4- 4) اصول الکافی 2 / 468 ح 1. [4]
5- 5) بحارالانوار 90 / 341؛ [5]أصول الکافی 2 / 486. [6]
6- 6) سورة الفرقان / 77. [7]

علینا هو التسلیم لإرادة اللّه والرضی بما یرتضی!

2 - إن الدعاء یعدّ إحد العوامل المخدرة للإنسان فیصده عن السعی والعمل والنشاط، حیث ینصرف الإنسان عن هذه الاُمور ویلوذ بالدعاء لتأمین حاجیاته.

3 - ناهیک عن کل ما تقدم، کیف یسعنا تغییر المقدرات الإلهیة بواسطة الدعاء، فلو قدر اللّه أمراً، فانّ ذلک الأمر سوف لن یغیره دعاؤنا، وبعبارة اُخری فانّ الدعاء نوع من أنواع الفضول والتطفل علی أفعال اللّه، فاللّه لا یفعل إلّاما فیه المصلحة ولا داعی للدعاء.

ولکن لا تری هذا الکلام سلیم إذا ما وقفنا علی فلسفة الدعاء ومفهومه الواقعی. فالمفهوم الواقعی للدعاء هو أننا نعمل ما فی وسعنا ونجهد أنفسنا وما فاق ذلک نوکله إلی اللّه ولطفه، ونتضرع إلیه بالدعاء لحل المشاکل، وعلی ضوء «أَمَّنْ یُجِیبُ المَضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَیَکْشِفُ السُّوءَ» (1)نطرق بابه ونسأله بعد أن سعینا سعیناً ولم یبق إلّاتوفیقه. ومن هنا صرحت بعض الروایات الإسلامیة بعدم إستجابة دعاء من قصر فی العلم وخلد إلی الکسل والراحة. فاللّه لا یستجیب دعاء من سأله الرزق وهو جالس فی بیته دون أن یسعی ویعمل، کما لا یستجاب دعاء من أقرض مالاً ولم یکتبه ثم أنکر علیه المدین ولم یعطه ماله! والخلاصة فانّ الکسل والتقاعس لا ینسجم واستجابة الدعاء. وعلی ضوء ما تقدم فانّ الدعاء لا یعتبر عاملاً مخدراً، بقد رما بعد عاملاً محرکاً. أمّا ما یقال من أن الدعاء لا یغیر التقدیر، فجواب ذلک واضح، وهو أنّ الدعاء سبب زیادة استحقاق الإنسان لأنّه یتجه إلی اللّه وینور قلبه بمعرفة اللّه یتوب إلیه من ذنوبه؛ لأنّ التوبة من شروط قبول الدعاء، وبذلک یتأهب أکثر لتلقی الفیض الإلهی والعنایة الربانیة، لأنّ اللّه قدر المزید من لطفه وفضله لمن کان أکثر إستعداداً وجدارة، بعبارة أخری فانّ للّه نعم وخیرات وبرکات للعباد مشروطة ببعض الشرائط، فی مقدمتها التوجه إلیه ودعاؤه والتقرب إلیه. وبناءاً علی هذا فانّ رحمةاللّه ولطفه متوقفة علی الدعاء. ومن هنا یتضح الجواب علی الإشکال الذی یفید عدم انسجام الدعاء وروح الرضا والتسلیم؛ لأنّ الدعاء تأکید للتسلیم والرضا، فالحق سبحانه أراد لعباده أن یعیشوا القرب منه بالدعاء، فاذا عاشوا القرب شملهم اللّه برحمته وفضله، الأمر الذی أکد الدعاء فی أغلب الآیات والروایات. وزبدة الکلام فانّ للدعاء أثاره التربوبة الجمة علی حیاة الإنسان، أدناها أنّه یطهر قلبه

ص:329


1- 1) سورة النمل / 62. [1]

وروحه من الأدران ویزیل عنه صدأ المادیات ویوصله بمصدر الخیر والاحسان والعطاء، کما یشکل السبیل للاستزادة من فضل اللّه ولطفه. ومن هنا فانّ أولیاءاللّه لا یستغنون فی قضاء حوائجهم عن الدعاء، وبالدعاء یشعر العبد بالقوة، کما یشعر بالسکینة إثر التوکل علی اللّه فیهب لمواجهة المشاکل وقلبه مفعم بالأمل فی التغلب علیها، ولا غرو فهو یعلم بأنّها مذللة لإرادة اللّه تابعة لمشیئة وقدرته. کما تتأتی الحاجة إلی للدعاء فی الأسفار المخیفة المحفوفة بالمخاطر، أمّا دعاء الإمام علیه السلام حین عزمه علی السیر إلی صفین فقد إقتدی به بالنبی صلی الله علیه و آله ومن سبقه من الأنبیاء العظام. فقد کلف نوح علیه السلام بالتضرع إلی اللّه حین رکب السفینة فی ذلک الطوفان الهائل لینجیه اللّه من تلک المخاطر «فَإِذا اسْتَوَیْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَکَ عَلی الفُلْکِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی نَجّانا مِنَ القَوْمِ الظّالِمِینَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِی مُنْزَلاً مُبارَکاً وَأَنْتَ خَیْرُ المُنْزِلِینَ» (1)کما دعا موسی علیه السلام لما فرّ من أزلام فرعون حین خرج من مصر متوجهاً إلی مدین «وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلقْاءَ مَدْیَنَ قالَ عَسی رَبِّی أَنْ یَهْدِیَنِی سَواءَ السَّبِیلِ» (2). وقال حین لقی لبنات شعیب «رَبِّ إِنِّی لِما أَنْزَلْتَ إِلَیَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ» (3). النبی الأکرم صلی الله علیه و آله حین هاجر من مکة إلی المدینة فی ظل تلک الأخطار، کان یشعر بالتذمر لمفارقة مکة وبیت اللّه، وکان یتمنی الرجوع اِلیها فاتته البشارة «إِنَّ الَّذِی فَرَضَ عَلَیْکَ القُرْآنَ لَرادُّکَ إِلی مَعادٍ» (4)وکأنّ النبی صلی الله علیه و آله دعا اللّه أو کان یعیش حالة الدعاء فاستجیب له. ومن هنا حثت الروایات علی الدعاء فی السفر. (5)وتختتم البحث بما ورد عن علی علیه السلام حین إنطلق من الکوفة إلی الشام، حیث وضع رجله علی الرکاب فقال: بسم اللّه الرحمن الرحیم، فلما استوی علی دابته قال: «سُبْحانَ الَّذِی سَخَّرَ لَنا هذا وَما کُنّا لَهُ مُقْرِنِینَ * وَ إِنّا إِلی رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» (6)ثم دعا بهذا الدعاء الذی فرغنا من شرحه.

ص:330


1- 1) سورة المؤمنون / 28 - 29. [1]
2- 2) سورة القصص / 22. [2]
3- 3) سورة القصص / 24. [3]
4- 4) سورة القصص / 85. [4]
5- 5) الوسائل الشیعة 8 / 275 - 281.
6- 6) سورة الزخرف / 13 - 14. [5]

الخطبة السابعة و الاربعون

اشارة

(1)

من کلام له علیه السلام

فی ذکر الکوفة

نظرة إلی الخطبة

کلام الإمام علیه السلام یمثل نبوئتین بشأن الکوفة، أو الکوفة والبصرة: الاولی الحوادث المریرة التی تعصف بالکوفة وأهلها من قبل الطواغیت الظلمة، والثانیة العاقبة السیئة لاُولئک الظلمة وعقابهم بما إقترفته أیدیهم.

ج ج

ص:331


1- 1) سند الخطبة: من جملة من رواها قبل السید الرضی (ره) إبن الفقیه فی کتاب البلدان، إلّاأنّه صرح أنّ أمیرالمؤمنین علیه السلام خاطب بهذا الکلام أهل البصرة والکوفة ولا یغیر ذلک شیئاً. ونقلها بعد السید الرضی (ره) الزمخشری فی ربیع الأبرار [1]فی باب البلاد والدیار. مصادر نهج البلاغة، 2 / 15. [2]

ص:332

«کَأَنِّی بِکِ یَا کُوفَةُ تُمَدِّینَ مَدَّ الْأَدِیمِ الْعُکَاظِیِّ تُعْرَکِینَ بِالنَّوَازِلِ وَتُرْکَبِینَ بِالزَّلازِلِ وَإِنِّی لأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِکِ جَبّارٌ سُوءاً إِلاَّ ابْتَلَاهُ اللّهُ بِشاغِلٍ وَرَماهُ بِقاتِلٍ» .

الشرح والتفسیر

نبوءة عن مستقبل الکوفة

ذکرنا أنّ الإمام علیه السلام خاطب بهذا الکلام الکوفة (وقیل البصرة والکوفة» فقال «کأنی بک یا کوفة تمدین مد الأدیم (1)العکاظی» «عکاظ» (2)اسم سوق قرب مکة (وقال البعض بین مکة والطائف) تجتمع فیه العرب کل عام من مختلف المناطق لمدّة عشرین یوماً کما صرح بذلک البعض، فکانوا یعرضون متاعهم، کما کانوا ینشدون الشعر وتتفاخر کل قبیلة علی الاُخری، وبالطبع کان هناک کثیراً من المفاسد؛ الأمر الذی جعل الإسلام یردم ذلک السوق.

أما هل المراد بهذه العبارة الحوادث الألیمة التی ستقع فی الکوفة، أم کبر الکوفة وإتساعها. فقد صرح أغلب شرّاح نهج البلاغة بالتفسیر الأول، بینما قال القلیل منهم بالتفسیر الثانی، ویبدو أنّ التفسیر الثانی هو الأنسب، لأنّ دبغ الجلد العکاظی لا یبدو منسجماً وکون العبارة کنایة عن الحوادث الألیمة والمأساویة، بینما یمکنه أن یکون کنایة عن إزدیاد رقعة الکوفة وإتساع مساحتها. جدیر بالذکر أنّ الجلد العکاظی واسع وجمیل ومن أرغب الجلود لدی العرب، ولعل فی هذا إشارة إلی جمال الکوفة وعمرانها فی الأزمنة القادمة مقارنة بما علیها فی

ص:333


1- 1) «أدیم» بمعنی ظاهر الشیئ وغالباً ما یطلق علی الجلد، کما یسمی وجه الأرض ب (أدمة الأرض) ، وقیل هذاهو السبب فی تسمیة آدم لأنه خلق من أدیم الأرض.
2- 2) «عکاظ» کما ذکرنا سابقا سوق کانت تقیمها العرب فی العصر الجاهلی قرب مکة فی صحراء بیت نخلة والطائف یجتمعون إلیه لیتعاکظوا؛ أی یتفاخروا، وکان تفاخرهم قبلی عادة ما یقود إلی الحروب الدامیة.

زمان الإمام علیه السلام. وذکر البعض أنّ العبارة إشارة إلی مستقبل الکوفة وتقسیمها إلی أجزاء متعددة، علی غرار تقسیم الجلد العکاظی ودبغه وتوسیعه. ثم قال علیه السلام «تعرکین (1)بالنوازل (2)وترکبین بالزلازل» وقد ورد مثل هذا المعنی فی الخطبة 108 بقوله: «تعرککم عرک الأدیم» أی یسلط علیکم بنی أمیة فیسومونکم سوء العذاب. ونبوءته الثانیة التی تمثلت بقوله علیه السلام: « إنّی لأعلم أنّه ما أراد بک جبار سوءاً إلّاإبتلاه اللّه بشاغل ورماه بقاتل» . ویمکن أن تکون العبارة «ابتلاه اللّه بشاغل» إشارة إلی الأمراض العضال والالام التی تشغل الظلمة وتصرفهم عن الناس، کما أنّ «ورماه بقاتل» الحوادث التی تهجم علی الإنسان من الخارج فتقتله وتقضی علیه.

والحق أنّ ما تکهن به الإمام علیه السلام بشأن الکوفة قد حدث، حیث إتسعت إتساعاً کبیراً بعد الإمام علیه السلام وکانت علی الدوام مرکزا للفتن والحوادث المریرة، وقد هب أغلب الجبابرة للسیطرة علیها، إلّاأنّ اللّه کان یبتلیهم بأنواع البلاء ویدفع شرهم عنها، ولعل ذلک یعزی لکون الکوفة تشکل مرکز استقطاب خلص المؤمنین من الشیعة الأوفیاء لعلی بن أبی طالب علیه السلام وإن کان بینهم بعض المنافقین. ومن هنا صرحت بعض الروایات بفضل الکوفة. أمّا من بین الأفراد الذین هموا بالکوفة بعد أمیرَالمؤمنین علیه السلام زیاد بن أبیه. فقد ورد فی بعض الروایات أنّ زیادا لما حصبه أهل الکوفة، وهو یخطب علی المنبر، فقطع أیدی ثمانین منهم، وهم أن یخرب دورهم، ویجمر نخلهم، فجمعهم حتی ملأ بهم المسجد والرحبة، یعرضهم علی البراءة من علی علیه السلام؛ وعلم أنّهم سیمتنعون فیحتج بذلک علی استئصالهم وإخراب بلدهم. فخرج خارج من القصر فقال: إنصرفوا، فانّ الأمیر یقول لکم: إنّی عنکم الیوم مشغول؛ وإذا بالطاعون قد ضربه، فکان یقول: إنّی لأجد فی النصف من جسدی حر النار حتی مات. (3)

رأیان فی الکوفة

وردت عدة عبارات فی نهج البلاغة بشأن الکوفة وأهلها، ومن ذلک الخطبة المذکورة التی

ص:334


1- 1) «تعرکین» من مادة «عرک» علی وزن درک، من عرکت القوم الحرب إذا مارستهم حتی أتعبتهم.
2- 2) «نوازل» جمع نازلة بمعنی الحوادث الشدیدة.
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 198. [1]

أشارت إلی المکانة المقدسة للکوفة وأنّها ستشهد حوادثاً مریرة وألیمة، وأنّ اللّه حافظها من کل جبار عنید. بینما وردت بعض الخطب التی تذم الکوفة، ومن ذلک الخطبة 25 حیث خاطب الإمام علیه السلام الکوفة قائلاً «إنّ لم تکونی إلّاأنت تهب أعاصیرک فقبحک اللّه» . الروایات هی الاُخری صرحت بمدح الکوفة، فقد جاء فی الحدیث عن أمیرالمؤمنین علیه السلام أنّه قال بشان الکوفة «هذه مدینتنا ومحلتنا ومقر شیعتنا» (1)، کما جاء فی روایة أنّ الإمام الصادق علیه السلام دعا للکوفة قائلاً: «اللّهم ارم من رماها وعاد من عاداها» وللجمع بین الروایات نقول إنّ الکوفة ذاتا مقدسة وأهلها من خلص شیعة أهل البیت علیهم السلام ممن یتحلون بالورع والتقوی، إلّاأنّ أجواء الکوفة تلوثت بفعل سیطرة بنی أمیة ودس العیون والجواسیس فیها وأعان الظلمة وتسلیط الفساق علیها وایداع بیت المال إلی عبدة الأهواء. فاذا مدحت الکوفة فالمراد اُولئک النجباء من الشیعة، وان ذمت فلذلک الفساد الذی طالها من قبل بنی أمیة. ونکتفی بهذا القدر علی أن نخوض فی جوانب هذا الموضوع فی الابحاث القادمة ذات الصلة.

ص:335


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 198. [1]

ص:336

الخطبة الثامنة و الاربعون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

عند المسیر إلی الشام، قیل: إنّه خطب بها وهو بالنخیلة خارجاً من الکوفة إلی صفین.

نظرة إلی الخطبة

تشتمل هذه الخطبة علی قسمین: الأول وجریا علی عادته فی خطبه علیه السلام فی الحمد والثناء والشکر للنعم الإلهیة علی العباد، والثانی یطلع الجیش علی خطته فیمن بعثهم من المقدمة ویصف لهم المسیر لیلتحقوا بهم، وتعئبة عدداً من القبائل التی کانت تسکن أطراف دجله وتسییرهم لمقاتلة العدو، ویبدو أنّ الإمام علیه السلام أراد أن یذکر اتباعه فی النخیلة الذین لم یکونوا کثیراً بانهم لیسوا وحدهم فی صفین وأنّه سیعبئ من کان فی مسیرهم للقتال لیزدادوا عدداً وعدّةً.

ج ج

ص:337


1- 1) سند الخطبة: کما ذکر سابقاً فانّ الإمام خطبها بالنخیلة حین تجهز لصفین خارجاً من الکوفة. وقد جاء فی کتاب مصادر نهج البلاغة أنّه خطبها فی الخامس والعشرین من شوال سنة 37 ه وهو بالنخیلة خارجاً من الکوفة، وأضاف طبقاً لنقل ابن أبی الحدید أنّه ذکرها جماعة من أصحاب السیر وزاد وفیها، ومنهم نصر بن مزاحم فی کتاب صفین (مصادر نهج البلاغة 2 / 16) . [1]

ص:338

القسم الأول: استحقاق اللّه للحمد والثناء

«الْحَمْدُ لِلَّهِ کُلَّما وَقَبَ لَیْلٌ وَغَسَقَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ کُلَّما لاحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ غَیْرَ مَفْقُودِ الْإِنْعامِ، وَلا مُکافَإِ الْإِفْضَالِ» .

الشرح والتفسیر

یعرض الإمام علیه السلام للّه بالحمد والثناء فی القسم الأول هذه الخطبة بعبارات جدیدة عظیمة المعانی وقد أشار إلی قضایا جدیدة فقال «الحمدللّه کلما وقب (1)لیل وغسق (2)، والحمدللّه کلما لاح (3)نجم وخفق» (4)فالعبارة تشیر إلی نقطتین: الاولی أنّ حمدنا وثنائنا دائمی باقی مادام اللیل والنهار متعاقبین دائمین، وهکذا هو مستمر إستمرار طلوع الکواکب وغروبها، النقطة الاُخری هی أنّ ظلمة اللیل وطلوع الکواکب وغروبها من النعم الإلهیة الکبری، فظلمة اللیل تهب الإنسان الهدوء والسکینة بعد تعب النهار وعناء العمل فیه، فطبیعة اللیل والظلمة تختزن الراحة والخلود إلی النوم ومن هنا کانت اللیالی الظلماء الخالیة من المصابیح تعد أفضل الأوقات للنوم؛ الأمر الذی أشارت إلیه الآیة 72 من سورة القصص «قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ

ص:339


1- 1) «وقب» من مادة «وقب» الحفرة فی الأرض أو الجبل، ویقال للشی وقب إذا دخل الحفرة أو الظلام، ومن هنا کان المعنی دخل اللیل.
2- 2) «غسق» یعنی شدة الظلمة، ولما کانت اللیل یشتد ظلمة کلما اقترب من منتصفه فانّ الغسق کنایة عن منتصف اللیل أیضاً ومن هنا قال المفسرون: «أقم الصلوة لدلوک الشمس إلی غسق اللیل» إشارة إلی الصلوات الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقرآن الفجر صلاة الصبح (سورة الاسراء / 78) . [1]
3- 3) «لاح» من مادة «لوح» بمعنی الظهور والبزوغ. وتستخدم فی کل وجود مضییء ویطلق اللوح علی الصفیحة البیضاء التی تصنع من الخشب أو الفلز.
4- 4) «خفق» من مادة «خفق» و «خفوق» بمعنی الغیاب والتزلزل والحرکة، ومن هنا تستعمل حین یغرب القمر أو الشمس أو کوکب.

عَلَیْکُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلی یَوْمِ القِیامَةِ مَنْ إِلهٌ غَیْرُ اللّهِ یَأْتِیکُمْ بِلَیْلٍ تَسْکُنُونَ فِیهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ» وقال «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْکُنُوا فِیهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ» (1)وقد ورد هذا المعنی فی عدة آیات قرآنیة، کما دلت الأیحاث العلمیة علی أنّ الیقظة فی اللیل والنوم فی النهار یشکل خطراً جدیاً علی صحة الإنسان، أمّا فائدة طلوع الکواکب وغروبها فلیست بخافیة علی أحد وذلک لمعرفة الأوقات والاهتداء فی البحار والصحاری بواسطة هذه النجوم والکواکب «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُم النُّجومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالبَحْرِ» (2)وجاء فی القرآن أیضاً «وَبِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ» (3). أمّا الروایات التی شبهت أهل البیت علیهم السلام بالنجوم فواضح من أنّهم وسیلة الهدایة فی الظلمات والمتاهات وعدم الانحراف عن الصراط المستقیم، ولعل إشارة الإمام علی علیه السلام إلی ظلمة اللیل وطلوع النجوم وغروبها من دون سائر النعم تهدف إلی بیان حقیقة وهی أنّ خروج أهل الشام علی الإمام علیه السلام یمثل حلول عصر الظلمة التی لا یمکن النجاة منها إلّاببزوغ کوکب الولایة ثم خاض الإمام علیه السلام فی نوع آخر من النعم التی تستلزم الحمد، فقال «والحمدللّه غیر مفقود الانعام، ولا مکافإ الإفضال» (4)فالعبارة الاولی تعنی أنّ النعم الإلهیة غیر قابلة للاحصاء، أمّا الثانیة فهی تشیر إلی عجز العباد عن مکافئة هذه النعم وذلک لأنّه أولاً عنی عمن یکافئ نعمه، وثانیاً: أنّ القدرة علی شکره وحمده بحد ذاتها نعمة اُخری، لأنّ الشکر نعمة توجب المزید، فقد ورد فی مناجاة الشاکرین للإمام علی بن الحسین علیه السلام: «فکیف لی بتحصیل الشکر؟ وشکری إیّاک یفتقر إلی شکر! فکلما قلت لک الحمد، وجب علی لذلک أن أقول لک الحمد» (5). ومن هنا فان أعظم شکرنا هو إذعاننا بالعجز عن الشکر. فقد ورد فی حدیث عن الصادق علیه السلام أنّ اللّه أوحی إلی موسی علیه السلام ان اشکرنی! فقال علیه السلام کیف أشکرک وشکری نعمة تحتاج إلی شکر. فجاءه الخطاب الآن أدیت شکری. (6)

ص:340


1- 1) سورة القصص / 73. [1]
2- 2) سورة الانعام / 97. [2]
3- 3) سورة النحل / 16. [3]
4- 4) «افضال» من مادة «فضل» بمعنی الإحسان.
5- 5) المناجاة الخمسة عشر، مناجاة الشاکرین، بحارالانوار 91 / 146. [4]
6- 6) بحارالانوار 13 / 351 ح 41. [5]

القسم الثانی: تعبئة القوی لمواجهة العدو

اشارة

«أَمّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِی وَأَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذا الْمِلْطاطِ حَتَّی یَأْتِیَهُمْ أَمْرِی وَقَدْ رَأَیْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ النُّطْفَةَ إِلَی شِرْذِمَةٍ مِنْکُمْ مُوَطِّنِینَ أَکْنافَ دِجْلَةَ، فَأُنْهِضَهُمْ مَعَکُمْ إِلَی عَدُوِّکُمْ وَأَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدادِ الْقُوَّةِ لَکُمْ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام إلی برنامج وخطة حربیة فقال «أما بعد فقد بعثت مقدمتی (1)وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط (2)حتی یأتیهم أمری» فنهر الفرات یقع غرب دجلة، فیکون دجلة شرقه، وعلیه فان مقدمة جیش الکوفة تتحرک من جانب الفرات إلی الشمال باتجاه الجانب الغربی للفرات، وقد أمر الإمام علیه السلام بمواصلة هذا السیر من قبل الجیش، بینما إتجه علیه السلام من الفرات إلی الشرق نحو المدائن لتعبئة أکبر عدد ممکن من الناس، ثم قال علیه السلام «وقد رأیت أن أقطع هذه النطفة (3)إلی شرذمة (4)منکم موطنین أکناف (5)دجلة، فأنهضهم معکم إلی عدوکم وأجعلهم

ص:341


1- 1) «مقدمة» بکسر الدل بمعنی المتقدم و بفتح الدال المبعوث مسبقا و تطلق المفردتان علی طلیعة الجیش یعنی الطائفة التی تتحرک أمام العسکر لتطلعه علی ما یواجهه من أحداث.
2- 2) کما ذکرنا سابقا فإن ملطاط اقتبست من مادة «لط» «لطط» و میمها زائدة، و تعنی هذه المادة الإقتراب و المرافقة، و من هنا یقال «لط» للقادة لأنها ترافق العنق دائما، کما یقال الملطاط لشاطیء النهر و البحر، بینما أعتبرها البعض الآخر من أرباب اللغة من مادة «ملط» علی وزن «شرط» و لیس هناک من فارق مع سابقتها من حیث المعنی و إن تفاوت اللفظ.
3- 3) «نطفة» الماء الصافی القلیل أم الکثیر، ویطلق أحیانا بمعنی کل ماء جار و مائع سیال.
4- 4) «شرذمة» تعنی فی الأصل الجماعة القلیلة و ما یتبقی من الشیء، و یقال الشرذمة لما یفصل عن الثمرة.
5- 5) «أکناف» جمع «کنف» علی وزن «هدف» بمعنی أطراف الشیء، و حیث تکون أطراف الأشیاء سببا لستر الاقسام الباطنیة فانه یقال «الکنیف» للجدران الأربعة التی یستتر فیها الإنسان، و کذلک یطلق علی الواقی و الدرع الذی یحفظ الإنسان من ضربات الأعداء.

من أمداد القوة لکم» . وهکذا ورد الإمام علیه السلام شرق العراق والمدائن، وبینما کانت مقدمة جیش الإمام علیه السلام تواصل زحفها فی غرب الفرات، ولما بلغهم قدوم معاویة نحوهم بجیش عظیم، عبروا الفرات واتجهوا إلی الشرق صوب الإمام علیه السلام حذراً من محاصرتهم من قبل العدو ولم یستعدوا بعد لخوض القتال، فاستحسن ذلک منهم الإمام علیه السلام فلما اکتمل الجیش سار به الإمام علیه السلام لمواجهة العدو. جدیر بالذکر أنّ مفردة «ملطاط» من مادة ملط أو لط هنا بمعنی شاطئ الفرات - نعم فقد دلهم الإمام علیه السلام المسیر لیتقدموا من جانب شاطئ الفرات لأنّ الشام کانت فی جهة الشمال، والفرات ینحدر من الشمال إلی الجنوب، وهکذا لا یکون الجیش فی مشقة من حیث الماء والهواء وظلال الأشجار، ولا یضلون الطریق، إلی جانب سهولة الالتحاق بهم، وعلیه فهذا المسیر ینطوی علی عدّة فوائد والتعبیر بالنطفة عن ماء الفرات حسب ما قال السید الرضی (ره) هو من غریب العبارات وعجیبها، فالمفردة علی ضوء ما صرح به جمع من أرباب اللغة تعنی الماء الخالص، وقیل الماء الجاری، وکیفما کان فهی إشارة إلی عذوبة ماء الفرات وخلوه من الاملاح، وإن کان ظاهره قلیل الکدورة.

قال السید الرضی (ره) : یعنی علیه السلام بالملطاط هاهنا السمت الذی أمرهم بلزومه، وهو شاطئ الفرات، ویقال ذلک أیضا لشاطئ البحر، وأصله ما استوی من الأرض، ویعنی بالنطفة ماء الفرات، وهو من غریب العبارات وعجیبها.

أخبار علی علیه السلام فی جیشه وهو فی طریقه إلی صفین

ذکر بعض شراح نهج البلاغة فی ذیل هذه الخطبة بعض القضایا التأریخیة التی نشیر إلیها هنا:

1- فی قصر کسری

سار علیه السلام حتی انْتهی إلی المدائن وقصر کسری وإذ رجل من أصحابه أنشد: جرت الریاح علی محل دیارهم فکأنما کانوا علی میعاد!

فقال له علیه السلام: ألا قلت:

«کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُیُونٍ* وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ کَرِیمٍ * وَنَعْمَةٍ کانُوا فِیها فاکِهِینَ * کَذ لِکَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِینَ * فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما کانُوا مُنْظَرِینَ» (1)

2- فی الأنبار

مرّ علیه السلام بالأنبار (أحد المدن الغربیة فی العراق) فتقدم دهاقنتها إلیه فلما استقبلوه، نزلوا عن خیولهم، ثم جاءوا یشتدّون معه، وبین یدیه ومعهم براذِین قد أوقفوها فی طریقه، فقال: ما هذه الدّوابّ التی معکم؟ وما أردتم بهذا الذی صنعتم؟ قالوا: أمّا هذا الذی صنعنا فهو خُلُق مِنّا نعظّم به الأمراء؛ وأمّا هذه البراذین فهدّیة لک، وقد صنعنا للمسلمین طعاماً، وهیّأناً لدوابّکم عَلفاً کثیراً.

فقال علیه السلام: أمّا هذا الذی زعمتم أنّه فیکم خُلُق تعظّمون به الأمراء فو اللّه ما ینفع ذلک الأمراء؛ وإنّکم لتشقّون به علی أنفسکم وأبدانکم، فلا تعودوا له. وأمّا دوابّکم هذه؛ فإنْ أحببتم أن آخذَها منکم، وأحسبها لکم من خَراجِکم أخذناها منکم. وأمّا طعامکم الذی صنعتم لنا؛ فإنا نکرهُ أن نأکلَ من أموالکم إلّابثمن.

3- قرب الدیر

علیّ علیه السلام فی مسیره إِلی الشام؛ حتی إذا کُنا بظهر الکوفة من جانب هذا السّواد، عطش الناس احتاجوا إلی الماء، فانطلق بنا علیّ علیه السلام حتی أتی بنا إلی صخرة ضِرْس فی الأرض؛ کأنّها رُبْضَةُ عنز؛ فأمرنا فاقتلعناها، فخرج لنا من تحتها ماء، فشرِب الناس منه، وارتوَوْا. ثم أمرنا فأکفأناها علیه. وسار الناس حتی إذا مضی قلیلاً، قال علیه السلام: أمِنْکم أحدٌ یعلم مکان هذا الماء الذی شربتم منه؟ قالوا: نعم یا أمیرالمؤمنین، قال: فانطِلقوا إلیه، فانطلق مِنّا رجالٌ رکباناً ومشاة، فاقتصصنا الطریق إلیه؛ حتی انتهینا إلی المکان الذی نری أنّه فیه، فطلبناه، فلم نقدر علی شیء، حتی إذا عِیلَ علینا انطلقنا إلی دیْرٍ قریب مِنّا، فسألناهم: أین هذا الماء الذی عندکم؟ قالوا: لیس قُرْبَنا ماء، فقلنا: بلی إنّا شربنا منه، قالوا: أنتم شَرِبتم

ص:342


1- 1) سورة الدخان / 25 - 29. [1]

فقال له علیه السلام: ألا قلت:

«کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُیُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ کَرِیمٍ * وَنَعْمَةٍ کَانُوا فِیهَا فَاکِهِینَ * کَذَلِکَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِینَ * فَمَا بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا کَانُوا مُنْظَرِینَ ((1)

2- فی الأنبار

مر لا بالأنبار (أحد المدن الغربیة فی العراق) فتقدم دهاقنتها إلیه فلما استقبلوه، نزلوا عن خیولهم، ثم جاءوا یشتدون معه، وبین یدیه ومعهم براذین قد أوقفوها فی طریقه. فقال: ما هذه الدوات التی معکم؟ وما أردتم بهذا الذی صنعته؟ قالوا: أما هذا الذی صنعنا فهو خلق مئا نعم به الأمراء؛ وأما هذه البراذین فهدیة لک، وقد صنعنا للمسلمین طعامة، وهیأنا لدوابکم علفا کثیرة.

فقال علیه السلام: أما هذا الذی زعمتم أنه فیکم حق تعظمون به الأمراء فو الله ما ینفع ذلک الأمراء؛ وإنکم لتشقون به علی أنفسکم وأبدانکم، فلا تعودوا له. وأما دوابکم هذه؛ فإن أحببتم أن آخذها منکم، وأحسبها لکم من خراجکم أخذناها منکم. وأنا طعامکم الذی صنعتم لنا؛ فإنا نکره أن نأکل من أموالکم إلا بثمن. اسدی

٣- قرب الدیر

علی علیه السلام فی مسیره إلی الشام؛ حتی إذا گنا بظهر الکوفة من جانب هذا السوادء عطش الناس احتاجوا إلی الماء، فانطلق بنا علی علیه السلام حتی آتی بنا إلی صخرة ضژس فی الأرض؛ کأنها ژبضة عنز؛ فأمرنا فاقتلعناها، فخرج لنا من تحتها ماء، فشرب الناس منه، وارتووا. ثم أمرنا فأکفأناها علیه. وسار الناس حتی إذا مضی قلیلا. قال علیه السلام: أمنکم أحد یعلم مکان هذا الماء الذی شربتم منه؟ قالوا: نعم یا أمیر المؤمنین. قال: فانطلقوا إلیه، فانطلق یا رجال رکبانا ومشاة، فاقتصصنا الطریق إلیه؛ حتی انتهینا إلی المکان الذی نری أنه فیه، فطلبناه، فلم نقدر علی شیء، حتی إذا عیل علینا انطلقنا إلی دیر قریب متا، فسألناهم أین هذا الماء الذی عندکم؟ قالوا: لیس تربنا ماء، فقلنا: بلی إنا شربنا منه، قالوا: أنتم شربتم

ص:343


1- دخان 25-29

منه! قلنا: نعم، فقال صاحب الدَّیْر: واللّه ما بُنِی هذا الدیر إلّابذلک الماء، وما استخرجه إلّانبیّ أو وصیّ نَبیّ.

قال العلامة المجلسی فما کان من الراهب إلا أن أتی الإمام علیه السلام وأعلن إسلامه ولازم الإمام علیه السلام حتی إستشهد لیلة الهریر فصلی الإمام علیه السلام علیه وأنزله القبر وقال: والله إنی لأری موضعه فی الجنة.

4- فی الرقة

ثم سار حتی أتی الرَّقّة - وجلّ أهلها عثمانیة، فَرّوا من الکوفة إلی معاویة - فأغلقوا أبوابَها دونه، وتحصنّوا، وکان أمیرهم سماک بن مخرقة الأسدیّ فی طاعة معاویة، وقد کان فارق علیاً علیه السلام فی نحو من مائة رجل من بنی أسد، ثم کاتب معاویة، وأقام بالرَّقّة حتی لَحِق به سبعمائة رجل.

قال نصر: فروی حَبّة أن علیّاً علیه السلام لما نزل علی الرّقة، نزل بموضع یقال له البَلِیخ علی جانب الفرات، فنزل راهب هناک من صَوْمعته، فقال لعلیّ علیه السلام: إنّ عندنا کِتاباً توارثناه عن آبائنا، کتبه أصحابُ عیسی بن مریم، أعِرضه علیک؟ قال: نعم، فقرأ الراهب الکتاب:

بسم اللّه الرحمن الرحیم. الذین قضی فیما قضی، وسَطّر فیما کتب: أنه باعثٌ فی الأمیّین رسولاً منهم؛ یعلّمهم الکتابَ والحکمة، ویدلّهم علی سبیل اللّه، لا فظٌّ ولا غلیظ؛ ولا صَخّابٌ فی الأسواق، ولا یجزی بالسیئة السیئة، بل یعفُوا ویصفح، أمّته الحمّادون الذین یحَمدون اللّه علی کل نَشر، وفی کل صَعود وهَبوط، تذِلّ ألسنتهم بالتکبیر والتهلیل، والتسبیح؛ وینصرهُ اللّه علی من ناوأه؛ فإذا توفّاه اللّه، اختلف أُمتهُ من بعده؛ ثم اجتمعت، فلبث ما شاءاللّه، ثم اختلفت، فیمرّ رجل من أمته بشاطیء هذا الفُرات، یأمر بالمعروف وینهی عن المنکر، ویقضِی بالحقّ ولا یرکُس الحکم، الدنیا أهون علیه من الرّماد فی یوم عصفت به الریح، والموت أهون علیه من شُرب الماء علی الضمآن. یخاف اللّه فی السرّ، وینصح له فی العلانیة، لا یخاف فی اللّه لومةَ لائم؛ فمن أدرک ذلک النبیّ مِنْ أهل هذه البلاد فآمن به کان ثوابه رضوانی والجنّة، ومَنْ أدرک ذلک العبد الصالح فلینصرْه، فإنّ القتل معه شهادة.

ص:344

ثم قال له: أنا مصاحبُک، فلا أفارقُک حتی یصیبَنی ما أصابک. فبکی علیه السلام، ثم قال: الحمدللّه الذی لم أکُنْ عنده منسیًّا، الحمدللّه الذی ذکرنی عنده فی کُتُب الأبرار.

فمضی الراهب معه، فکان فیما ذکروا یتغدّی مع أمیرالمؤمنین ویتعشّی، حتی أصیب یوم صفین؛ فلما خرج الناس یدفنون قتلاهم قال علیه السلام: اطلبوه، فلما وجده صلّی علیه ودفنه. وقال: هذا مِنّا أهلَ البیت، واستغفر له مراراً. (1)

نزول علیّ بکربلاء

فلما نزل بکَرْبَلاء صلّی بنا، فلما سلّم رفع إلیه من تُربتها فشمّها، ثم قال: واها لک یا تُرْبة! لُیحشَرَنّ منک قومٌ یدخلون الجّنة بغیر حساب. ثم قال «هیهنا موضع رحالهم ومناخ رکابهم ثم أومأ بیده إلی مکان آخر وقال: هیهنا مراق دمائهم» .

ص:345


1- 1) وردت هذه القضایا التأریخیة فی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3/288. [1]

ص:346

الخطبة التاسعة والاربعون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

وفیه جملة من صفات الربوبیة والعلم الإلهی

نظرة إلی الخطبة

تدور الخطبة حول صفات الربوبیة والعلم الإلهی - کما ورد سابقاً - وتتضمن إشارات عمیقة المعانی إلی جوانب من صفات الجلال والجمال وتنزیه الذات الإلهیة المقدسة من مزاعم الملحدین والمشبهة التی تشبه اللّه بالمخلوقات

ص:347


1- 1) سند الخطبة: رواها جمع ممن عاش بعد السید الرضی (ره) ومنهم العلامة المجلسی فی روضة البحار وعلی بن محمد بن شاکر الواسطی فی کتاب عیون الحکم والمواعظ (مصادر نهج البلاغة، 2/18) .

ص:348

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی بَطَنَ خَفِیّاتِ الْأَمُوُرِ، وَدَلَّتْ عَلَیْهِ أَعْلامُ الظُّهُورِ، وَامْتَنَعَ عَلَی عَیْنِ الْبَصِیرِ فَلا عَیْنُ مَنْ لَمْ یَرَهُ تُنْکِرُهُ، وَلا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ یُبْصِرُهُ، سَبَقَ فِی الْعُلُوِّ فَلا شَیْءَ أَعْلَی مِنْهُ وَقَرُبَ فِی الدُّنُوِّ فَلا شَیْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ فَلا. اسْتِعْلاؤُهُ باعَدَهُ عَنْ شَیْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلا قُرْبُهُ ساواهُمْ فِی الْمَکانِ بِهِ. لَمْ یُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَی تَحْدِیدِ صِفَتِهِ، وَلَمْ یَحْجُبْها عَنْ واجِبِ مَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ الَّذِی تَشْهَدُ لَهُ أَعْلامُ الْوُجُودِ عَلَی إِقْرارِ قَلْبِ ذِی الْجُحُودِ، تَعالَی اللّهُ عَمّا یَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً کَبِیراً!»

الشرح والتفسیر

المنزه عن الظن والخیال

ذکرنا سابقاً أن الخطبة واردة فی صفات الجلال والجمال، حیث أشارت إلی عدد من أسماء اللّه الحسنی بعبارات قصیرة بعیدة المعنی، فقد استهل الخطبة بذکر خمس صفات من صفاته التی توضح کل واحدة منها الاُخری فقال «الحمدللّه الذی بطن (1)خفیات الاُمور ودلت علیه أعلام الظهور» ولیس للعین من سبیل إلی رؤیته «وامتتع علی عین البصیر» ومن هنا «فلا عین من لم یره تنکره ولا قلب من أثبته یبصره» . وقد أورد شرّاح نهج البلاغة عدّة تفسیرات لقوله علیه السلام «الذی بطن خفیات الاُمور» فقال البعض: بطن هنا بمعنی علم، وقیل بطن هنا بمعنی الخفاء؛ أی اللّه الذی خفیت به الأسرار، إلّاأنّ التفسیر الذی ذکرناه أنسب وهو أن

ص:349


1- 1) «بطن» من مادة «بطن» علی وزن متن تستعمل للأشیاء الخفیة، ویقال بطنت الأمر بمعنی علمت ببواطنةوأسراره. ولما کان داخل البطن خفی فقد استعملت هذه المفردة بشأن کل شیء خفی، وباطن الأشیاء بمعنی داخلها، وله معنی الفعل اللازم والمتعدی.

بطن بمعنی الخفاء ومفهوم العبارة أنّ اللّه مخفی فی الأسرار، وبعبارة أخری فانّ ذاته أعظم خفاءاً من الخفاء، وزبدة الکلام فان مفهوم العبارة ما أنشده الفیلسوف فی شعره: وجوده من أظهر الاشیاء وکنهه فی غایة الخفاء

أمّا العبارة «دلت علیه أعلام الظهور» فتعنی أنّ آیاته ظاهرة جلیة فی کل مکان، فی السموات والنجوم والمجرات والمنظومات وفی الأرض فی الصحاری والبحاری والجبال والأنهار وعلی جبین کافة الکائنات الحیة فی أوراق الأشجار والبراعم والثمار وفی باطن الذرات والجزئیات. وبالطبع کلما تقدم العلم وکشفت الأسرار ازدادت الاَدلة والآیات علی قدرة الذات الإلهیة وعلمها المطلق. والعبارة الثالثة «وامتنع علی عین البصیر» تفید تعذر رؤیة جماله سبحانه علی أحدّ العیون، وذلک لأنّ المشاهدة الحسیة إنّما تختص بالجسم والجسمانیات ذات الجهة والمکان، بینما ذاته المطلقة لیست بجسم ولا جسمانیة ولیس لها من جهة أو مکان، بل هی مطلقة منزهة عن کل هذه العوارض والنقائص «لا تُدْرِکُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ» (1). ولما سأل موسی علیه السلام من جانب بنی إسرائیل ربّه «رَبِّ أَرِنِی أَنْظُرْ إِلَیْک َ» الشهود الحسی، خوطب «لَنْ تَرانِی» (2)ثم شاهد موسی علیه السلام قبسات من تجلیات اللّه التی دکت الجبل فصعق موسی ومن معه فلما أفاق قال «سُبْحانَک َ تُبْتُ إِلَیْک َ وَأَنَا أَ وَّلُ الْمُؤْمِنِینَ» والعبارة «فلا عین من لم یره. . .» نتیجة طبیعة تشیر إلی أنّ العاقل لا یسعه إنکار الذات الإلهیة المقدسّة بفعل وجود هذه الأدلة والآیات، رغم تعذر المشاهدة الحسیة، أما المؤمنون باللّه فلا ینبغی لهم أن یعتقدوا بمشاهدته حتی قلبیاً، وبالطبع یمکن رؤیته قلباً کما ورد عنه علیه السلام «لا تدرکه العیون بمشاهدة العیان ولکن تدرکه القلوب بحقائق الإیمان» (3)، غیر أنّ هذه المشاهدة تتعلق بالأسماء والصفات لا مشاهدة کنه الذات، وهنا یصدح حتی أولیاءاللّه فضلاً عن عامة المخلوقات «ما عرفناک حق معرفتک» ثم قال علیه السلام: «سبق فی العلو فلا شیء أعلی منه وقرب فی الدنو فلا شیء أقرب منه» ثم یخلص علی علیه السلام

ص:350


1- 1) سورة الانعام / 103. [1]
2- 2) سورة الاعراف / 143. [2]
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 179. [3]

إلی هذه النتیجة «فلا استعلاؤه (1)باعده عن شییء من خلقه ولا قربه ساواهم فی المکان به» لعله یتصور بأنّ هذه الصفات تناقض مع بعضها فکیف یکون الشی بعیداً عالیاً وفی نفس الوقت قریباً ملازماً؟ کیف یکون بعیداً فی القرب وقریباً فی البعد؟ نعم إذا کان المقیاس هو المخلوقات التی من حولنا فهناک تناقض، غیر أنّ الالتفات إلی هذه النقطة یزیل مثل هذا التناقض ویرشد إلی معرفة صفات اللّه، وهی أنّ وجوده سبحانه لامنتاهی وغنی ومطلق من جمیع الجهات، وهو الوجود الذی لایشوبه أیة محدودیة من حیث الزمان والمکان والعلم والقدرة، بل هو فوق الزمان والمکان فهو فی کل مکان وکل زمان وفی نفس الوقت لیس له مکان ولا زمان. ومثل هذا الوجود قریب من جمیع الأشیاء وهو بعید عنها جمیعاً لأنّه لا یشبهها، هو أظهر من کل شی، لأنّ کل شی متقوم بوجوده، وهو ابطن من کل شی لأنّه لا یشبه المخلوقات والکائنات التی نعرفها ونألفها. وبناءا علی هذا فالمراد بالعلو فی العبارة المذکورة فوقیته للوجود وعلوه علیه لا علوه فی المکان، والمراد بالقرب قربه فی الاحاطة الوجودیة لا القرب فی المکان. وهنا لابدّ من الاذعان إلی أن فهم وإدراک هذه الصفات لیس سهلاً علینا بفعل تعاملنا مع صفات الممکنات؛ إلّاأنّه یمکن تقریبها إلی الأذهان من خلال التأمل والاستعانة ببعض الأمثلة وإن کانت ناقصة قاصرة. علی سبیل المثال للرد علی السؤال الذی یقول کیف یکون له وجود فی کل مکان وزمان ولا یحویه مکان وزمان، یمکننا أن نستعین ببعض الأمثلة الناقصة من قبیل بعض المعادلات والقوانین الریاضیة، فکلنا نعلم بأنّ (2 +2 4) فهی صادقة فی کل زمان ومکان فی السماء والأرض، وفی نفس الوقت لیس لها من زمان أو مکان. فقوله علیه السلام: «فلا استعلاؤه باعده عن شی من خلقه ولا قربه ساواهم فی المکان به» نتیجة واضحة لتلک الحقیقة المذکورة، فقد قال بعض شرّاح نهج البلاغة بعد أن إستعانوا بمثال ناقص إلّاأنّه مناسب، فی أنّ أمواج الضوء تنعکس علی الزجاج وتنفذ إلی داخله فتضیئها، وهی فی نفس الوقت أقرب إلیها من کل شی، وهی لیست مثلها، بل هی وجود لطیف وأعلی وأرفع، ولعل هذا المعنی هو المراد بالآیة «اللّهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ. . .» (2)ثم

ص:351


1- 1) الاستعلاء قد یکون بمعنی الافضلیة وارید بها هنا هذا المعنی.
2- 2) سورة النور / 35. [1]

أشار علیه السلام إلی صفة اُخری: «لم یطلع العقول علی تحدید صفته ولم یحجبها عن واجب معرفته» فکنه ذاته لیس واضح لأحد ولا حقیقة صفاته، لأنّ ذاته وصفاته لا متناهیة، فأنی لعقل الإنسان المتناهی والمحدود أن یحیط باللامتناهی واللامحدود مع ذلک فانّ أثاره الوجودیة التی تجلت فی کافة الوجودات جعلت الإنسان یلم علی سبیل الإجمال بذاته وصفاته وإلیک هذا المثال الناقص: کلنا نعلم بوجود الروح، وانّ الزمان حقیقة واقعة، إلّاأنّ إدارک حقیقة الروح وا لزمان لیس بالامر إلهین. وکلنا نعرف الفارق بین الکائن الحی والمیت، ولکن ما کنه حقیقة الحیاة؟ یبدو فهم ذلک صعباً، بعبارة أخری لنا علم إجمالی بهذه الاُمور لاتفصیلی (1)ثم قال علیه السلام «فهو الذی تشهد له أعلام الوجود علی إقرار قلب ذی الجحود (2)» الواقع أن جاحدی اللّه إنّما یجحدوه لساناً بینما یقرون به قلباً «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ فَأَ نّی یُؤْفَکُونَ *. . . وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَیَقُولُنَّ اللّهُ قُلِ الحَمِدُ لِلّهِ بَلْ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ» (3). کیف یمکن إنکار وجود اللّه وکل شی یهتف باسمه ویتقوم بوجوده. ثم إختتم علیه السلام کلامه بالقول «تعالی اللّه عما یقول المشبهون به والجاحدون له علواً کبیراً» والمشبهة علی نوعین: من یشبه اللّه بعباده فیری له جسماً ویداً ورجلا، والآخر من یشبه الآخرین به فیری له شریکاً وشبیهاً فیعبده ویسجد له بدلاً من اللّه. وقد ذهب بعض الشرّاح إلی المعنی الأول هو المراد من العبارة، فی حین ذهب البعض الآخر إلی المعنی الثانی، ویبدو المعنی الثانی أصح إستناداً لقوله «المشبهون به» وان کانت الطائفتان علی خطأ، لأنّه لایشتمل علی صفات المخلوقین بحیث تتخلل الحوادث ذاته المقدسة، ولا یمکن لمخلوق أن یشمل مکانه لأنّه لا یتحلی بأی من صفاته.

ص:352


1- 1) للوقوف علی المزید بهذا لاشأن راجع المجلد الأول من الشرح، الخطبة الاولی.
2- 2) «جحود» و «جحد» بمعنی الإنکار الممزوج بالعلم - وقال الراغب فی المفردات تعنی نفی ما ثبت فی القلب، أو إثبات ما نفاه القلب - وعلیه ففی مفهوم الجحود نوع من التعصب والعداء الخفی ضد الحق.
3- 3) سورة العنکوبت / 61 - 63.

وجوده ظاهر وکنه ذاته خفی

لقد تضمنت الخطبة بعض الاشارات إلی عدّة جوانب فی مجال أسماء اللّه وصفاته: الاولی خفاء وکنه ذات اللّه فی نفس ظهور وجوده فی جمیع عالم الوجود بحیث لا یستطیع أحد أن ینکر وجوده، بینما لا یستطیع أیضاً الاحاطة بکنه ذاته المطهرة. وهذا فی الواقع أحد الآثار اللامتناهیة لوجوده المطلق، حیث کلما خطونا خطوة نحو معرفة ذاته تقهقرنا خطوات عن درک کنه هذه الذات، وکلما حلقنا فی سماء معرفة صفاته إحترقت أجنحتنا وسقطنا فی عالم الجهل وعلی قول ابن أبی الحدید فی شعره: فیک یا اعجوبة الکون

وبالمقابل فانّ آثاره قد تجلت فی کافة دقائق عالم الوجود، بحیث لا یسع من یلمس هذه الآثار أینما حلّ إلّاأنّ یزمزم مع نفسه بدعاء الإمام الحسین علیه السلام فی عرفة «متی غبت حتی تحتاج إلی دلیل یدل علیک ومتی بعدت حتی تکون الآثار هی التی توصل إلیک، أو یکون لغیرک من الوجود ما لیس لک، عمیت عین لا تراک علیها رقیباً وخسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبک نصیباً» .

والثانیة الحدیث عن قرب اللّه وبعده إلی جانب قربه وبعده منا، وأنّه أبعد ما یکون عنا فی غایة قربه، وأقرب ما یکون فی غایة بعده، وهذا الأمر هو الآخر من آثار ذاته المطلقه اللامتناهیة، وذلک لأن مثل هذه الذات فی کل مکان ولا یخلو منها مکان، وإلّا کانت محدودة. والثالثة نفی صفات المخلوقات والشبه عن ذاته المقدسة، وهذا أیضاً من آثار الذات اللامتناهیة، لأنّ جمیع المخلوقات محدودة ناقصة، وجودها متناهی وصفاتها مشوبة بالنقص والعدم، فاذا شبهناه بأحد مخلوقاته وقلنا بالشریک والشبیه وتصورنا له صفات المخلوقین نکون قد أخرجناه من حالة اللاتناهی وکونه واجب الوجود وجعلناه فی عداد الممکنات المحدودة وسنتعرض إلی هذه الاُمور فی الخطب القادمة إن شاء اللّه.

ص:353

ص:354

الخطبة الخمسون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

وفیه بیان لما یخرب العالم به من الفتن وبیان هذه الفتن

نظرة إلی الخطبة

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی أهم عوامل فساد المجتمعات البشریة ولاسیما الانحراف الذی عصف بالمجتمع الإسلامی بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ثم بین علیه السلام کیف تخلط الشیاطین الحق بالباطل وتزینه للإنسان. فلو طرح الحق کما هو لاغلقت طرق نفوذ الشیاطین، کما لو عرض الباطل علی هیئته لما قبله أحد، ومن هنا فان الشیاطین تخلط الحق بالباطل لاغواء الناس وإضلالهم. نعم فهؤلاء یدسّون السم المهلک فی کل طعام لذیذ لیحثوا المغنّلین علی تناوله. فهم یخفون الباطل فی الحق دائما لیضلوا الناس عن طریق ذلک.

ج ج

ص:355


1- 1) سند الخطبة: نقل هذه الخطبة عدد ممن عاش قبل السید الرضی (ره) ، کالمرحوم الکلینی فی الکافی فی باب البدع والرأی والمقاییس (1 / 54) وأحمدبن محمدبن خالد البرقی فی کتاب المحاسن (1 / 208) والیعقوبی فی تأریخه (2 / 136) وابوجبان التوحیدی فی البصائر والذخائر / 32، وأخرون ممن عاشوا بعد الرضی ولا حاجة لذکرهم. مصادر نهج البلاغة 2 / 19.

ص:356

«إِنَّما بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْواءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْکامٌ تُبْتَدَعُ، یُخالَفُ فِیها کِتابُ اللّهِ، وَیَتَوَلَّی عَلَیْها رِجالٌ رِجالاً عَلَی غَیْرِ دِینِ اللّهِ، فَلَوْ أَنَّ الْباطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزاجِ الْحَقِّ لَمْ یَخْفَ عَلَی الْمُرْتادِینَ، وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْباطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعانِدِینَ، وَلَکِنْ یُؤْخَذُ مِنْ هَذا ضِغْثٌ وَمِنْ هَذا ضِغْثٌ فَیُمْزَجانِ فَهُنالِکَ یَسْتَوْلِی الشَّیْطانُ عَلَی أَوْلِیائِهِ، وَیَنْجُو «الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللّهِ الْحُسْنی» .

الشرح والتفسیر

هناک کلام بین المفسرین والشرّاح بشأن زمان الخطبة والظروف التی رافقتها، فیری البعض أنّه خطبها بعد ستة أیّام من خلافته، بینما یری البعض الآخر أنّه خطبها بعد التحکیم، وبالطبع فانّ الخطبة تنسجم والاحتمالین؛ أی أن تکون الخطبة فی بدایة الخلافة أو بعد التحکیم. فقد إستهل الإمام علیه السلام الخطبة بالإشارة إلی سبب ظهور الفتن فی المجتمعات الإسلامیة التی تشمل ما بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبعض الحوادث کالجمل وصفین والنهروان فقال: «إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحکام تبتدع (1)یخالف فیها کتاب اللّه» . نعم أساس الفتن أمرین: اتباع أهواء النفس والاحکام الموضوعة المخالفة لکتاب اللّه والسنة، فمما لا شک فیه أنّ الفتن ستقبر لو کانت التعالیم الإسلامیة والاحکام القرآنیة هی السائدة وحفظت هذه القوانین والأحکام ومنعت البدع وابتعد عن الأهواء فی إجراء الأحکام الشرعیة؛ وذلک لأنّ هذه القوانین تهدف بسط العدل والقسط وتضمن حقوق الناس وتعین وظائفهم. فالفتنة تفرزها

ص:357


1- 1) «تبتدع» من مادة «بدعة» بمعنی حدیثة الظهور، وتستعمل بشأن الاحکام المخالفة لکتاب اللّه والسنةالنبویة.

الأهواء وتحریف القوانین لصالح الأطماح الشخصیة وغیاب العدل وتضییع الوظائف والاقبال علی البدع. فاصحاب الفتن یلجأون تارة إلی التحریف والتفسیر الخاطئ لاشباع أهوائهم ورغباتهم، وإذا تطلب الأمر وضع بعض الاحکام الجدیدة، أقبلوا علی البدع، صحیح أنّ تلک البدع تفرزها الأهواء، إلّاأنّ الأهواء والرغبات الشیطانیة قد تتبلور أحیاناً کتفسیر وإجراء للأحکام الشریعة واُخری کبدع واحکام موضوعة، ومن هنا فصلاً عن بعضها فی کلام الإمام علیه السلام. علی سبیل المثال یمکن الاشارة هنا إلی فتنة بنی أمیة التی تعد من أکبر الفتن التی شهدها الإسلام فقد إستولی معاویة بواسطة المکر والخداع علی الحکومة ثم ابتدع توریثها فی ولده، وادعی أنّ زیاد ابن أبی سفیان وأخذ البیعة لیزید فی حیاته، وسن سب أمیرَالمؤمنین علی علیه السلام من علی المنابر ثم اتهمه بقتل عثمان وطالب بدمه. (1)ثم قال علیه السلام «ویتولی (2)علیها رجال رجالاً علی غیر دین اللّه» ثم أشار فی العبارة اللاحقة إلی وسائل هذا العمل، التی استغلت من قبل الجناة والطواغیت طیلة التأریخ حتی أصبحت سنة، وهی أنّهم یمزجون الحق بالباطل من أجل تحقیق أطماعهم وأغراضهم «فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق لم یحف علی المرتادین (3)، ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل إنقطعت عنه السن المعاندین» فما أروع هذه العبارة، لو خلص الباطل من مزاج الحق لما کان هناک من یتبعه، ولو خلص الحق من لبس الباطل لخرست ألسن المتخرصین، ولذلک فمن البدیهی ألا یحل الحق الخالص مشاکل عبدة الأهواء، لأنّ منافعهم کامنة فی الباطل، ولا الباطل الخالص یحقق لهم أغراضهم، لأنّ الناس لا یقفوف إلی جانبهم، وهنا یتجهون صوب خلط الحق بالباطل؛ الأمر الذی یجسد کافة السیاسات المخربة فی العالم. ثم قال الإمام علیه السلام بهذا الشأن «ولکن یؤخذ من هذا ضغث (4)و من هذا ضغث فیمز جان فهنالک یستولی الشیطان علی أولیائه، وینجو «الَّذِینَ سَبَقَتْ

ص:358


1- 1) راجع کتاب الغدیر / 10.
2- 2) «یتولی» من مادة «تولی» بمعنی الاتباع. وتأتی أحیانا بمعنی الإقتراب والسیطرة علی المقام والمنصب إلا أن المراد هنا المعنی الأول.
3- 3) «مرتادین» من مادة «ارتیاد» ، الطالبین للحقیقة.
4- 4) «ضغث» علی وزن حرص قبضة من حشیش مختلط فیها الرطب بالیابس، کما یطلق الضغث علی الاحلام المزعجة، وقد وردت فی العبارة بمعنی بعض من الشیء.

لَهُمْ مِنّا الحُسْنی» . فالعبارة تفید أنّ خلط الحق والباطل لا یمنع من معرفة الباطل وان تطلب ذلک قدرا من البحث والتحری والرجوع إلی الآخرین، ومن هنا قال الإمام علیه السلام بأنّ خلط الحق بالباطل لایؤثر فی أولیاءاللّه، بینما یؤثر علی أولیاء الشیطان فیقودهم إلی الغوایة والظلال. فالواقع هو أنّ مزج الحق بالباطل بمثابة الضوء الأخضر لعبدة الأهواء وذریعة لاتباع الشیطان لخداع أنفسهم فیستدلوا علی الآخرین بأنا سلکنا هذا لطریق لأنا إعتمدنا الدلیل الفلانی (الذی یمثل الحق الممزوج بالباطل) . نعم یمکن أن یقع بعض المستضعفین الفکریین والسذج جهلاً فی حبائل الشیطان، والحال لو کان لهم زعیم ومرشد لما شهدوا مثل هذا المصیر وعلیه فالامة إزاء مزج الحق بالبطل علی ثلاثة طوائف:

الطائفة الاولی «إِنَّ الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنی» (1)وبعبارة اُخری المخلصون من اتباع الحق ینجون بلطف اللّه من هذه الفتنة. الطائفة الثانیة عبدة الأهواء أتباع الحجج والذرائع الذین یقتحمون الباطل بذریعة الحق فیتجهون عن شبه علم إلی حبائل الشیطان. الطائفة الثالثة السذج من الأفراد الذین یتعذر علیهم تمییز الحق من الباطل فی ظل هذا المزج الخطیر فیسقطون جهلاً فی مصائد الشیطان، إلّاأن یرکنوا إلی زعیم عالم. وقد ورد مثل هذا المعنی فی الخطبة 38 حین عرض الإمام علیه السلام للشبهة وسبیل النجاة منها فقال علیه السلام «وإنّما سمیت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحق، فأما أولیاء اللّه فضیاؤهم فیها الیقین، ودلیلهم سمت الهدی، وأما أعداء اللّه فدعاؤهم فیها الضلال. . .» .

تأمّلات

1 - أساس الفتن

إنّ التأریخ الإسلامی ولا سیما إبان القرن الأول والثانی ملی بالفتن الغریبة والألیمة التی کادت تقضی علی جهود النبی صلی الله علیه و آله وصحبه المیامین، ولو لا تلک الفتن التی عصفت بالإسلام لما

ص:359


1- 1) العبارة إقتباس من الآیة 101 من سورة الأنبیاء « [1]إِنَّ الَّذِینَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنی أُولئِکَ عَنْها مُبْعَدُونَ» التی وردت بعد الحدیث عن جهنم، فی اشارة إلی أنّ هذه الطائفة ناجیة من النار، ولما کانت فتن الدنیا هی جهنمها، فقد استثنی علیه السلام هذه الطائفة من هذه الفتن.

کنا نعیش مثل هذا العالم، والأنکی من ذلک الفتن التی وقعت بعد خمس وعشرین سنة من رحیل النبی صلی الله علیه و آله حین وصلت الخلافة عام 35 ه فاستهدفت تلک الفتن إعادة الإسلام إلی الجاهلیة؛ أمّا السنوات الأخیرة لخلافة عثمان فقد شهدت غیاب جمیع القیم والمثل الإسلامیة، فی حین تجددت سنن الجاهلیة وأعرافها المقیتة وانبرت طلائع الشرک والنفاق للتسلم مواقعاً حساسة فی الحکومة؛ الأمر الذی کان یعقد وظیفة الإمام علیه السلام. صحیح أنّ الإمام علیه السلام تمکن بجهاده المریر أن یحیی القیم والمثل الإسلامیة، ولکن المؤسف أنّ الفتن لم تسکن حتی أدت فی خاتمة المطاف إلی قتل الإمام علیه السلام فی محرابه من قبل تلک الطغمة الضالة. ثم إتسع حجم هذه الفتن علی عهد معاویة ویزید وسائر الشجرة الأمویة الخبیثة، فقد سفکت الدماء، واستفلحت البدع، وسادت الأهواء، لتبلغ ذروتها علی عهد بنی العباس حتی مثل الإسلام وجفت عروقه. فلو نظرنا إلی هذه الفتن لوقفنا علی عمق خطبة الإمام علیه السلام التی حصرت أساس الفتن فی أمرین إتباع الهوی والبدع فی دین اللّه؛ الأمران الذان یشاهدان فی کل مکان، فقد تمسکت طائفة من أصحاب الفتن بالأمر الأول بینما لاذت طائفة اُخری بالأمر الثانی. ولا نری البحث یسع الخوض فی هذه التفاصیل ونوکلها إلی مکان آخر.

2 - السیاسات الشیطانیة

من عجائب الدهر أنّ مبادئ السیاسة الاستبدادیة تقریباً متکافئة طیلة التأریخ. فقد إعتمد فرعون قبل ألف سنة - علی ضوء المنطق القرآنی - سیاسة فرق تسد «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِی الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِیَعاً» (1)وما زال هذا المبدأ باق علی قوته فی کافة نقاط العالم الاستکباری، فالحکومات تلجأ إلی أقذر الوسائل من أجل تفرقة الصفوف. ولما کانت السیاسة الشیطانیة آخذة فی التعقید فی عصرنا الراهن أکثر من سائر العصور، فقد تعقد تبعاً لذلک مزج الحق بالباطل، حیث یمزج بعض الساسة الحق بالباطل بالشکل الذی یصعب تمییزه علی الناس، وأدنی ذلک خداع الرأی العام ببعض العناوین کحقوق الإنسان والرفق

ص:360


1- 1) سورة القصص / 3. [1]

بالحیوان ویوم العامل وأطباء بلا حدود ومنظمة العفو الدولیة وتأسیس المراکز الخیریة وإعانة المحرومین ومنح حق اللجوء السیاسی لعدد من النازحین، فهم یتحدثون عنها بالشکل الذی قد یسیل له لعاب حتی بعض الیقظین والواعین. وناهیک عن کل ما سبق فالحکومات الاستکباریة تتشدق بالدیمقراطیة وضرورة الرجوع إلی آراء الشعب فاذا تمّ ذلک وجرت الاُمور خلافاً لمصالحها اللامشروعة عمدت إلی الانقلاب أو أثارة الفتن؛ الأمر الذی لمسناه بوضوح فی التجربة الجزائریة، فابقوا علی تلک الحکومة التی فشلت فی تلک التجربة لأنّها تضمن مصالحها. بینما تغض النظر عن الحکومات التی تعیش عقلیة القرون الوسطی وتمد لها ید العون والمساعدة لأنها تحفظ مصالحها.

نعم هذه هی حقیقة عالم السیاسة والتی یتضح منها عمق کلام الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة فی أنّ أصحاب الفتن إنّما یمزجون الحق بالباطل لخداع عوام الناس.

ج ج

ص:361

ص:362

الخطبة الحادیة و الخمسون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

لما غلب أصحاب معاویة أصحابه علیه السلام علی شریعة الفرات بصفین ومنعوهم الماء.

نظرة إلی الخطبة

روی إبن أبی الحدید فی إطار شرحه لهذه الخطبة أنّ نصر بن مزاحم قال: کان أبو الأعور السلمی علی مقدمة جیش معاویة، وکان قد ناوش مقدمة جیش علی علیه السلام وعلیها الأشتر النخعی مناوشة لیست بالعظیمة، فانصرف أبو الأعور عن الحرب راجعاً، فسبق إلی الماء فغلب علیه فی الموضع المعروف بقناصرین - موضع فی الشام - إلی جانب صفین، فحال جیشه بین ماء الفرات وأهل العراق. فلما بلغ أمیر المؤمنین علی علیه السلام الخبر دعا صعصعة بن صوحان فقال: إئت معاویة وقل له: إنا سرنا إلیک مسیرنا هذا وأنا کره لقتالکم قبل الإعذار إلیکم، وإنّک قدمت خیلک فقاتلتنا قبل أن نقاتلک وبدأتنا بالحرب ونحن ممن رأینا الکف حتی ندعوک ونحتج علیک؛ فحل بین الماء والناس حتی ننظر فیما بیننا وبینکم؛ وفیما قدمنا له وقدمتم له؛ وإن کان أحب إلیک أن ندع ما جئنا له، وندع الناس یقتتلون حتی یکون الغالب هو الشارب فعلنا. فمضی صعصعة بالرسالة إلی معاویة، فقال معاویة لأصحابه: ما ترون؟ فأشار علیه بعض أصحابه بمنعهم الماء، غیر أنّ عمروبن العاص أشار علیه قائلاً: خل بین القوم وبین

ص:363


1- 1) لقد نقل هذه الخطبة «نصر بن مزاحم» فی کتاب صفین عن جابر عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام (مع بعض الفوارق الطفیفة) (مصادر نهج البلاغة 2 / 20) . [1]

الماء فإنّهم لن یعطشوا وأنت ریان. بینما کان معاویة یرجح الرأی القائل بمنع جیش الإمام علی علیه السلام من الماء. فمکث أصحاب الإمام علیه السلام بغیر ماء فاغتم علیه السلام فألقی هذه الخطبة التی تفیض عذوبة وفصاحة وبلاغة، شاحذاً همم أصحابه فکشفوا أصحاب معاویة عن الماء.

جدیر بالذکر أنّ القسم الأول من هذه الخطبة یشیر إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الإنسان إذا لم یقدم بکل شجاعة لأخذ حقه لم یکن أمامه سوی الذل والاستسلام للظلم والجور. أمّا القسم الثانی من الخطبة فیصور خداع معاویة ومکره فی تألیب الجهال وزجهم فی المعرکة بما یجعلهم یستمیتون من أجل الباطل! !

ج ج

ص:364

«قَدِ اسْتَطْعَمُوکُمُ الْقِتالَ فَأَقِرُّوا عَلَی مَذَلَّةٍ وَتَأْخِیرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا السُّیُوفَ مِنَ الدِّماءِ تَرْوَوْا مِنَ الْماءِ فالْمَوْتُ فِی حَیاتِکُمْ مَقْهُورِینَ وَالْحَیاةُ فِی مَوْتِکُمْ قاهِرِینَ. أَلا وَإِنَّ مُعاوِیَةَ قادَ لُمَةً مِنَ الْغُواةِ وَعَمَّسَ عَلَیْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّی جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْراضَ الْمَنِیَّةِ» .

الشرح والتفسیر

أقبروا هذه الفتنة الخبیثة

أشرنا سابقاً إلی أنّ الإمام علی علیه السلام ألقی هذه الخطبة فی ظل تلک الظروف العصیبة التی ألمت بصحبه. وقد إختار الإمام - الذی یمثل مصدر البلاغة والفصاحة - هذه العبارات الحماسیة من أجل تحقیق الهدف المنشود والذی جعل أصحابه یهبون مسرعین لطرد عتاة الشام ومردتها عن شریعة الفرات.

نعم ما زالت هذه العبارات - ورغم تقادم الزمان علیها - تقرع أسماع الجمیع وتلهمهم الصمود والتصدی للأعداد إذا ما شکلوا خطراً علی عزتهم وشرفهم. فقد استهل الإمام علیه السلام خطبته بالقول: «قد استطعموکم القتال» . وهی کلمة مجازیة تعنی: طلبوا القتال منکم، وهی تستعمل حیث یطلب أحدهم الطعام من آخر، وکأنّ الحرب والقتال طعام یطلبونه من أصحاب الإمام علیه السلام. وما أشبه هذا الکلام بما تتناقله ألسنة عوام الناس فی حیاتهم الیومیة من قبیل تعبیرهم «هذا الفرد یحکه جلده» فی إشارة واضحة إلی أنّه یأتی بالأفعال التی ستؤدی إلی ضربه. والحق أنّ هذا أبلغ تعبیر أورده الإمام علیه السلام بشأن منع أهل الشام للماء عن أصحابه علیه السلام. ثم یواصل الإمام علیه السلام خطبته بأن لیس أمامکم سوی سبیلین لا ثالث لهما تجاه

ص:365

خسة هذا العمل الذی ارتکبه أهل الشام؛ فإمّا السلة وإمّا الذلة «فأقروا علی مذلة وتأخیر محلة (1)أو رووا (2)السیوف من الدماء ترووا من الماء» .

أجل لم یکن لهم من سبیل ثالث، فلو وهنوا أمام العدو وغلب علیهم العطش بحیث أمات رهطاً من جندهم لکان ذلک وصمة عار فی جبینهم ولفقدوا مکانتهم ومنزلتهم لدی العدو والصدیق، إلّاأنّهم حین نهضوا بالأمر وحملوا علی العدو قد حظوا بمکانتهم ومنزلتهم لدی العدو والصدیق، کما کشفوا عن مروءتهم وعظمة خلقهم حین لبوا طلب مولاهم بالابقاء علی شریعة الماء مفتوحة بوجه جیش الشام؛ الأمر الذی جعل جیش معاویة یشعر بخسة عمله، وهذا ما أدی بدوره إلی ارتفاع معنویات أصحاب الإمام علی علیه السلام وضعف روحیة جیش الشام فی معرکة صفین ولا سیما فی أوائل تلک المعرکة حین شهدت هذه الواقعة.

ثم یشیر الإمام علیه السلام إلی مفهوم کلی ودائمی علی أنّه السر فی انتصار وعزة ورفعة کل اُمّة، فیخاطب جنده قائلاً: «فالموت فی حیاتکم مقهورین والحیاة فی موتکم قاهرین» .

نعم لیس هناک من قیمة لهذه الحیاة المادیة فی قاموس الأفراد الصالحین، کما لا یعتبر الموت مناهضاً لهذه القیمة، بل القیمة فی نظر الأحرار إنّما تکمن فی الحیاة التی تسودها العزة والکرامة، ولذلک تراهم یؤثرون الموت مع العزة علی الحیاة مع الذلة، وهذا هو السر فی انتصار الفئة الإسلامیة القلیلة فی عصر النبی صلی الله علیه و آله - وما تلاه من عصور - علی الفئة الضالة الکثیرة العدد والعدة. أجل فالعزة فی المجتمع الإسلامی مقدمة علی کل ما سواها؛ ولا یتوانی مثل هذا المجتمع فی التضحیة بالغالی والنفیس من أجل تحققها. وهذا المعنی قد تجلی بأروع صورة فی کلمات شبل علی علیه السلام الإمام الحسین علیه السلام فی حادثة کربلاء الدمویة، فقد کان علیه السلام لا ینفک ینادی: «لا واللّه لا أُعطیکم بیدی إعطاء الذلیل ولا أُقر لکم إقرار العبید» (3). ثم رد علی الحر بن یزید الریاحی - بعد أن جعجع بالحسین علیه السلام فی طریقه إلی کربلاء وسقاهم الحسین علیه السلام بعظمته المعروفة الماء

ص:366


1- 1) «محلة» تستعمل بمعنی المکانة والمنزلة الاجتماعیة.
2- 2) «رووا» من مادة «الترویة» بمعنی الارتواء من الماء، ولهذا یصطلح علی الیوم الثامن من شهر ذی الحجة ب «یوم الترویة» حیث کان الحجیج فی السابق یتزودون بالماء حین الذهاب إلی عرفة ومنی والمشعر الحرام، کما قد تستعمل هذه المفردة ویراد بها المعنی الکنائی کإرواء السیوف الذی ورد فی هذه الخطبة.
3- 3) بحار الأنوار 45 / 7. [1]

ورشف خیولهم - حین نصحه بعدم مقاتلة یزید حفظاً لنفسه قائلاً: أفبالموت تخوفنی. ثم تمثل علیه السلام بالشعر الذی أنشده شاعر الأوس حین حذره ابن عمه من نصرة النبی صلی الله علیه و آله فقال: سأمضی فما بالموت عار علی الفتی

ولا غرو فهذا هو المعنی الذی أکده القرآن الکریم «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلّا إِحْدی الحُسْنَیَیْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِکُمْ أَنْ یُصِیبَکُمُ اللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَیْدِینا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَکُمْ مُتُرَبِّصُونَ» (1).

ثم یشیر أمیر المؤمنین علیه السلام فی خطبته إلی مکر معاویة وسذاجة أهل الشام. الذین انطلقت علیه ألاعیب معاویة وحیله فقال علیه السلام: «ألا وإن معاویة قاد لمة من الغواة وعمس علیهم الخبر، حتی جعلوا نحورهم أغراض المنیة» (2).

فالإمام علیه السلام یصور فی هذه العبارات حکومة معاویة التی تستند إلی الحیلة والمکر والخداع واستغفال السذج من الناس، إلی جانب تصویره إلی أهل الشام الذین بلغوا حداً من الضلال والغوایة ما جعلهم یضحون بأنفسهم باطلاً من أجل تحقیق مآرب معاویة وأهدافه المشؤومة.

ولعل العبارة الوارة فی الخطبة تمثل إجابة علی السؤال الذی قد یتبادر إلی أذهان أصحاب الإمام علیه السلام عن علة دفاع أهل الشام عن مطامع معاویة إلی حد الاستماتة. فالإمام علیه السلام یکشف النقاب عن هذه الحقیقة وهی أن مکر معاویة فی تزویر الواقع من جانب وجهل أهل الشام وغفلتهم من جانب آخر قد جعلتهم یظنون بأنّهم یقاتلون فی سبیل اللّه ونیل الشهادة. نعم لقد کان للدعایة الواسعة والأسالیب النفسیة التی إعتمدها معاویة وعمرو بن العاص بالغ الأثر فی صفوف أهل الشام إلی درجة أنّ البعض منهم أیقن بأنّ عثمان قد قتل مظلوماً وإن قاتله هو الإمام علی علیه السلام.

ص:367


1- 2) سورة التوبة / 52. [1]
2- 3) «لمه» من مادة «لمی یلمو لموا» بمعنی أخذ الشیء بأکمله و (لمه) بضم اللام وفتح المیم بدون التشدید» بمعنی الجماعة القلیلة، (غواة) جمع غاوی بمعنی الضال، والعمس بمعنی محو الأثر وعدم العلم بالشیء، ومن هنا أطلق العمیس علی الظلام الدامس، فیقال لیل عماس؛ أی مظلم.

وقد نهض معاویة للطلب بدمه إلی جانب الدفاع عن القرآن والإسلام وخلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله، وعلیه فلیس القتل فی هذا السبیل سوی الجنّة والشهادة التی یتعطش إلیها کل مسلم غیور!

طبعاً حبل الکذب والخداع مهما طال قصیر ولا یمکن للشمس أن تحجبها الغربان وسرعان ما تتضح الحقائق، غیر أنّ ذلک لا یکون إلّابعد انجلاء الغبرة وإزهاق الأرواح ولات حین مناص.

تأمّلات

1 - ضرورة العیش فی ظل العزة والکرامة

تتمیز المدرسة الإسلامیة عن سائر المدارس والمذاهب بمبادئها ورکائزها الحیویة الأصیلة، ومنها المبدأ الذی ورد فی الخطبة المذکورة والذی یکمن فی ترجیح الموت الشریف علی الحیاة الوضیعة، وبعبارة اُخری ففی الوقت الذی تحذر فیه المدرسة الإسلامیة عن ممارسة الظلم والجور فانها تؤکد علی عدم الرکون إلی الظلمة والاستسلام للطواغیت، وقد تجسد هذا المعنی فی رجالات الإسلام الذین استحقوا بحق لقب «أُباة الضیم» (1). والواقع أن القرآن هو الذی أکد هذا المبدأ «وَلِلّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِینَ» (2).

وکذلک تظافرت روایات أهل البیت علیهم السلام بهذا الأمر، فقد قال الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ اللّه تبارک وتعالی فوض إلی المؤمن کل شیء إلا إذلال نفسه» (3). وقال الإمام الحسین علیه السلام: «موت فی عزّ خیر من حیاة فی ذلّ» (4)، کما قال علیه السلام: «ألا وإن الدعی ابن الدعی قد ترکنی بین السلة والذلة وهیهات له ذلک، هیهات منّی الذلة أبی اللّه ذلک ورسوله والمؤمنون وجدود طهرت وحجور طابت أن تؤثر طاعة اللئام علی مصارع الکرام» (5).

ص:368


1- 1) «أباة» جمع أبی بمعنی الرفض والامتناع والضیم بمعنی الظلم، وهو ما یطلق علی أولئک الذین لایستسلمون للظلم والجور.
2- 2) سورة المنافقون / 8. [1]
3- 3) الکافی 5 / 63. [2]
4- 4) بحار الأنوار 44 / 192. [3]
5- 5) بحار الأنوار 45 / 83. [4]

وأورد ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة: «سید أهل الآباء الذی علّم الناس الحمیة والموت تحت ظلال السیوف اختیاراً له علی الدنیة أبو عبداللّه الحسین بن علی بن أبی طالب علیه السلام عرض علیه الأمان وأصحابه فأنف من الذُل» .

ثم تطرق إلی کلماته الحماسیة فی یوم عاشوراء «ألا وان الدعی ابن الدعی. . .» وأنّها علی غرار ما أورده أمیر المؤمنین علی علیه السلام فی خطبته المعروفة - 34 - «إنّ امرء یمکن عدوه من نفسه، یعرق لحمه، ویفری جلده، ویهشتم عظمه، لعظیم عجزه، ضعیف ما ضمت علیه صدره، فأما أنا فدون أن أعطی ذلک ضرب بالمشرفیة. . .» قیل لرجل شهد یوم الطف مع عمر بن سعد: ویحک! أقتلتم ذریة رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟ ! فقال: عضضت بالجندل؛ إنّک لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علینا عصابة أیدیها فی مقابض سیوفها کالأسود الضاریة تحطم الفرسان یمیناً وشمالاً، وتلقی أنفسها علی الموت؛ لا تقبل الأمان، ولا ترغب فی المال، ولا یحول حائل بینها وبین الورود علی حیاض المنیة، أو الاستیلاء علی الملک؛ فلو کففنا عنها رویداً لأتت علی نفوس العسکر بحذافیرها؛ فما کنّا فاعلین لا أم لک (1)!

2 - غسل أدمغة المغفلین

النقطة المهمّة الاُخری التی تضمنتها خطبة أمیر المؤمنین علیه السلام، أنّ أئمة الباطل قد ینمقون کلامهم بالمکر والخداع بما یجعلهم ینفذون إلی أعماق أفکار السذج من الناس، وکأنّهم یسوقونهم إلی الشهادة، حیث یقبلون علی القتال بکل شدة وصرامة، فی حین لا یزیدهم ذلک القتال سوی الطر من الرحمة والتغلغل فی الدرک الأسفل من النار، وهذه طامة کبری. ولم یکن معاویة یدعا من اُولئک الطواغیت الذین ساروا علی هذا النهج فی غسل أدمغة أتباعهم وسوقهم للدفاع عن أهدافهم ومآربهم المشؤومة، فقد سبقه وتلاه الکثیر من الظلمة الذین اعتمدوا هذا الاسلوب. فعمر بن سعد قائد عسکر یزید فی کربلاء حین دفع بأهل الکوفة للهجوم علی الإمام الحسین علیه السلام نادی بأعلی صوته: «یا خیل اللّه ارکبی، وبالجنّة ابشری!» (2).

ص:369


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید3/263. [1]
2- 2) بحار الأنوار 44 / 391. [2]

کما کانت أجهزة الدعایة الفرعونیة تصور موسی وهارون علیهما السلام ممن یسعی للسیطرة علی مصر وإشاعة الفساد فیها، فی حین تصف فرعون بالمدافع عن هذه الأرض وعزة واستقلال أهلها، فیخاطب الاُمّة قائلاً: «إِنْ هذانِ لَساحِرانِ یُرِیدانِ أَنْ یُخْرِجاکُمْ مِنْ أَرْضِکُمْ بِسِحْرِهِما» (1). ومازال هذا هو المنطق الغاشم الذی یمارسه الظلمة علی مر العصور والدهور.

3 - المروءة والشهامة

قال نصر - فی کتاب صفین - إنّ عمرو بن العاص قال لمعاویة لما ملک أهل العراق: ما ظنک یا معاویة بالقوم إن منعوک الیوم الماء کما منعتهم أمس؟ أتراک تضاربهم علیه کما ضاربوک علیه؟ ما أغنی عنک أن تکشف لهم السوءة. ویبدو أن عمرو کان بصدد تقریع معاویة ولومه علی عدم قبول إقتراح ابن العاص بعدم منع أهل العراق من الماء. فقال معاویة: دع عنک ما مضی، فما ظنک بعلی؟ قال: ظنی أنه لا یستحل منک ما استحللت منه، وأن الذی جاء له غیر الماء. فهو یعلم بخلق علی علیه السلام ولیس لاغلاق شریعة الفرات من انسجام وذلک الخلق. (2)

وهذا هو الخلق الذی ورثه ابنه الحسین علیه السلام الذی سقی الحر بن یزید الریاحی وجنده الماء فی تلک الصحراء القافرة بینما کان خلق أعدائه أن ذبحوه عطشاناً إلی جانب شط الفرات، ولیتهم اکتفوا بذلک فقد منعوا الماء حتی عن رضیعه. ملکنا فکان العفو مناسجیة

ص:370


1- 1) سورة طه / 63. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 330. [2]

الخطبة الثانیة و الخمسون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وهی فی التزهید فی الدنیا وثواب اللّه للزاهد، ونعم اللّه علی الخلق

نظرة إلی الخطبة

تشتمل الخطبة فی الواقع علی ثلاثة أقسام: القسم الأول فی الزهد وعدم التعلق بالدینا وأنّ نعم الدنیا إلی زوال، وعلی المؤمنین أنّ یستعدوا لسفر الآخرة من خلال العمل الصالح، القسم الثانی ثواب الزهاد والأعمال الصالحة، والقسم الثالث الاقرار بعجز العباد عن إداء حق شکر المنعم، ولا سیما أعظم هذه النعم الإیمان.

ج ج

ص:371


1- 1) سند الخطبة: روی أنّ الإمام علیه السلام خطبها فی عید الأضحی وبدایتها «اللّه أکبر اللّه أکبر لا اله إلّااللّه واللّه أکبر وللّه الحمد الحمدللّه علی ما هدانا. . .» ورواها المرحوم الصدوق (ره) فی کتابه من لا یحضره الفقیة 1 / 229 والشیخ الطوسی (ره) فی کتاب المصباح / 261 وقال: نقل أبومخنف عن عبدالرحمن بن جندب عن أبیه أنّ علیاً علیه السلام خطب الناس فی الأضحی وقد أورد السید الرضی (ره) بعضها فی نهج البلاغة، کما روی الشیخ المفید قسما منها فی المجلس العشرین من الامالی. مصادر نهج البلاغة 2 / 22 [1] وقد مضی شبیه هذا المضمون فی الخطبة 28.

ص:372

القسم الأول: الدنیا الغرور

«أَلا وَإِنَّ الدُّنْیا قَدْ تَصَرَّمَتْ، وَآذَنَتْ بِانْقِضاءٍ، وَتَنَکَّرَ مَعْرُوفُها وَأَدْبَرَتْ حَذّاءَ، فَهِیَ تَحْفِزُ بِالْفَناءِ سُکّانَها وَتَحْدُو بِالْمَوْتِ جِیرانَها وَقَدْ أَمَرَّ فِیها ما کانَ حُلْواً، وَکَدِرَ مِنْها ما کانَ صَفْواً، فَلَمْ یَبْقَ مِنْها إِلاَّ سَمَلَةٌ کَسَمَلَةِ الْإِداوَةِ أَوْ جُرْعَةٌ کَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ، لَوْ تَمَزَّزَها الصَّدْیانُ لَمْ یَنْقَعْ، فَأَزْمِعُوا عِبادَ اللّهِ الرَّحِیلَ عَنْ هَذِهِ الدّارِ الْمَقْدُورِ عَلَی أَهْلِها الزَّوالُ، وَلایَغْلِبَنَّکُمْ فِیها الْأَمَلُ، وَلا یَطُولَنَّ عَلَیْکُمْ فِیها الْأَمَدُ» .

الشرح والتفسیر

لقد تواترت خطبه علیه السلام فی نهج البلاغة التی توصی بالزهد فی الدنیا وعدم الاغترار بها والتزود منها إلی الدار الآخرة، إلی جانب التحذیر من مخاطرها وأنّها متقلبة سریعة الزوال،

رغم أن الإنسان یطمح بالحیاة مادامه فی الدنیا ولابد أن یعیش بعزة ورفعة ویصرّف شؤون حیاته المادیة دون التبعیة للآخرین وأنّ الإنسان لابدّ أن یتأهب فیها إلی السفر الشاق الذی ینتظره، ومن هنا ورد التأکید فی هذا الخطبة علی الزهد فی عشر عبارات رائعة فی الدقة والمعنی، فقال فی العبارة الاولی: «ألا وإن الدنیا قد تصرمت، (1)وآذنت (2)بانقضاء» فالعبارة قد تکون إشارة إلی عمر الدنیا الایل للانقطاع والانتهاء، ومن هنا یسمی زماننا آخرالزمان، أو إشارة إلی الحیاة الدنیا لکل فرد من الأفراد فی کل عصر وزمان فی أنّه قصیر سریع الزوال، والمعنی الاخیر أنسب. فمفهوم العبارة هو أنّ عمر الإنسان من القصر فی هذه الحیاة الدنیا وکأنّه یخاطب بالاستعداد للرحیل منذ ولادته. فقوله علیه السلام: «ألا وإن الدنیا قد تصرمت» یتناول باطن الدنیا، بینما تناول قوله علیه السلام: «وآذنت بانقضاء» ظاهرها، وبعبارة أخری فانّ الدنیا فانیة ذاتا،

ص:373


1- 1) «تصرمت» من مادة «صرم» بمعنی انقطعت وفنیت، ومن هنا یطلق الصارم علی السیف القاطع، وتصرم الدنیا یعنی انقطاع أجلها.
2- 2) «آذنت» من مادة إیذان أعلمت وأخبرت.

کما أنّ مختلف ملامحها فی الحیاة الإنسانیة هی الاُخری قد أخبرت عن هذا الفناء، وبالتالی فلا ینبغی للإنسان أن یغتر بها ویعیش الخسران.

وهی کما صورها الشاعر: هی الدنیا تقول بمل فیها

ثم قال علیه السلام: «وتنکر معروفها وأدبرت حذاء» (1)کیف لا وغضاضة الشباب وطراوة الفتوة ونظارة الوجه آیلة إلی الکهولة والعجز والشحوب، ثم وصف الدنیا علیه السلام بقوله: «فهی تحفز (2)بالفناء سکانها وتحدوا بالموت جیرانها» فالعبارة تفید حرکة الإنسان نحو أجله ومصیره المحتوم شاء ذلک أم أبی. والحدی الصوت الذی یردد لتعجیل حرکة الناقة، فما أروع هذا التعبیر الذی یفید توفر جمیع العوامل التی تدعو الإنسان لحث الخطی والسرعة فی الحرکة إلی الزوال والفناء. أمّا التعبیر بالجیران بعد السکان فکأنّه یفید أنّ محل سکن الإنسان لیس فی هذا العالم، فهو جاره ولیس بصاحبه، أی أنّه مفارقه لامحالة! ثم قال علیه السلام: «وقد أمر (3)منها ما کان حلوا وکدر منها ما کان صفوا» . فَّما أسرع نهایة مرحلة الطفولة والشباب الحلوة العذبة لتستبدل بمرارة الشیخوخة والکهولة فیعد الاستقرار إضطراباً والحصة سقماً والراحة تعباً، وقیل فی تفسیر هذه العبارة إنّها إشارة إلی اختلاف ظاهر الدنیا وباطنها، فظاهرها حلو وباطنها مرّ، ظاهرها عذب وباطنها علقم، غیر أن التمعن فی العبارات السابقة یفید أنّ التفسیر الأول أنسب. ثم یختتم علیه السلام حدیثه عن الدنیا بالقول «فلم یبق منها الاسملة کسملة (4)الاداوة (5)أو جرعة کجرعة المقلة لو تمززها (6)الصدیان لم ینقع» فالعبارة إشارة إلی حیاة کل فرد من

ص:374


1- 1) «حذاء» من مادة «حذ» علی وزن حظ بمعنی السریعة الذهاب، ومن هنا یطلق الحذاء علی الدابة السریعة، والمراد هنا سرعة أجل الدنیا.
2- 2) «تحفز» من مادة «حفز» علی وزن حبس بمعنی تعجلهم وتسوقهم، وقد ورد فی الحدیث الشریف أن حفز الموت من علامات القیامة. قیل وما حفز الموت. قال صلی الله علیه و آله: موت الفجأة (لسان العرب) .
3- 3) «مر» علی وزن «شر» بمعنی المضی والعبور ومر علی وزن حر ضد الحلو، وأمر» من مادة «مُر» بمعنی مضی الزمان یجعل حلاوة الدنیا مرارة.
4- 4) «سملة» من مادة «سمل» علی وزن حمل بمعنی البقیة من الماء تبقی فی الإناء، ومن هنا کان الاسمال بمعنی الإصلاح لأنّه یزیل ما بقی من الأحقاد والأضغان.
5- 5) «إدواة» علی وزن إدارة القربة الصغیرة من الجلد.
6- 6) «تمزز» من مادة «مز» علی وزن حز بمعنی التذوق والامتصاص والأکل وقال صاحب مقاییس اللغةامتصاص الماء تدریجیاً وببطئ.

الأفراد وانها تقترب بمرور الزمان من نهایتها، وقد کان تعبیره بمنتهی الروعة لتصویر قصر عمر الدنیا وسرعة زوالها، فالسملة تعنی الشی الزهید الذی لاقیمة له، وتطلق علی ما یتبقی من الماء فی الاناء، و «جرعة المقلة» تطلق علی المسافر الذی یشکو من قلّة الماء فیسعی للحصول علی الماء لادخاره، أجل فعمر الدنیا قصیر إلی درجة أنّه لا یروی ظمأ من تعلق به، فما أحری العاقل أن یفیق إلی نفسه وینأی بها بعیداً عن الاغترار به، فینهمک بالآخرة ویسرع فی السیر إلیها. ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی النتیجة الواضحة «فازمعوا (1)عباداللّه الرحیل عن هذه لدار المقدور علی أهلها الزوال ولا یغلبنکم فیها الأمل ولا یطولن علیکم فیها الأمد» (2). إنّ الإنسان راحل عن هذه الدنیا شاء أم أبی، ومراد الإمام علیه السلام إرحلوا بعلم وعبرة واغتنموا الفرصة وسیروا علی النهج بالعمل الصالح والخلق الرفیع والمعرفة باللّه لتنالوا سعادة الآخرة والخلود فی نعیمها. فقد نبه علیه السلام إلی الخطرین الکامنین فی الطریق فقال: «ولا یغلبنکم فیها الأمل ولا یطولن علیکم فیها الأمد» ؛ الأمر الذی أرشد القرآن الکریم إلیه بقوله: «أَلَمْ یَأْنِ لِلَّذِینَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِکْرِ اللّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا یَکُونُوا کَالَّذِینَ أُوتُوا الکِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَیْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَکَثِیرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» (3)ونؤکد مرة اُخری أنّ العبارات لاتفید ترک الدنیا والرهبانیة فیها وعدم الإکتراث إلی الحیاة، بل تفید عدم التعلق بزخا رف الدنیا والاغترار بها، وبعبارة اُخری فالمراد التعامل مع الدنیا کما هی، لا علی أساس الوهم والخیال وما تملیه علینا أهوائنا وشهواتنا.

لا أحد یعتقد بالخلود فی هذه الدنیا، فهی آیلة إلی الزوال والفناء وأنّ الإنسان سیودعها یوماً لیودع خده التراب فی تلک الحفرة، إلّاأنّ زینة الدنیا وزبرجها قد تلقی بحجابها علی هذا الواقع بحیث قد ینسی الإنسان الموت بالمرة، أو یتناسی تلک الحقیقة المرة، فینطلق فی نشاطاته

ص:375


1- 1) «أزمعوا» من مادة «زمع» بمعنی العزم علی الشییء، ولذلک قیل ان هذه المفردة قلبت من عزم أی نقلت فیها حرفی الزاء والمیم من مکان إلی آخر، وقیل کانت فی الأصل جمع ثم بدلت إلی زاء، والمفردات الثلاث (عزم وزمع وجمع) بمعنی واحد وهو التصمیم والعزم علی الشی.
2- 2) «أمد» علی وزن صمد أجل الشی وتأتی بمعنی الغضب، لأنّ صبر الإنسان ینفد حین الغضب.
3- 3) سورة الحدید / 16. [1]

وفعالیاته وکأنّه مخلد فی الحیاة الدنیا. وقد یطرح هذا الحجاب مؤقتا إذا ما مات أحدهم واشترکنا فی مراسم تشییعه ودفنه لتتضح أمامنا الدنیا علی حقیقتها، فاذا عدنا إلی حیاتنا نسینا کل شی وعاد ذلک الحجاب، وکأنّ الموت لم یکتب علینا، وبالطبع فانّ هذا الکلام لا یصدق علی أولیاء اللّه، فهم أرفع من أن تبعدهم هذه الحجب عن حقیقة الحیاة والموت، فهم لا یرون الدنیا سوی قنطرة إلی الآخرة. والحق أنّ تحذیر الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة من الدنیا لا یعنی أبداً أنّه یحث الناس علی مقاطعة الدنیا وترکها، کیف وهو یراها مقدمة للآخرة «الدنیا مزرعة الآخرة» . والطریف أنّ بعض الشعراء من أولیاء اللّه قد صوروا هذه الحقیقة فی أشعارهم، ولا بأس هنا بالتعرض لهذه القضیة.

فقد ورد فی الحدیث المعروف: سعی إلی المتوکل بعلی الهادی علیه السلام أنّ فی منزله کتباً وسلاحاً من شیعته من أهل قم، وأنّه عازم علی الوثوب بالدولة، فبعث إلیه جماعة من الأتراک، فهجموا علی داره لیلاً فلم یجدوا فیها شیئاً ووجده فی بیت مغلق علیه، وعلیه مدرعة من صوف، وهو جالس علی الرمل والحصی هو متوجه إلی اللّه تعالی یتلو آیات من القرآن، فحمل علی حاله تلک إلی المتوکل وقالوا له: لم نجد فی بیته شیئاً ووجدناه یقرأ القرآن مستقبل القبلة، وکان المتوکل جالساً فی مجلس الشرب، فدخل علیه والکأس فی ید المتوکل، فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلی جانبه، وناوله الکأس التی کانت فی یده فقال: واللّه ما یخامر لحمی ودمی قط، فاعفنی فاعفاه، فقال: أنشدنی شعراً، فقال علیه السلام: إنی قلیل الروایة للشعر، فقال: لابدّ، فأنشده علیه السلام: باتوا علی قلل الاجبال تحرسهم

ص:376

القسم الثانی: السعی القلیل وإن کثر

«فَواللّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِینَ الْوُلَّهِ الْعِجالِ وَدَعَوْتُمْ بِهَدِیلِ الْحَمامِ وَجَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِی الرُّهْبَانِ وَخَرَجْتُمْ إِلَی اللّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ الْتِماسَ الْقُرْبَةِ إِلَیْهِ فِی ارْتِفاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرانِ سَیِّئَةٍ أَحْصَتْها کُتُبُهُ وَحَفِظَتْها رُسُلُهُ لَکانَ قَلِیلاً فِیما أَرْجُو لَکُمْ مِنْ ثَوابِهِ وَأَخافُ عَلَیْکُمْ مِنْ عِقابِهِ» .

الشرح والتفسیر

ما أن فرغ الإمام علیه السلام من تصویر حقیقة الدنیا وسرعة زوالها حتی تطرق إلی الثواب والعقاب فی الآخرة ومصیر الإنسان هناک علی أنّها تمثل الهدف لهذه الدنیا. وبعبارة اُخری کان القسم الأول من کلامه مقدمة لهذا القسم الذی یشیر فیه إلی الهدف الغائی وهو القرب من اللّه ونیل ثوابه واجتناب عقابه فقال علیه السلام: «فو اللّه لو حننتم (1)حنین الوله (2)العجال (3)ودعوتم

ص:377


1- 1) «حنین» بمعنی الشفقة والرأفة والرحمة وتقال عادة مقترنة بالأنین والألم، و «اُستن حنانة» تطلق علی العمود الخشبی الذی ورد فی الروایة أن رسول الله صلی الله علیه و آله کان یستند إلیه ویخطب الناس، ثم استبدل بالمنبر فکان ذلک العمود یتأوه لفراق النبی صلی الله علیه و آله.
2- 2) «وله» جمع «واله» و «والهة» من مادة «وله» علی وزن ولع بمعنی شدة الهم الذی یذهب بالعقل ویفقد التمییز.
3- 3) «عجال» جمع «عجول» من مادة «عجلة» بمعنی السرعة فی العمل، کما تطلق علی المرأة التی تثکل بولدها.

بهدیل (1)الحمام وجأرتم جؤار (2)متبتلی (3)الرهبان (4)وخرجتم إلی اللّه من الأموال والاولاد إلتماس القربة إلیه فی إرتفاع درجة عنده أو غفران سیئة أحصتها کتبه وحفظتها رسله لکان قلیلا فیما أرجو لکم من ثوابه وأخاف علیکم من عقابه» فقد إستعار الإمام علیه السلام ثلاثة تشبیهات للتضرع إلی اللّه واستفراغ الجهد فی الانقطاع إلیه، التشبیه الأول: الصوت الذی تخرجه النوق الوالهة الفاقدة لأولادها، وهو الصوت الحزین الذی یرق له القلب حین سماعه، التشبیه الثانی: هدیل الحمام حین إجتماعها، والهدیل یطلق علی فرخ الحمام کما یطلق علی صوتها، وتعتقد العرب أنّ الهدیل حمامة علی عهد نوح علیه السلام بقیت وحدها وماتت عطشاً، ومنذ ذلک الیوم والحمام ینوح علیها، التشبیه الثالث: بکاء الرهبان المنقطعین عن الدینا القابعین فی صومعاتهم، والذین ینوحون عند الطقوس الدینیة وقد إشتد نیاحهم بفعل إنقطاعهم عن الدنیا. ولم یکتف الإمام علیه السلام بهذا التضرع والنوح والبکاء فقال: «وخرجتم إلی اللّه من الأموال والاولاد» أی ولو ترکتم أموالکم وأولادکم من أجل القرب إلی اللّه کان قلیلاً. والدلیل واضح علی ذلک فالدنیا وما فیها لاتعدل جناح بعوضة من الآخرة، وهی لیست سوی قطرة إلی بحر، ومن الطبیعی أنّ الإنسان لایخرج من ماله وولده ما لم یقف علی هذا المعنی. وقد وردت هذه المقارنة بین الدنیا والآخرة فی خطبة المتقین بقوله علیه السلام: «صبروا أیاما قصیرة أعقبتهم راحة طویلة» (5).

ج ج

ص:378


1- 1) «هدیل» یطلق علی الحمام کما یطلق أحیاناً علی نوحه وهو من الهدل علی وزن العدل بمعنی الصوت العذب.
2- 2) جؤار له معنی مصدری وهو الصوت المرتفع المشوب بالتضرع والنجدة.
3- 3) متبتل من مادة تبتل بمعنی الإنفصال والإعتزال وتطلق علی الرهبان الذین یعتزلون المجتمع وینهمکون بالعبادة. ومن ألقاب الزهراء علیها السلام البتول لإنقطاعها إلی الله وأفضلیتها علی سائر النساء فی الفضل والعلم والمعرفة. وورد فی بعض الروایات أن التبتل هو رفع الید بالدعا.
4- 4) «رهبان» جمع «راهب» من مادة «رهب» علی وزن رحم بمعنی الخوف، الخوف مع ضبط النفس والرهبانیة تعنی شدة العبودیة وترک الدنیا، وهی بدعة ابتدعها طائفة من النصاری، حیث یقاطع الفتی اَوالفتاة الزواج ویقبع فی زاویة من الدیر وینهمک بالعبادة، وقد ورد النهی عنها فی الاسلام، فقد قال صلی الله علیه و آله: «لا رهبانیة فی الاسلام» .
5- 5) نهج البلاغة، الخطبة 193. [1]

القسم الثالث: عظمة وسعة النعم الإلهیة

«وَتاللّهِ لَوِ انْماثَتْ قُلُوبُکُمُ انْمِیاثاً، وَسالَتْ عُیُونُکُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَیْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً، ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِی الدُّنْیا ما الدُّنْیا باقِیَةٌ، ما جَزَتْ أَعْمالُکُمْ عَنْکُمْ - وَلَوْ لَمْ تُبْقُوا شَیْئاً مِنْ جُهْدِکُمْ - أَنْعُمَهُ عَلَیْکُمُ الْعِظامَ، وَهُداهُ إِیّاکُمْ لِلْإِیمانِ» .

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالحدیث عن عظمة النعم الإلهیة التی أفاضها اللّه علی البشریة لإثارة حس الشکر لدیه والتوجه إلی ربّه بما یقوده إلی السمو والرفعة والکمال والقرب من اللّه. فقال علیه السلام: « وتاللّه لو إنّماثت قلوبکم انمیاثاً (1)، وسالت عیونکم من رغبة إلیه ورهبة منه دماً، ثم عمرتم فی الدنیا، ما الدنیا باقیة، ما جزت أعمالکم عنکم - ولو لم تبقوا شیئاً من جهدکم - أنعمه علیکم العظام، وهداه إیاکم للایمان» فقد شرح الإمام علیه السلام بهذه العبارات البلیغة أقصی جهود الإنسان کما وکیفا فی طاعة اللّه، فمن ناحیة الکیفیة أنّه لو ذاب فی طاعة اللّه واصطرخت کافة ذرات جسمه وحلقت روحه فی سماء العبودیة، ومن الناحیة الکمیة لو دام هذا العمل طیلة حیاة ابن آدم، فمع ذلک لایسعه أن یؤدی حق شکر النعم الإلهیة، بل شکر نعمة واحدة، حیث صرحت بعض الروایات بان ذات الشکر نعمة ینبغی للإنسان الشکر علیها. وما أروع ما قال الشاعر:

ص:379


1- 1) «انمیاث» من مادة «موث» علی وزن موت بمعنی الذوبان، وانمیاث من باب الانفعال، ویعنی فی العبارةبذل قصاری الجهد فی سبیل اللّه.

شکر الاله نعمته موجبة لشکره وکیف شکری بره وشکره من بره (1)

فالواقع أنّ الإمام علیه السلام أشار بتلک العبارة إلی عدم محدودیة النعم الإلهیة. وهو کالتعبیر القرآنی فی الآیة 27 من سورة لقمان بشأن علم اللّه: «وَلَوْ أَنَّ ما فِی الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ کَلِماتُ اللّهِ» . نعم لیس للعبد سوی الاعراب عن ضعفه وعجزه أمام النعم الإلهیة. الجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام یؤکد علی نعمة الإیمان «وهداه إیّاکم للإیمان» من قبیل ذکر الخاص بعد العام. فقد أشار فی العبارة السابقة إلی الأنعم الإلهیة ثم خص هنا منها نعمة الإیمان علی غرار ما جاء فی القرآن الکریم: «بَلِ اللّهُ یَمُنُّ عَلَیْکُمْ أَنْ هَداکُمْ لِلْإِیمانِ» (2). ولا تتأتی أهمیة الإیمان من کونها مفتاح سعادة البشر وجواز سفره إلی الجنّة فحسب، بل لأنّها الدافع لکافة الفضائل والأعمال الصحالة والرادع من الرذائل والأعمال السیئة، فالواقع هی أساس الدین والملفت للنظر فی العبارة أنّه علیه السلام نسب الهدایة للّه، وان حصل علیها الإنسان باختیاره وإرادته؛ وذلک لتعذرها علی الإنسان بمفرده ما لم تشمله العنایة الإلهیة ویرشده الأنبیاء والأولیاء والکتب الإلهیة إلیها، ومن هنا نسأل اللّه فی صلواتنا الیومیة لیل نهار الهدایة.

ویبدو من الأهمیة فی نهایة الخطبة الإلتفات إلی هذه النقطة وهی أن القسم الأول لها بعد المقدمة حیث یعد القلوب من خلال تنبیهها إلی تقلب أحوال الدنیا وزوالها، بینما یوجهها فی القسم الثانی والثالث إلی طاعة الله وکسب الفضائل ودفع الرذائل. مع هذا الفارق فی تأکید القسم الثانی علی أهمیة القرب من الله ومطلوبیة کل سعی وجهد للوصول إلی هذا الهدف، أما القسم الثالث فیرد ساحة القدس الربوبی صاحب الفضل عن طریق مسألة شکر المنعم، فالوجدان هو الذی یشهد بضرورة هذا الشکر.

ج ج

ص:380


1- 1) بیت الشعر إقتباس من حدیث عن الإمام السجاد والصادق علیهما السلام، بحارالانوار، 13 / 351 المناجاة الخمسة عشر مناجاة الشاکرین.
2- 2) سورة الحجرات / 17. [1]

الخطبة الثالثة والخمسون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

«فی ذکری یوم النحر وصفة الاُضحیة»

«وَمِنْ تَمامِ الْأُضْحِیَّةِ اسْتِشْرافُ أُذُنِها، وَسَلامَةُ عَیْنِها، فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَالْعَیْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِیَّةُ وَتَمَّتْ، وَلَوْ کانَتْ عَضْباءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَها إِلَی الْمَنْسَکِ» .

الشرح والتفسیر

تمام الاُضحیة

أشار الإمام علیه السلام فی هذا الفصل من الخطبة إلی تفاصیل وجزئیات الاُضحیة، وقال: «ومن تمام الاُضحیة (2)استشراف (3)أذنها وسلامة عینها، فاذا سلمت الاذان والعین سلمت

ص:381


1- 1) سند الخطبة: ورد فی کتاب مصادر نهج البلاغة أنّ هذه لیست خطبة مستقلة (بل هی جزء من الخطبة السابقة التی خطبها فی الأضحی) ومن هنا عدتها نسخة إبن أبی الحدید التی تعتبر أصح النسخ جزءاً من الخطبة السابقة، اما أنّها وردت مستقلة فی سائر النسخ فهذا من خطأ الرواة، والشاهد علی ذلک أنّها وردت جزءا من الخطبة فی کتاب من لا یحضره الفقیه (1 / 461) ومصباح المتهجد / 429. [1] جدیر ذکره أن العبارة التی وردت فی کتاب من لایحضره الفقیه بعد «تجر رجلها إلی المنسک» «فلا تجزی» الذی یغیر العبارة تماماً. ولایبدو ذلک مستبعداً، وان درجنا علی السیر فی نهج البلاغة [2]حسب تصنیف صبحی الصالح. مصادر نهج البلاغة، 2 / 23. [3]
2- 2) «الاُضحیة» : الشاة التی طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عید الأضحی.
3- 3) «إستشراف» من مادة «شرف» بمعنی علو المقام، والمراد باستشراف الاذان تفقدها حتی لاتکون مجدوعة أو مشقوقة غیر سالمة.

الاُضحیة وتمت» ثم أضاف علیه السلام: «ولو کانت عضباء (1)القرن تجر رجلها إلی المنسک» ولا یتتافی هذا الکلام مع ما تعارف بین الفقهاء وما ورد فی سائر روایات المعصومین علیهم السلام من أنّ الاُضحیة یجب أن تکون سالمة الرأس، لأنّ عضب قرنها الداخلی یضر بسلامتها لا قرنها الخارجی، کما لا یضر العرج البسیط الذی لا یعیقها عن الحرکة. وجاء فی بعض النسخ قوله: «فلا تجزی» بعد العبارة «تجر رجلها إلی المنسک» وعلیه یصبح مفهوم العبارة عدم إجزاء الاُضحیة إن کسر قرنها وکانت تجر رجلها علی الأرض (2). قال السید الرضی (ره) فی ذیل الخطبة: «والمنسک هاهنا المذبح» .

عِلیّة سلامة الاُضحیة من النقص والعیب

رغم أنّ الهدف من الضحبیة هو إستفادة بعض المحتاجین منها کما صرح بذلک القرآن الکریم: «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَکُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا القانِعَ وَالْمُعْتَرَّ کَذ لِکَ سَخَّرْناها لَکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ» (3)ومن المسلم به عدم وجود أی تأثیر علی هذا المعنی سواء کان قرنها سالماً أم لا، ولکن الاُضحیة شعیرة إسلامیة وعبادة، ولا یلیق بالساحة القدسیة للربّ سبحانه إختیار الشاة المعیبة والمریضة، ولابدّ من تقدیم الخالصة فانّ ذلک نوع من الادب والاحترام؛ الأمر الذی نلمسه بوضوح فی صلاة المرأة بکامل الحجاب، وارتداء الثیاب النظیفة حین الصلاة، والتعطر عند العبادة وغسل المیت وتکفینه وتحنیطه وما إلی ذلک من الاُمور.

ص:382


1- 1) «عضباء» من مادة «عضب» علی وزن عزم بمعنی القطع أو الکسر، وعضباء القرن بمعنی مکسورة القرن، کما یطلق علی الناقة إذا شقوا اذنها ناقة عضباء.
2- 2) وردت العبارة «فلا تجزی» فی کتاب من لا یحضره الفقیه 1 / 168 باب صلاة العیدین، ح 1487.
3- 3) سورة الحج / 36. [1]

الخطبة الرابعة و الخمسون

اشارة

(1)

ومن خطبة له علیه السلام

وفیها یصف أصحابه بصفین حین طال منعهم له من قتال أهل الشام.

نظرة إلی الخطبة

هناک خلاف بین الشرّاح بشأن زمان الخطبة، فقد ذکر صاحب مصارد نهج البلاغة أنّ جماعة سألوا الإمام علیه السلام عن رأیه بمن سبقوه بالخلافة لما غلب عمرو بن العاص علی مصر وقتل عامل الإمام علیه السلام علیها محمد بن أبی بکر. فأجابهم علیه السلام وهل خمدت فتنة ابن العاص لتسألوا هذا السؤال وقد غلبکم علی مصر وقتلوا صحبی، ثم قال: سأکتب کتاباً واُجیب علی أسئلتکم. بینما ذهب البعض إلی أن بدایة الخطبة مرتبط بزمان البیعة وذیلها بواقعة صفین. کما احتمل أن تکون فی البیعة وموقعة الجمل إلّاأنّ کل هذه الاحتمالات بعیدة، والظاهر أنّ الخطبة واردة بشأن صفین حین هم صحبه بالقتال، ویؤید ذلک ما أورده المرحوم البحرانی والشارح الخوئی من أنّها ناظرة إلی حال أصحاب الإمام علیه السلام فی صفین حین منعهم من قتال أهل الشام. (2)وزبدة الکلام فانّ الإمام علیه السلام قال لما استبطأ اصحابه القتال: «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتی

ص:383


1- 1) سند الخطبة: یری صاحب مصادر نهج البلاغة أنّ هذا الکلام جزء من الخطبة 26 و30 و54 و78، خطبها علیه السلام فی بیته بحضور الناس لیدونوها وینقلوها إلی الآخرین. وقال فی ذیل الخطبة 26 رواها قبل السید الرضی (ره) الثقفی فی الغارات والطبری فی المسترشد والمرحوم الکلینی فی الرسائل نقلاً عن کشف المحجة للسید ابن طاووس وابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة (مصادر نهج البلاغة 1 / 390) .
2- 2) منهاج البراعة 4 / 326؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحرانی 2 / 144. [1]

منعنی النوم، فما وجدتنی یسعنی إلّاقتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلی الله علیه و آله، فکانت معالجة القتال أهون علیَّ من معالجة العقاب، وموتات الدنیا أهون علی من موتات الآخرة» .

ص:384

«فَتَداکُّوا عَلَیَّ تَداکَّ الْإِبِلِ الْهِیمِ یَوْمَ وِرْدِها وَقَدْ أَرْسَلَها راعِیها، وَخُلِعَتْ مَثانِیها؛ حَتَّی ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قاتِلِیَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قاتِلُ بَعْضٍ لَدَیَّ، وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّی مَنَعَنِی النَّوْمَ، فَما وَجَدْتُنِی یَسَعُنِی إِلاَّ قِتالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلی الله علیه و آله فَکانَتْ مُعالَجَةُ الْقِتالِ أَهْوَنَ عَلَیَّ مِنْ مُعالَجَةِ الْعِقابِ وَمَوْتاتُ الدُّنْیا أَهْوَنَ عَلَیَّ مِنْ مَوْتاتِ الْآخِرَةِ» .

الشرح والتفسیر

لیس هنالک سوی القتال

بغض النظر عن کون الخطبة بشأن بیعة الناس للإمام علیه السلام أو المسائل المرتبطة بصفین، فانّه استهلها علیه السلام بعدم انطلاقه نحو الناس بل الناس هم الذین إندفعوا إلیّ: «فتداکوا (1)علیّ تداک الابل إلهیم (2)یوم وردها (3)وقد أرسلها راعیها، وخلعت مثانیها» (4).

ثم أضاف علیه السلام: «حتی ظننت أنهم قاتلیّ أو بعضهم قاتل بعض لدی» تتضمن هذه العبارة عدّة اُمور:

ص:385


1- 1) «تداکوا» من مادة «دک» علی وزن فک، قال الراغب فی المفردات أنّها تعنی الأرض المستویة الرخوة، بینماصرحت سائر کتب اللغة بعکس ذلک وان الدک یعنی الضرب. ومعنی العبارة فی الخطبة أنّهم تزاحموا علیه لیبایعوه رغبة فیه.
2- 2) «هیم» جمع «أهیم» و «هیماء» صفة مشبهة بمعنی شدة العطش التی تجعل الحیوان أو الإنسان یروح ویجیئ، ویقال الهیمان للعاشق. والهیم العطاش من الابل.
3- 3) «ورد» اسم مصدر بمعنی الورود، وقیل مصد کتأکید لمعنی الفاعلیة، وتعنی الجمع أیضاً. یوم وردها یوم سشربها للماء.
4- 4) «مثانی» جمع مثناة بالفتح ومثناة بالکسر وهو حبل من صوف أو شعر یعقل به البعیر. وهی فی الأصل من مادة ثنی بمعنی التکرار واعادة جزء من الشی إلی الآخر.

1 - کیفیة هجوم الناس علیه من أجل البیعة أو حین الاصرار علی شروع موقعة صفین إنّما تفید تغیر الناس آنذاک، وهنا لابدّ من الالتفات إلی أن معنی المفردة تداکوا هو الضرب وقد أشارت فی العبارة إلی شدة عطش الابل التی تضرب بعضها بعضا لتبلغ أسرع من غیرها الماء، والهیم شدة العطش التی تجعل الإنسان أو الحیوان مضطرباً. فلو ترکت هذه الابل العطاش لحالها دون الراعی فما عساها تفعل. أجل هکذا کانت حال الناس فی تلک اللحظات الحساسة حتی کان یخشی علیهم أن یقتل بعضهم بعضاً. نعم هذا هو حال الناس حین یعشقون شیئاً ویعبرون عنه بعواطقهم، إلّاأنّه من المؤسف أنّ هؤلاء الناس سرعان ما یتخلون عن موقفهم إذا واجهتهم بعض المصاعب.

2 - یمکن أن تکون حالة إندفاعهم نابعة من عدم عمق مشاعرهم وقلّة علمهم ومعرفتهم.

3 - تشتمل هذه العبارات علی بعض الکنایات التی تفید صعوبة السیطرة علیهم حین تأخذهم الحرارة والحماس، کما یصعب إثارتهم حین تلفهم البرودة والانتکاس.

ثم قال علیه السلام: «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتی منعنی النوم فما وجدتنی یسعنی إلّا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد صلی الله علیه و آله فکانت معالجة القتال أهون علی من معالجة العقاب وموتات الدنیا أهون علی من موتات الآخرة» .

فتفید هذه العبارات:

أولاً: أنّ الإمام علیه السلام لا یرضخ لضغوط الناس، فلا یتحذ القرار حتی یدرس جمیع جوانب الموضوع، وهذا ما ینبغی أن تکون علیه سیاسة الزعماء الربانیین بعیدة عن العواطف والأحاسیس مستندة إلی مصالح لاُمّة الواقعیة.

ثانیاً: عادة ما یصل الإنسان فی حیاته الفردیة أو القادة فی حیاتهم الاجتماعیة إلی مفترق طرق، فلابدّ هنا من الشجاعة والاقدام علی إنتخاب الاصلح، فان کان القتال هو الأصلح لا ینبغی للدعة والراحة أن تحول دون خوضه بحجة حفظ دماء المسلمین دون الإکتراث إلی المصالح العلیا.

ثالثاً: المهم بالنسبة للإمام علیه السلام رضی اللّه وإداء التکلیف ومن هنا آثر رضی اللّه سواءاً تضمن رضی الناس أم لا.

ص:386

رابعاً: واضح أنّ قتال الإمام علیه السلام کان قتال الإیمان للکفر والإسلام للجاهلیة. بناءاً علی ما تقدم فقد کان علیه السلام یری رضی اللّه قبل الاستجابة لرغبات الناس، وبالطبع قد یمکن الجمع بین الاثنین إذا کانت رغبات الاُمّة وتطلعاتها مشروعة تهدف نشر القیم والمبادئ السماویة.

تأمّلان

1 - البیعة الفریدة للإمام علیه السلام

تفید خطب نهج البلاغة الواردة بهذا الشأن، أنّ البیعة کانت من الحواداث العجیبة التی شهدتها خلافة الإمام علیه السلام بحیث خرجت عن المتعارف فی البیعات العادیة، وقد بلغ الزحام درجة کان یخشی معها وقوع البعض وانحساره بین تلک الجماعات العظیمة. وهنا یطرح هذا السؤال: ما سبب ذلک الهجوم العظیم علی الإمام علیه السلام من أجل البیعة؟ یبدو أنّ غضب الناس بلغ ذروته إبان من سبق الإمام علیه السلام من الخلفاء ولا سیما علی عهد الخلیفة الثالث الذی شهد غیاب العدل وضیاع القیم والمثل والتطاول علی بیت المال والاساءة إلی الشخصیات الإسلامیة وتسلیط عصابة من البطانة علی رقاب الناس، بحیث لم یکن أمام الناس سوی اللجوء إلی ذلک الفرد العادل الذی من شأنه اعادة الإسلام إلی مسیرته الأصلیة. نعم کانوا متعطشین للعدالة، للإسلام الأصیل والمعارف القرآنیة الحقة الخالیة من الخرافات والأساطیر؛ الاُمور التی جمعت فی أمیرَالمؤمنین علی علیه السلام، فما حیلة العطشان إذا رأی الماء الزلال سوی الهجوم علیه والتزود منه، فالهجوم المذکور یفید عظمة مقام الإمام علیه السلام من جانب ومدی إستیاء الناس من الاوضاع السابقة من جانب آخر، والأمران یحتاجان إلی ابحاث تأریخیة مسهبة. (1)

2 - الحرب والسلام، والکفر والإیمان

رأینا فی آخر الخطبة أنّ الإمام علیه السلام وقف أمام سبیلین لا ثالث لهما؛ إما الحرب أو الکفر بما جاء به النبی الأکرم صلی الله علیه و آله. وما ذاک إلّاأنّ الحرب ورغم ما یکتنفها من خراب ودمار وویلات،

ص:387


1- 1) من أراد المزید یمکنه مراجعة الخطبة الشقشقیة.

غیر أنّها قد تکون السبیل الوحید لمجابهة الظلم والاضطهاد وعدم العدل کما تشکل الوسیلة الناجعة لاستئصال جذور الفساد والانحراف ومن هنا کانت إحدی غایات القتال، کما صرح بذلک القرآن القضاء علی الفتنة واخماد نیرانها واعادة الاُمور إلی مجاریها الطبیعیة «وَقاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ» (1)وقال «فَقاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتّی تَفِیءَ إِلی أَمْرِ اللّهِ» (2)وهنا یغلق أولیاء اللّه أبواب الراحة والدعة ویهبوا لخوض القتال وتحمل عنائه وشدائده، ولا عجب فالتضحیة بحطام الدنیا لا یؤثر علی سعادة الاخری.

ص:388


1- 1) سورة الانفال / 39. [1]
2- 2) سورة الحجرات / 9. [2]

الخطبة الخامسة والخمسون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

وقد استبطأ اصحابه إذنه لهم فی القتال بصفین

نظرة إلی الخطبة

یبدو من تناسب مضمون هذه الخطبة مع الخطبة السابقة أنّها خطبة واحدة، أو خطبتان وردتا فی زمان متقارب قال ابن أبی الحدید فی ذیل هذه الخطبة: لما ملک أمیرالمؤمنین علیّ علیه السلام الماء بصفین ثم سَمَح لأهلِ الشام بالمشارکة فیه والمساهمة، رجاء أن یطفوا إلیه، واستمالةً لقلوبهم وإظهارا للعدالة وحسن السیرة فیهم، مکث أیاماً لا یُرسِل إلی معاویة، ولا یأتیه مِنْ عند معاویةَ أحدٌ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم فی القتال، وقالوا: یا أمیرَالمؤمنین، خَلَّفْنا ذراریّنا ونساءنا بالکوفة، وجئنا إلی أطراف الشام لنتّخذها وطناً، ائذن لنا فی القتال، فإنّ الناس قد قالوا. قال لهم علیه السلام: ما قالوا؟ فقال منهم قائل: إنّ الناس یظنون أنّک تکرهُ الحرب کراهیةً للموت، وإنّ من الناس من یظن أنّک فی شکٍ ّ مِنْ قتال أهلِ الشام. فقال علیه السلام: ومَتَی کنتُ کارها للحرب قطّ! إنّ من العجب حُبِّی لها غلاماً ویَفَعاً، وکراهیتی لها شیخاً بعد نفادِ العمر وقرب الوقت! وأمّا شکّی فی القوم فلو شککت فیهم لشککتُ فی أهل

ص:389


1- 1) سند الخطبة: لم یشر صاحب مصادر نهج البلاغة إلی سند خاص لهذه الخطبة، إلّاأنّ لابن أبی الحدید فصل ذیل هذه الخطبة تحت عنوان من أخبار یوم صفین یفید أنّ ما أورده هنا السید الرضی (ره) بمعنی آخر ینسجم وما جاء فی التواریخ. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4 / 13. [1]

البصرة، واللّه لقد ضربتُ هذا الأمر ظهراً وبطناً، فما وجدت یسعُنی إلّاالقتال أو أن أعصیَ اللّه ورسوله، ولکنی أستأنی بالقوم، عسی أن یهتدوا أو تهتدی منهم طائفة، فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله قال لی یوم خیبر: «لأنّ یهدیَ اللّه بک رجلاً واحداً خیر لک مِمّا طلعت علیه الشمس» .

ص:390

«أَمّا قَوْلُکُمْ: أَکُلَّ ذَلِکَ کَراهِیَةَ الْمَوْتِ؟ فَواللّهِ ما أُبالِی، دَخَلْتُ إِلَی الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَیَّ. وَأَمّا قَوْلُکُمْ شَکّاً فِی أَهْلِ الشّامِ! فَواللّهِ ما دَفَعْتُ الْحَرْبَ یَوْماً إِلاَّ وَأَنا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِی طائِفَةٌ فَتَهْتَدِیَ بِی، وَتَعْشُوَ إِلَی ضَوْئِی، وَذَلِکَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَها عَلَی ضَلالِها وَإِنْ کانَتْ تَبُوءُ بِِآثامِها» .

الشرح والتفسیر

تماسک الإمام علیه السلام حیال القتال

کما ذکرنا فانّ الخطبة جواباً لأصحابه علیه السلام الذین استبطأوا إذنه لهم بالقتال فی صفین، فقد قال علیه السلام «أمّا قولکم: أکل (1)ذلک کراهیة الموت؟ فو اللّه ما أبالی، دخلت إلی الموت أو خرج الموت إلیّ» . نعم إذا کان هنالک هدفا مقدساً کرضی اللّه فانّ الفرد المؤمن لابدّ أن یسارع إلی الشهادة ولا ینتظرها، فما أسمی أن یهب الإنسان نفسه ویضحی بها من أجل معشوقه ومعبوده. أضف إلی ذلک فسابقة الإمام علیه السلام فی الغزوات الإسلامیة لأشهر من نار علی علم ولیست بخافیة علی أحد ولا سیما صولاته فی بدر وأحد والأحزاب وخیبر وحنین وذوده عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله واستماتته من أجل نیل الشهادة، فکیف وهذا الحال یمکن توجیه هذه التهمة الباطلة لهذا الإنسان بتأخیر القتال خوف الشهادة. وقد تحدث الإمام علیه السلام عن مثل هذا المعنی فی الخطبة الخامسة والخطبة مئة وثلاث وعشرین حیث قال: «واللّه لابن أبی طالب آنس

ص:391


1- 1) هنالک احتمال بشأن إعراب هذه الجملة: أحدهما أن کل منصوبه علی أنّها مفعول لفعل تقدیره «أتفعل کل ذلک» ، والآخر انها مرفوعة کمبتدأ وتقدیر الجملة «أکل ذلک ناشئ من کراهیة الموت» . علی کل حال فانّ الجملة «کراهیة المت» مفعول لأجله.

بالموت من الطفل بثدی أمه» وقال: «والذی نفس ابن أبی طالب بیده لألف ضربة بالسیف أهون علی من میتة علی الفراش فی غیر طاعة اللّه» .

وتشهد سیرة الإمام علیه السلام أنّه مارس هذا المعنی عملیاً فی حیاته وما أجهل تلک الجماعة من جیش أهل العراق التی وجهت مثل تلک التهمة للإمام علیه السلام وخشیته من الشهادة فی سبیل اللّه. قد یقال أنّ اُولئک لم یکونوا أدرکوا اولی الغزوات الإسلامیة. فنقول فهل یسعهم نسیان موقعة الجمل؟ الموقعة التی کان ینقض فیها الإمام علیه السلام کاللیث الضاری علی جنود الأعداء فیمزق جموعهم وینزل حمم غضبه علی رؤوسهم. بل کیف یمکن إتهامه وهو الذی یمثل الإیمان کله فی مقابل الشرک کله، أولیس هو القائل: «لقد کنت وما اهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب وإنی لعلی یقین من ربّی وغیر شبهة من دینی» . وقوله علیه السلام: «فو اللّه ما اُبالی» إشارة إلی هذه الحقیقة وهی أنّ الأفراد العادیین ممن لا هدف لهم، هم الذین یخشون الاتجاه نحو الموت، بل ینتظرون قدوم الموت إلیهم آخر عمرهم؛ بینما لیس هنالک من فارق بین الخروج إلی الموت أو قدوم الموت حسب الأجل المقدر بالنسبة لأهل الإیمان والورع والتقوی ولعل الموت یمکن تشبیهه هنا بالاسد المفترس، فالفرد العادی لا یتجه إلیه أبداً، أما الشجاع فیقدم علی مواجتهه دون أن یشعر بخوف أو هلع، فالمؤمن الشجاع حین یری فی الموت الشهادة فی سبیل اللّه ونیل رضوانه یستقبله بکل رحابة صدر، فلو قدر لهذا الموت أن یسلبهم ما تبقی من عمرهم، فانّهم سیستبدلون بذلک الخلود والبقاء. ثم تناول الإمام علیه السلام الاحتمال الثانی الذی أوردته تلک الجماعة بشأن تأخیر القتال فقال: «وأمّا قولکم شکاً فی أهل الشام فو اللّه ما دفعت الحرب یوما إلّاوأنا أطمع أن تلحق بی طائفة فتهتدی بی، وتعشوا (1)إلی ضوئی» ثم برر ذلک بقوله علیه السلام «وذلک أحب إلی من أن أقتلها علی ضلالها وإن کانت تبوءء (2)بآثامها» . فالإمام علیه السلام یؤکد هنا علی أن القتال لا یمثل هدفاً ولا السبیل الأول لحل الخصومات من وجهة نظر أولیاء اللّه، بل هو العلاج الأخیر إذا ما عجزت کل السبل والاسالیب، فهم یسعون جاهدین للتریث

ص:392


1- 1) «تعشو» فی الأصل من مادة «عشو» علی وزن ضرب بمعنی الظلمة وعدم وضوح الشیء ومنه صلاةالعشاء لأنها أول الظلمة وعشی بمعنی آخر الیوم الذی یظلم فیه الجو تدریجیا ویقال الأعشی لضعیف البصر.
2- 2) «تبوء» من مادة «بوء» علی وزن نوع بمعنی الرجوع والعودة وقیل أصلها یعنی الصافی والمسطح وارید بهاهنا الرجوع.

والاناة أملاً فی رجوع ولو فرد واحد إلی الحق فیزداد أهل الحق ویقل أهل الباطل، بینما ینظر السذج من الناس إلی هذا الأمر بنوع من الشک والریبة، فانّ أولیاء اللّه یفتحون ذراعهم باستقبال النادمین والتابئین وقد أثبت التأریخ - ولا سیما موقعة صفین - صحة حسن ظن الإمام علیه السلام، وذلک لأنّ فئة کبیرة قد فاءت إلی الحق بینما انسحبت طائفة من المعرکة وذلک بفضل تریث الإمام علیه السلام واناته فی القتال.

ص:393

ص:394

الخطبة السادسة والخمسون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

یصف أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وذلک یوم صفین حین أمر الناس بالصلح

نظرة إلی الخطبة

هناک رأیان بشأن زمان الخطبة: فالبعض یعتقد أنّه ورد بشأن فتنة ابن الحضرمی بعد أن استشهد محمد بن أبی بکر علی ید عمرو بن العاص فقد البصرة من قبل معاویة لیخرجها من حکومة الإمام علی علیه السلام حیث استولی علیها بمعونة جماعة من المنافقین. فلما بلغ الإمام علیه السلام ذلک من قبل ابن عباس یعزیه بمحمد بن أبی بکر خطب الخطبة، ثم بعث بجاریة ابن قلامة السعدی المعروف بشجاعته فحاصر ابن الحضرمی مع سبعین من صحبه وقضی علیهم جمعیاً. والرأی الآخر أنّ الإمام علیه السلام خطبها فی صفین، حین اقترح علی الإمام علیه السلام الصلح وقد ضغطوا علی الإمام علیه السلام لقبوله. علی کل حال فان الإمام علیه السلام خطب الناس لا متثال أوامره، ثم تطرق لا خلاص المسلمین فی صدر الإسلام وأنّ سبب النصر یکمن فی الانضباط والتسلیم لأوامر النبی صلی الله علیه و آله، فی إشارة إلی النصر سیکون حلیفهم لو إستنّوا بهذه السنة وطاعوا الأوامر، والّا لیس إمامهم سوی الفشل والهزیمة إذا عاشوا الفرقة والتشتت وعدم طاعة الاوامر.

ج ج

ص:395


1- 1) سند الخطبة: نقل ابن أبی الحدید هذا الکلام عن الواقدی ابن هلال قبل المرحوم السید الرضی (ره) ورواها الزمخشری فی ربیع الأبرار فی الجزء الرابع من باب القتل والشهادة. وأضاف صاحب مصادر نهج البلاغة بعد ما اورد هذا الکلام انه من کلامه المعروف فی مصادر العلماء السابقین وبعد السید الرضی (مصادر نهج البلاغة 2 / 29) .

ص:396

«وَلَقَدْ کُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله نَقْتُلُ آباءَنا وَأَبْناءَنا وَإِخْوانَنا وَأَعْمامَنا، ما یَزِیدُنا ذَلِکَ إِلاَّ إِیماناً وَتَسْلِیماً وَمُضِیّاً عَلَی اللَّقَمِ وَصَبْراً عَلَی مَضَضِ الْأَلَمِ وَجِدّاً فِی جِهادِ الْعَدُوِّ؛ وَلَقَدْ کانَ الرَّجُلُ مِنّا وَالْآخَرُ مِنْ عَدُوِّنا یَتَصاوَلانِ تَصاوُلَ الْفَحْلَیْنِ، یَتَخالَسانِ أَنْفُسَهُما أَیُّهُما یَسْقِی صاحِبَهُ کَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَمَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنّا، فَلَمّا رَأَی اللّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْکَبْتَ وَأَنْزَلَ عَلَیْنَا النَّصْرَ، حَتَّی اسْتَقَرَّ الْإِسْلامُ مُلْقِیاً جِرانَهُ وَمُتَبَوِّئاً أَوْطانَهُ. وَلَعَمْرِی لَوْ کُنّا نَأْتِی مَا أَتَیْتُمْ، مَا قامَ لِلدِّینِ عَمُودٌ وَلا اخْضَرَّ لِلْإِیمانِ عُودٌ. وَایْمُ اللّهِ لَتَحْتَلِبُنَّها دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّها نَدَماً!»

الشرح والتفسیر

الوقوف المشرف إلی جانب رسول اللّه صلی الله علیه و آله

أشار إبن میثم البحرانی فی شرحه إلی بعض الخطبة الذی لم یرد فی کلام السید الرضی (ره) والذی له تأثیر علی فهم مضمون هذه الخطبة، فقال: روی البعض أنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة حین أراد الناس الصلح مع جیش معاویة (بینما کان الإمام علیه السلام مخالف ذلک ولو لا اصرار البعضی منهم لما وافق) فقد إستهل الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «إن هؤلاء القوم لم یکونوا لیفیئوا إلی الحق ولا لیجیبوا إلی کلمة سواء حتی یرموا بالمناشر تتبعها العساکر، وحتی یرجموا بالکتاب تقفوها الجلائب، وحتی یجر ببلاده الخمیس یتلوه الخمیس، وحتی تدعق الخیول فی نواحی أراضیهم، وبأعناء مشاربهم ومسارحهم، حتی تشن علیهم الغارات من کل فج عمیق، وحتی یلقاهم قوم صدق صبر، ولا یزیدهم هلاک من هلک من

ص:397

قتلاهم وموتاهم فی سبیل اللّه إلا جدا فی طاعة اللّه وحرصاً علی لقاء اللّه. ولقد کنا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله الفصل» (1)وعلیه فانّ مصالحة هؤلاء القوم الجفاة لا تنطوی سوی علی الاحباط والفشل، وذلک لأنّهم لایفهون منطق الصلح ولا یمکنهم التعایش مع الآخرین بسلام ولا یدرکون سوی منطق القوة، وهذا ما کشفت عنه أحداث صفین. علی کل حال واصل الإمام علیه السلام خطبته لیتحدث عن مقومات النصر وعوامل الفشل والهزیمة فقال علیه السلام: «ولقد کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله نقتل آباءنا وابناءنا واخوننا واعمامنا» فی إشارة إلی ضرورة عدم الالتفات إلی قرابة کائن من کان إذا وقف کعقبة أمام المسیرة، الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم: «قُلْ إِنْ کانَ آباؤُ کُمْ وَأَبْناؤُ کُمْ وَإِخْوانُکُمْ وَأَزْواجُکُمْ وَعَشِیرَتُکُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسادَها وَمَساکِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ» (2)ثم قال علیه السلام: «ما یزیدنا ذلک إلا إیمانا وتسلیما ومضیا علی اللقم» (3)وصبرا علی مضض (4)الالم وجدا علی جهاد العدو» فما أشار إلیه الإمام علیه السلام بهذه العبارة إنّما یمثل واقعة تأریخیة، فقد مثل أمام المسلمین فی أغلب المعارک ولا سیما معرکة بدر قرابتهم وعشیرتهم، فما کان من المسلمین إلّاأن قاتلوهم بکل بسالة دون أن یکترثوا لتلک القرابة رغم احترام العرب المنقطع النظیر للروابط القبلیة. ثم قال علیه السلام: «ولقد کان الرجل منا والآخر من عدونا یتصاولان (5)تصاول الفحلین یتخالسان (6)أنفسهما أیهما یسقی صاحبه کأس المنون، فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا» فی إشارة إلی أنّه لیس من الضرروی أن ینتصر الحق علی الباطل فی کافة المعارک وطیلة المجابهة، فقد یتغلب الباطل علی الحق أحیاناً إلّاأنّ الحق وعلی ضوء الوعد الإلهی منتصر فی خاتمة المطاف - وعلیه فلا تتوقعوا عدم بروز المشاکل خلال مجابهة أهل الشام، کما أنّ هذه المشاکل لا ینبغی أن تقود إلی

ص:398


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم 2 / 146.
2- 2) سورة التوبة / 24. [1]
3- 3) «لقم» : قال بعض أرباب اللغة وشرّاح نهج البلاغة تعنی معظم الطریق أو جادته، واصلها من اللقم علی وزن العفو بمعنی السرعة فی الأکل.
4- 4) «مضض» علی وزن «مرض» بمعنی تجذر الهم فی القلب مع الحرقة.
5- 5) التصاول من صول علی وزن قول أن یحمل کل واحد من الندین علی الآخر.
6- 6) «تخالس» من مادة «خلس» علی وزن درس کل واحد منها یطلب اختلاس روح الآخر.

التمرد علی أوامر الإمام علیه السلام، ما سیرة النبی صلی الله علیه و آله وصحبه إلّادلیل واضح علی هذا الأمر، ومن هنا قال علیه السلام: «فلما رأی اللّه صدقنا أنزل بعدونا الکبت (1)وأنزل علینا النصر، حتی إستقر الإسلام ملقیا جرانه (2)ومتوئاً أوطانه» فالإمام علیه السلام أشار هنا إلی العامل الرئیسی لانتصار المسلمین الأوائل ویلوح إلی عناصر فشل أهل الکوفة، فقد نسب العامل الرئیسی للانتصار إلی صدق النیة التی تمثل الدافع الأصلی للصمود والمقاومة أمام العدو والطاعة التامة للزعامة الربانیة. ولو تلوثت هذ النیة وسیطرت الأنانیة علی الإنسان، آنذاک ستکون إرادته وقراره مستنداً لاهوائه وطیشه وغروره؛ الأمر الذی یقود إلی الهزیمة والفشل. ومن الطبیعی ألا تشمل عنایات اللّه وألطافه ونصره مثل هؤلاء الأفراد، ثم خلص الإمام علیه السلام لهذه النتیجة: «ولعمری لو کنا نأتی ما أتیتم، ما قام للدین عمود ولا إخضر للایمان عود» فهل تعلمون من قوم فی أی عصر ومصر إنتصروا یفرقتهم واختلافاتهم، فاذا رجعتم قلیلا إلی الوراء لرأیتم أنّ النصر الخاطف الذی حققه رسول اللّه صلی الله علیه و آله خلال تلک المدة القصیرة حتی ترسخت دعائم الدین واتسع نطاق الإسلام لیشع بنوره علی ظلمات الشرق والغرب فانّ ذلک کان بفضل الإیمان والطاعة والجهاد، بینما تمارسون الآن عکس ذلک وتحلمون بالنصر. وأخیراً یحذرهم علیه السلام بالقول: «وأیم اللّه لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً» .

فقد تضمنت العبارات الاخیرة للإمام علیه السلام ثلاثة تشبیهات: الأول: تشبیه الإسلام بالخیمة واعمدته الجهاد. حیث نعلم بأنّ الخیمة موضع الأمن والراحة من الحرارة المحرقة والبرودة القارسة، الإسلام هو الآخر موضع أمن البشریة ووسیلة نجاتها من العواصف القاتلة. الثانی: تشبیه الإیمان بالشجرة التی إخضرت غصونها بدماء المؤمنین فی صدر الإسلام. والثالث: تشبیه الحکومة بالناقة التی تحتلب الدم بدلاً من اللبن بسبب تعفن ضرعها أو العبث والإفراط فی إحتلابها، أی أنّها، أعطت نتیجة معکوسة، فاللبن من أفضل طعام الإنسان ومواده الغذائیة، أمّا الدم فهو لیس بغذاء، بل مادة سامة مفسدة. وأخیراً فقد تحققت نبوءات الإمام علیه السلام بشأن تلک الطائفة الطاغیة، حیث تسلط علیهم الظلمة الذین ساموهم سوء العذاب.

ص:399


1- 1) «کبت» علی وزن ثبت بمعنی الاذلال.
2- 2) جران البعیر مقدم عنقه من مذبحه إلی منحره، القاء الجران کنایة عن التمکن، فالعبارة کنایة عن إتساع رقعةالإسلام ونصر المسلمین واستقرار الإسلام فی مختلف بقاع العالم.

تأمّلان

1 - ثانی فتن البصرة

کانت البصرة أحد المراکز الإسلامیة المهمة والبوابة إلی العالم الخارجی ومن هنا کانت السیطرة علیها قضیة مهمة. ولذلک کان یسعی معاویة للسیطرة علیها کما ورد فی ورود الخطبة. ویری البعض أن الإمام علیه السلام خطبها لإخماد فتنة أخری فی البصرة. فقد طمع معاویة بالبصرة بعد قتل عامل علی علیه السلام فیها محمد بن أبی بکر، فکتب کتابا إلی أنصاره فی البصرة وذکرهم الوقعة التی أهلکتهم وقد إنتخب «ابن الحضرمی» والیا علی البصرة فحث الناس للقیام علی خلیفة عامل الإمام علیه السلام علیها «زیاد بن عبید» فاستجاب له البعض ومنهم الخوارج فسیطروا علی أجزاء من البصرة وقتلوا سفیر الإمام علیه السلام «أعین بن صبیعه» فلما بلغ ذلک الإمام علیه السلام بعث بجاریة بن قدامه إلی البصرة لیقرأ علیهم کتاب الإمام علیه السلام.

سلام علیکم: أمّا بعد فإنّ اللّه حَلیم ذو أنَاةٍ، لا یَعْجَلُ بالعقوبة قَبْل البیّنة، ولا یأخذ المذنب عند أول وَهْلة، ولکنه یقبل التوبة، ویستدیم الأناة، ویرضی بالإنابة؛ لیکون أعظمَ للحجّة، وأبلغ فی المعذرة، وقد کان من شقاق جُلّکم أیّها الناس ما استحققتم أن تعاقَبوا علیه، فعفوت عن مجرمکم، ورفعت السَّیْف عن مُدْبرکم، وقبلت من مُقْبلکم، وأخذت بیعتَکم، فإن تَفُوا ببْیعتی، وتقبلُوا نصیحتی، وتستقیموا علی طاعتی، أعملْ فیکم بالکتاب والسنة وقَصْد الحق، وأُقِمْ فیکم سبیل الهدی، فواللّه ما أعلم أنّ والیاً بعد محمد صلی اللّه علیه وآله أعلمُ بذلک منِّی، ولا أعمل بقولی. أقول قولی هذا صادقاً، غیرَ ذامٍ ّ لمن مَضی، ولا منتقصاً لأعمالهم، وإن خَبَطَتْ بکم الأهواء المُرْدِیة، وسَفَهُ الرأی الجائر إلی منابذتی، تریدون خِلافی! فها أنا ذا قَرَّبْتُ جیادی، وَرَحَلْت رکابی، وایمُ اللّه لئن ألجأتمونی إلی المسیر إلیکم لأُوِقَعنّ بکم وَقْعَةً، لا یکون الجمل عندها إلّاکلَعْقَة لاعق، وإنی لظانّ ألّا تجعلوا - إن شاء اللّه - علی أنفسکم سبیلاً. وقد قدمّت هذا الکتاب إلیکم حجة علیکم، ولنْ أکتبَ إلیکم من بعده کتاباً، إن أنتم استغششتم نصیحتی، ونابذْتُم رسولی، حتی أکونَ أنا الشَّاخص نحوکم، إن شاء اللّه تعالی. والسلام.

فلما قرأها علیهم تأثروا تأثرا شدیدا، بینما واصل البعض منهم عناده، فواجهوا ابن

ص:400

الحضرمی وهزموه، فلاذ مع سبعین من صحبه بدار ولم یکن أمام جاریة من سبیل سوی إحراق الدار فقتلوا فیها جمیعا. (1)

ج ج

قال: وروی کعب بن قعین أنّ علیّاً علیه السلام کتب مع جاریة کتاباً، وقال: اقرأه عَلَی أصحابک، قال: فمضینا معه، فلما دخْلنا البصرة، بدأ بزیاد، فرحّب به وأجلَسه إلی جانبه، وناجاه ساعة وساءلَهُ، ثم خرج فکان أفضل ما أوصاه به أنْ قال: احذَرْ علی نفسک، واتَّقِ أن تَلْقَی ما لِقَی صاحبُک القادمُ قَبْلک.

وخرج جاریة من عنده، فقام فی الأزد، فقال: جزاکم اللّه من حَیّ خیراً! ما أعظَم غَناءکم، وأحسنَ بلاءکم، أطوَعکم لأمیرکم! لقد عرفتم الحقَّ إذ ضَیّعه مَنْ أنکره، ودَعَوْتم إلی الهدی إذ ترکه مَنْ لم یعرفه. ثم قرأ علیهم علی مَنْ کان معه من شیعة علیّ علیه السلام وغیرهم - کتابَ علیّ علیه السلام، فإذا فیه:

من عبداللّه علیّ أمیرالمؤمنین إلی مَنْ قرئ علیه کتابی هذا من ساکِنی البصرة من المؤمنین والمسلمین:

قال: فلما قرئ الکتاب علی الناس قام صَبْرة بن شَیْمان، فقال: سمعنا وأطعنا ونحن لمنْ حارب أمیرالمؤمنین حَرْب، ولمن سالم سِلْم؛ إن کَفَیْتَ یا جاریة قومَک بقومک فذاک، وإن أحببت أنْ ننصرک نصرناک.

وقام وجوه الناس فتکلموا بمثل ذلک ونحوه، فلم یأذن لأحدٍ منهم أن یسیر معه، ومضی نحو بنی تمیم.

فقام زیاد فی الأزد، فقال:

یا معشر الأزْد، إنّ هؤلاء کانوا أمس سِلماً، فأصبحوا الیوم حرباً، إنکم کنتم حَرْباً فأصبحتم سلماً، وإنی واللّه ما اخترتکم إلّاعلی التجربة، ولا أقمت فیکم إلّاعلی الأمل، فما رضیتم أن أجرتمونی، حتی نصبتم لی منبراً وسریراً، وجعلتم لی شُرَطاً وأعواناً، منادیاً وجمعة،

ص:401


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4/34 [1] باختصار شدید.

فما فقدت بحضرتکم شیئاً إلّاهذا الدرهم، لا أجْبیه الیوم، فإن لم أجْبه الیوم أجْبِه غدا إن شاءاللّه. واعلموا أنّ حربکم الیومَ معاویة أیسر علیکم فی الدنیا والدین من حربکم أمس علیّاً، وقد قدم علیکم جاریة بن قدامة، وإنّما أرسله علیّ لیصدَع أمرَ قومه، واللّه ما هو بالأمیر المطاع، ولو أدرک أمله فی قومه لرجع إلی أمیرالمؤمنین أو لکان لی تبعاً، وأنتم الهامةُ العظمی، والجزمرة الحامیة، فقدِّموه إلی قومه، فإ اضطر إلی نصرکم فسیروا إلیه، إن رأیتم ذلک.

فقام أبو صبرة شَیْمان فقال: یا زیاد، إنی واللّه لو شهدتُ قومی یومَ الجمل، رجوتُ ألّا یقاتلوا علیاً، وقد مضی الأمرُ با فیه. وهو یوم بیوم، أمْر بأمر، واللّهُ إلی الجزاء بالإحسان أسرعُ منه إلی الجزاء بالسیّیء، والتوبة مع الحقّ، والعفْو مع الندم، ولو کانت هذه فتنة لدعونا القوم إلی إبطال الدماء، واستئناف الاُمور، ولکنها جماعة دماؤها حرام، وجرُوحها قصاص، ونحن معک نحبّ ما أحببتَ.

فعجب زیاد من کلامه، وقال: ما أظنُّ فی الناس مثل هذا.

ثم قام صبرة ابنه، فقال: إنا واللّه ما أصِبْنا بمصیبة فی دین ولا دنیا کما أصِبْنا أمس یوم الجمل، وانا لنرجوا الیوم أن نُمَحّص ذلک بطاعة اللّه وطاعة أمیرالمؤمنین، وأمّا أنْتَ یا زیاد، فواللّه ما أدرکت أَمَلک فینا، ولا أدرکْنَا أَملنا فیک دُون رَدّک إلی دارک، ونحن رادّوک إلیها غداً إن شاءاللّه تعالی، فإذا فعلنا فلایکن أحدٌ أَوْلَی بک مِنّا، فإنک إلا تفعل لم تأت ما یشبهک، وإِنا واللّه نخاف من حرب علیّ فی الآخرة، مالا نخاف من حرب معاویة فی الدنیا، فقدّم هواک وأخِّر هوانا، فنحن معک وطوعک.

ثم قام خنقُر الحمانیّ، فقال: أیُّها الأمیر، إنّک لو رضیت مِنّا بما ترضی به من غیرنا، لم نرض ذلک لأنفسنا، سِرْبنا إِلی القوم إن شئت، وایمُ اللّه مالقینا قوماً قطّ إِلا اکتفینا بعفونا دون جَهْدنا؛ إلّا ما کان أمس.

قال إبراهیم: فأمّا جاریة، فإنّه کلم قومه فلم یجیبوه، وخرج إلیه منهم أوباشٌ فناوشوه بعد أنْ شتمه أسمعوه، فأرسل إلی زیاد والأزْد، یستصرِخهم ویأمرهم أن یسیروا إلیه، فسارت الأزْد بزیاد، وخرج إلیهم ابنُ الحضرمیّ، علی خیله عبداللّه بن خازم السُّلمیّ، فاقتتلوا ساعة، أقبل شریک بن الأعور الحارثیّ - وکان من شیعة علیّ علیه السلام، وصدیقا لجاریة بن

ص:402

قدامة - فقال: ألا أقاتل معک عدوّک؟ فقال: بلی؛ فما لبثت بنو تمیم أنْ هزموهم واضطروهم إلی دار سنبیل السعدی؛ فحصروا ابنَ الحضرمیّ وحدُّوه، فأتی رجل من بنی تمیم، ومعه عبداللّه بن خازم السلمیّ، فجاءت أمی وهی سوداء جشیة اسمها عجلی، فنادته، فأشرف علیها، فقالت: یا بُنّی، انزل إلیّ، فأبی فکشفت رأسها وأبدت قِناعها، وسألته النزول فأبی، فقالت: واللّه لتنزلنّ أو لأتعرّینّ، وأهوت بیدها إلی ثیابها، فلما رأی ذلک نَزَل، فذهبت به، وأحاط جاریة وزیاد بالدّار، وقال جاریة: علیَّ بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحریق بالنار فی شیء؛ وهم قومُک وأنت أعلم، فحرّق جاریة الدَّار علیهم، فهلک ابنُ الحضرمیّ فی سبعین رجلاً؛ أحدهم عبدالرحمن بن عمیربن عثمان القرشی التّیمیّ؛ وسُمِّیَ جاریة منذ ذلک الیم محرِّقاً؛ وسارت الأزْد بزیاد حتی أوطنوه قصر الإمارة؛ ومعه بیت المال، وقالت له: هل بقی علینا مِنْ جوارک شیء؟ قال: لا، قالوا: فبرّئنا منه؟ فقال: نعم؛ فانصرفوا عنه. وکتب زیاد إلی أمیرالمؤمنین علیه السلام:

أما بعد، فإن جاریة بن قدامة العبد الصالح قَدِم من عندک، فناهَضَ جَمْع ابن الحضرمیّ بمن نصره وأعانه من الأزد، ففضّه واضطره إلی دارٍ مِنْ دور البصرة فی عدد کثیر من أصحابه، فلم یخرج حتی حکم اللّه تعالی بینهما، فقتِل ابنُ الحضرمی وأصحابه، منهم من أحرق بالنار؛ ومنهم من أُلْقی علیه جدار؛ ومنهم من هُدِم علیه البیت من أعلاه؛ ومنهم من قُتِل بالسیف، وسلم منهم نفر أنابوا وتابوا، فصفح عنهم، وبعداً لمن عصی وغوی! والسلام علی أمیرالمؤمنین ورحمة اللّه وبرکاته.

2 - خصائص المسلمین الاوائل

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی خصائص مسلمی صدر الإسلام فی أنّهم کانوا مطیعین لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ولم یأبهوا بابائهم واخوانهم وابناءهم فی میادین القتال، فکانوا یصاولونهم لیجرعوهم القتل من أجل تحقیق الاهداف الإسلامیة المقدسة. کانوا یتحلون بالاخلاص وصدق النیة؛ الأمر الذی جعل اللّه یؤیدهم بنصره ویفیض علیهم من لطفه وفضله حتی إنتشر الدین واضاء نور الحق والیقین فی أنحاء العالم. والحق لو أنّ المسلمین الأوائل کانوا علی

ص:403

غرار أهل الکوفة لما تنفس الإسلام وتنهنه حتی فی مکة والمدینة، ولو کانت إرادتهم الفردیة هی الحاکمة وتمردوا علی أوامر قیادتهم الربانیة لما اخضر عود شجرة الإسلام ولانهارت أعمدة خیمة الإیمان. وبالطبع فانّ کثیراً من اُولئک کانوا ممن أدرک عصر النبی صلی الله علیه و آله أو رأی أصحابه، إلّاأنّ إرادتهم ضعفت ووهنت إثر تلک الأحداث التی أعقبت رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ولا سیما علی عهد الخلیفة الثالث واقبال الناس علی الدنیا والاغترار بزخارفها والخلود إلی الراحة والدعة بعد تنامی الأموال والثروات بفعل الفتوحات الإسلامیة، إلی جانب الدعایة الواسعة التی کان یمارسها المنافقون وأعداء الدین.

ص:404

الخطبة السابعة والخمسون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

فی صفة رجل مذموم، ثم فی فضله هو علیه السلام

نظرة إلی الخطبة

هناک أبحاث بین شرّاح نهج البلاغة بشأن المقصود بکلام الإمام علیه السلام إلّاأن المشهور أنّ المراد به معاویة. فقد ذکر ابن أبی الحدید فی شرحه: وکثیر من الناس یذهب إلی أنّه علیه السلام عنی زیاداً، وکثیراً منهم یقول إنّه عنی الحجاج أو المغیرة، والأشبه عندی أنه عنی معاویة، لأنّه کان موصوفا بالنهم وکثرة الأکل، وکان بطیناً، یقعد بطنه إذا جلس علی فخذیه. (2)

وروی أبو عثمان الجاحظ فی کتاب السفیانیة أنّ أباذر قال لمعاویة: سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «إذا ولی الاُمّة الاعین الواسع البلعوم الذی یأکل ولا یشبع فلتأخذ الاُمّة حذرها منه» ، کما أورد عدة روایات من المصادر المعروفة من قبیل تأریخ الطبری وتأریخ الخطیب وکتاب صفین عن أبی سعید الخدری وعبداللّه بن مسعود أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «إذا رأیتم معاویة علی منبری فاقتلوه، أو فاضربوا عنقه» (3)فالعبارات الواردة فی الروایة والتی تشبه

ص:405


1- 1) سند الخطبة: قال صاحب مصادر نهج البلاغة لقد روی هذا الکلام عن أمیرَالمؤمنین علیه السلام کراراً من المحدثین قبل السید الرضی (ره) . وروی إبراهیم الثقفی فی کتاب الغارات عن الإمام الباقر علیه السلام أنّ الإمام علیه السلام صعد منبر الکوفة فقال: «سیعرض علیکم سبّی. . .» کما روی هذا الکلام الکلینی فی الکافی والبلاذری فی أنساب الاشراف والحاکم فی المستدرک وشیخ الطائفة الطوسی فی الامالی (مصادر نهج البلاغة 2 / 33) .
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4 / 54. [1]
3- 3) مصادر نهج البلاغة، [2] ذیل الخطبة.

عبارات الخطبة تفید أنّها بشأن معاویة. والشاهد الآخر موضوع السب الذی ورد أخر الخطبة، حیث نعلم جمیعاً بان معاویة کان یحرض الناس علی سب أمیرالمؤمنین علیه السلام من علی المنابر، فهل من داع للتحری عن فرد آخر وردت بشأنه الخطبة سوی التعصب والعناد؟ ! علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام تحدث فی هذه الخطبة عن حاکم نهم أکول مندحق البطن یأمر الناس بسبه والبراءة منه. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی وظیفة الاُمّة حیال ذلک. وقد أثبت التأریخ صحة نبوءة الإمام علیه السلام التی تحققت فی عهد معاویة.

وأخیرا أشار الإمام علیه السلام إلی بعض فضائله فی آخر الخطبة.

ص:406

«أَمّا إِنَّهُ سَیَظْهَرُ عَلَیْکُمْ بَعْدِی رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، یَأْکُلُ مَا یَجِدُ وَیَطْلُبُ مَا لا یَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ أَلا وَإِنَّهُ سَیَأْمُرُکُمْ بِسَبِّی وَالْبَراءَةِ مِنِّی، فَأَمّا السَّبُّ فَسُبُّونِی، فَإِنَّهُ لِی زَکَاةٌ، وَلَکُمْ نَجَاةٌ وَأَمّا الْبَراءَةُ فَلا تَتَبَرَّءُوا مِنِّی، فَإِنِّی وُلِدْتُ عَلَی الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَی الْإِیمَانِ وَالْهِجْرَةِ» .

الشرح والتفسیر

إحذروا العدو

کما أوردنا سابقا علی ضوء الأحادیث والروایات أن الإمام علیه السلام تنبیء بحکومة معاویة وما تفضی إلیه هذه الحکومة من مفاسد فقال: «أما إنّه سیظهر علیکم بعدی رجل رحب، البلعوم (1)، مندحق (2)البطن، یاکل ما یجد ویطلب ما لایجد» . یمکن أن تکون العبارة إشارة إلی وضعه الظاهری، حیث تفید بعض الروایات أنّه کان بهذه الصفات، ومن هنا کان أکول، ویمکن أن تکون کنایة عن حالته الروحیة والنفسیة فی ظل الحکومة، فی أنّه حریص وتوسعی ولا یشعبه شیئا من الحکومة، ولا یبعد أن یکون المراد کلا المعنیین الروحی والجسمی أو الحقیقی والکنائی، وذلک لانه جمع النوعین من هذه الصفات.

ثم قال علیه السلام: «فاقتلوه ولن تقتلوه» قطعاً أنّ مخاطب الإمام علیه السلام بهذه العبارة هم أهل العراق، وکان یعلم الإمام علیه السلام بعدم قدرتهم علی ذلک بسبب ضعفهم ووهن ارادتهم فی إتخذا القرار، أو أنّهم قد یستطیعون قتله إلّاأنّهم لایمتلکون الشجاعة والإرادة التی ترفعهم إلی ذلک. أمّا لماذا

ص:407


1- 1) «بلعوم» علی وزن «حلقوم» موضع مرور الطعام، ورحب البلعوم واسعه، أو کنایة لکثرة أکله.
2- 2) «مندحق» من مادة «دحق» علی وزن قطع بمعنی الدفع والابعاد وطرح الشی بعیداً، ولما کان کبر البطن یؤدی اِلی بروزها وکأنّها تطرح بعضها خارجا اِطلق علی الشخص البطین مندحق البطن.

حکم الإمام علیه السلام بقتله، فأوضح بسبب هو ذلک الفساد الذی أشاعه بین المسلمین لیکون مصداقا بارزاً للمفسد فی الأرض إلی جانب سلبه لأمن البلاد الإسلامیة وأخیراً إثارته المعارک التی سفکت فیها دماء المسلمین. وناهیک عما سبق فقد ابتدع تلک البدع العظیمة التی غیرت معالم الدین إضافة إلی أمره بسبب أمیرالمؤمنین علی علیه السلام الذی قال بحقه رسول اللّه صلی الله علیه و آله «من سب علیا فقد سبنی» (1). ثم تنبئ الإمام علیه السلام بهذه المسألة فقال: «إلّا وإنّه سیأمرکم بسبی والبراءة منی» وهذا بدوره یکشف عن مدی الحقد والضغینة التی کان یکنها معاویة لعلی علیه السلام رغم علمه بفضائله التی صرح بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسمعها القاصی والدانی والتی تثبت بطلان حکومته، ومن هنا سعی جاهداً لیحول دون اطلاع أهل الشام علی هذه الاحادیث تمهیدا إلی منعها بالمرة وتحریفها. ثم أصدر أوامره بسب علی علیه السلام من علی المنابر وفی خطب صلاة الجمعة، حتی کان ینبری أحدهم لیقول خیر ما نختتم به خطبتنا سب أبی تراب، وبالطبع فانّ إشاعة السب تعنی عدم إمکانیة التحدث بالفضائل، وهذه أسوأ بدعة ابتدعها معاویة یتعذر تبریرها علی أی متعصب حقود، وما أروع ما قال الشاعر بهذا الشأن: أعلی المنابر تعلنون بسبه وبسیفه نصبت لکم أعوادها (2)

الجدیر بالذکر أنّ بعض بطانة معاویة أذعن إلی أنّ السب بدعة ظالمة لترسیخ دعائم حکومة معاویة، ومنهم مروان بن الحکم، إلّاأنّه لما سئل عن علة السب، أجاب: «إنّه لا یستقیم لنا الأمر ألا بذلک» (3). ثم أوصی الإمام علیه السلام بکیفیة التعامل مع هذه البدعة فقال «فامّا السب فسبونی، فانه لی زکاة ولکم نجاة وأما البراءة فلا تتبرأ وامنی، فانی ولدت علی الفطرة وسبقت إلی الإیمان والهجرة» . ویبدو من هذه العبارة أنّ السب أمر واجب الزامی لا إباحی لأنّه یتضمن حفظ دماء الشیعة وایصال مبادئ مدرسة أهل البیت علیهم السلام. إلّاان هذا الأمر قد یکتسب صفة الاباحة کما عبر عن ذلک علماء الاصول حیث أمر الوجوب یقتصر علی احتمال المنع لتوهم الخطر، ومن هنا فان بعض تلامذه الإمام علیه السلام کرشید الهجری ومیثم

ص:408


1- 1) رواه الحاکم فی کتاب مستدرک الصحیحن 1 / 121 طبعة حیدر آباد.
2- 2) بحارالانوار 45 / 137. [1]
3- 3) الغدیر 10 / 264. [2]

التمار وقنبر وسعید بن الجبیر الذین صمدوا وأبوا سبوا علی حتی قتلوا فأنّهم لم یرتکبو أی خلاف، بل أتوا بعمل عظیم أهلهم للشهادة. ویتضح ممّا سبق بأنّ المؤمن إذا عرض للاساءة من قبل العدو أو دفع الناس لانتهاک حرمته فانّ ذلک لیس فقط لا یحط من قدره فحسب، بل یزیده عزة وکرامة. وهنا یبرز هذا السؤال: ما الفرق بین السب والبراءة بحیث أذن الإمام علیه السلام بالسبب ولم یأذن بالبراءة لثلاث: أولاً: أنّه ولد علی فطرة الإسلام والإیمان، ثانیا: أنّه کان من السابقین للإسلام والتصدیق بالنبی صلی الله علیه و آله، والثالث: سبقه إلی الهجرة من مکة إلی المدینة؟ فقد کثر الکلام بین المفسرین بشأن الفارق بین السب والبراءة، لا یخلو بعضه من التکلف وعدم الاقناع، ویبدو أنّ الاقرب فی الفارق بینهما أحد أمرین: الأول أنّ سب الإنسان قد یکون إشارة إلی سوءه ولا یعطی مفهوم الکفر والشرک، أمّا البراءة فتعنی التبری من دینه ومعتقداته کما ورد ذلک فی الآیة الاولی من سورة التوبة: «بَرآءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلی الَّذِینَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِکِینَ» وعلیه فمفهوم البراءة من الإمام علیه السلام هو البراءة من الدین والإسلام، ومن هنا منع الإمام علیه السلام حتی من البراءة منه باللسان، فالواقع أنّ الإمام علیه السلام أذن بالإساءة إلی شخصه لکنه لم یأذن بالاساءة إلی دینه ولو لفظیاً - والآخر أنّ أغلب الناس یتصورون أنّهم إذا إجبروا علی کلام لا یمکنهم الاقتناع بالألفاظ ولابدّ من أن ترافقه النیّة، ومن هنا فمن اُجبر علی إجراء صیغة الطلاق فانه لابدّ أن یقصد اللفظ والمعنی حین الصیغة، ان کان طلاق المکره باطلاً إلّاأنّه یتضمن قصد الانشاء ولذلک لایستدل الفقهاء علی بطلان هذا الطلاق بعدم قصد المعنی، بل یستندون فی بطلانه علی الاکراه، ویصدق هذا الأمر علی السب، فقصد السب سیئ، الا أنّ قصد البراءة أسوأ، لأنّ الأول یهدف نفی حرمة الإنسان، أمّا الثانی فیهدف البراءة من دینه ومعتقده؛ أی إسلامه ولیس هنالک من مسلم مستعد لهذا العمل. والدلیل علی ذلک الاُمور الثلاث التی ذکرها الإمام علیه السلام فی نهیه عن البراءة:

الأمر الأول: «فانّی ولدت علی الفطرة» . أما کیف عَلّل نهیَه لهم علی البراءة منه علیه السلام، بقوله: «فإنّی ولدْت علی الفطرة» ؛ فإن هذا التعلیل لایختص به علیه السلام، لأن کلّ أحدٍ یولَد علی الفطرة؛ فقد قال النبی صلی اللّه علیه وآله: «کلّ مولدٍ یولد علی الفطرة؛ وإنّما أبواه یهودّانه وینصرانه» .

ص:409

والجواب، أنّه علیه السلام عَلّل نهیه لهم عن البراءة منه بمجموع اُمور وعلل؛ وهی کونه ولد علی الفطرة، وکونه سبق إلی الإیمان والهجرة؛ ولم یعلل بآحاد هذا المجموع، ومراده ها هنا بالولادة علی الفطرة أنّه لم یولَدْ فی الجاهلیة؛ لأنّه ولد علیه السلام لثلاثین عاماً مضت من عام الفیل؛ والنبی صلی اللّه علیه وآله أرسِل لأربعین سنة مضت من عام الفیل؛ وقد جاء فی الأخبار الصحیحة أنّه صلی اللّه علیه وآله مکَث قبل الرسالة سنین عشراً یسمع الصوت ویری الضوء، ولا یخاطبه أحد؛ وکان ذلک إرهاصاً لرسالته علیه السلام فحُکْم تلک السنین العَشْر حکم أیّام رسالته صلی اللّه علیه وآله؛ فالمولود فیها إذا کان فی حجره وهو المتولّی لتربیته مولود فی أیام کأیام النبوّة، ولیس بمولود فی جاهلیة محضة، ففارقت حالُه حال مَنْ یدعی له من الصحابة ممّاثلته فی الفضل. وقد روی أنّ السَّنَة التی ولد فیها علیٌّ علیه السلام هی السنة التی بدئ فیها برسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، فأُسمِع الهُتاف من الأحجار والأشجار، وکشف عن بصره، فشاهد أنواراً وأشخاصاً؛ ولم یخاطَب فیها بشیء. وهذه السَّنَة هی السنة التی ابتدأ فیها بالتبتّل والانقطاع والعزلة فی جبل حراء، فلم یزل به حتی کُوشِف بالرسالة، وأنزل علیه الوحی، وکان رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله یتیّمن بتلک السنة وبولادة عَلیّ علیه السلام فیها، ویسِّمیها سنَة الخَیر وسنة البرکة؛ وقال لأهله لیلة ولادته، وفیها شاهد ما شاهد من الکرامات والقدرة الإلهیة، ولم یکن مِنْ قبِلها شاهد من ذلک شیئاً: «لقد وُلد لنا اللیلة مولود یَفْتَحُ اللّه علینا به أبواباً کثیرة من النعمة والرحمة» ، وکان کما قال صلوات اللّه علیه، فإنّه علیه السلام کان ناصره والمحامیَ عنه وکاشف الغّماء عن وجهه؛ وبسیفه ثبتَ دینُ الإسلام، ورست دعائمه، وتمهّدت قواعده علیه السلام.

الأمر الثانی «وسبقت إلی الإیمان» فقد أجمعت الاُمّة الإسلامیة علی أنّ أول من أسلم بعد خدیجة الکبری علی بن أبی طالب علیه السلام. وتسالم الفریقان علی أنّ علی علیه السلام أول من أسلم. وقال ابن أبی الحدید لم یتردد فی ذلک أحد من علماء الإسلام. (1)

الأمر الثالث: «والهجرة» کیف قال: «إنّه سبق إنّی الهجرة» ومعلوم أنّ جماعة من

ص:410


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 4 / 115. [1]

المسلمین هاجرو اقبله، منهم عثمان بن مظعون وغیره؛ وقد هاجر أبوبکر قبله، لأنّه هارج فی صحبة النبی صلی اللّه علیه وآله؛ وتخلف علیّ علیه السلام عنهما، فبات علی فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله؛ ومکث أیّاماً یردّ الودئع التی کانت عنده، ثم هاجر بعد ذلک؟

والجواب، أنّه علیه السلام لم یقل: «وسبقت کلّ الناس إلی الهجرة» ؛ وإنّما قال: «وسبقت» فقط؛ ولا یدلّ ذلک علی سَبْقه للناس کافة؛ ولا شبهة أنّه سبق معظم المهاجرین إلی الهجرة، ولم یهاجر قبلَه أحد إلّانفر یسیر جداً.

وأیضا فقد قلنا إنّه علّل أفضلیَّته وتحریم البراءة منه مع الإکراه بمجموع أمور: منها ولادته علی الفِطْرة، ومنها سبقه إلی الإیمان، ومنها سَبْقة إلی الهجرة؛ وهذه الاُمور الثّلاثة لم تجتمع لأحد غیره؛ فکان بمجموعها متمیّزاً عن کلّ أحد من الناس.

تأمّلات

1 - علة عدم ذکر الإمام علیه السلام للشخص المقصود بالخطبة

أوردنا سابقاً أنّ کافة القرائن تدل علی أنّ المراد بالشخص الذی بین الإمام علیه السلام صفاته هو معاویة، وذلک لانطباق کافة الاوصاف علیه إلی جانب کونه هو الذی سن سبّ الإمام علیه السلام ولم یبتدع هذاالأمر أحد غیره، ولعل عدم التصریح به یستند إلی رعایة متانة البیان، أو إثارة حس الاطلاع لدی الاُمّة لتقف بصورة أعمق علی هذا المطلب ولا سیما بالاستناد إلی هذه الصفات، أضف إلی ذلک فانّ الخطبة حیث تضمنت بعض النبوءات الصریحة فانّ الإمام علیه السلام لم یشئ الافصاح أکثر عن هذه الموضوع.

2 - لماذا حکم الإمام علیه السلام بهدر دم معاویة؟

لقد صرّح الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة بقتل من إشتمل علی هذه الصفات، کما قال ولن تقتلوه. والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: لم هدر الإمام علیه السلام دمه؟ والجواب واضح لدی العلماء والفقهاء، لأنّ من یخرج علی الإمام المعصوم فهو ناصبی خارج من ربقة الإسلام، وقد خرج علی إمام ثبتت إمامته بنص رسول اللّه صلی الله علیه و آله وعن طریق بیعة الاُمّة. أضف إلی ذلک فقد رسخ

ص:411

معاویة أساس الفساد فی الأرض وبابشع وأوسع صوره، وقد جیش الجیوش ضد الإمام علیه السلام حتی سالت أنهاراً من الدماء فی تلک المعارک. إلی جانب بعثه ببعض أشقیائه لشن الغارات تلو الغارات علی مناطق العراق المعروفة وأخیراً قتله لمحمد بن أبی بکر ومالک الأشتر وسائر کبار صحابة الإمام علیه السلام لتجعله فی مصاف المفسدین فی الأرض والذی حکم القرآن بهدر دمهم. فاذا کان هناک بعض الأفراد المتعصبین الذین لایکترثون لکل هذه الأعمال ویبررونها باسم الاجتهاد فلنا کلام آخر. فقد ورد فی الحدیث الشریف أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال: «یا علی حربک حربی وسلمک سلمی» (1)وکلنا نعلم بأنّ حرب رسول اللّه صلی الله علیه و آله تجب الکفر حیث یصطلح علی من یحاربه بالکافر الحربی الذی یباح دمه. وورد فی حدیث آخر أنّ ابن عباس کان قد کف بصره فمر بجماعة یتحدثون فسأل دلیله ماذا یقولون: أجاب: یسبون علیاً علیه السلام. قال فاحملنی إلیهم ثم سألهم: لم تسبون اللّه؟ قالوا سبحان اللّه من سبّ اللّه فقد کفر، قال: فمن منکم سبّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله؟ قالوا سبحان اللّه من سب رسول اللّه صلی الله علیه و آله فهو کافر. قال فمن سبّ علیاً علیه السلام؟ قالوا: نعم نحن سببناه. قال ابن عباس فانّی أشهد اللّه أنی سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال «من سب علیاً فقد سبنی ومن سبنی فقد سب اللّه عزوجل ومن سب اللّه أکبه اللّه علی منخریه فی النار. ثم التفت ابن عباس إلی دلیله وقال له: کیف رأیتهم. فانشد یقول: نظروا إلیک باعین محمرة نظر التیوس إلی شفار الجارز

قال ابن عباس: فداک أبوک زدنی. فقال: خزر العیون نواکس أبصارهم

ومن الطبیعی أنّ الحکم المذکور إذا کان السب یستند إلی الإرادة والاختیار ویستثنی منه الاکراه والتهدید والاجبار.

جدیر بالذکر أنّ ابن أبی الحدید قال، لو إفترضا أنّ النبی صلی الله علیه و آله لم ینص علی خلافة علی علیه السلام

ص:412


1- 1) إحقاق الحق 6 / 440 - 441. [1]

أفلم یسمع معاویة قوله صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام: «أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت» وقوله: «حربک حربی وسلمک سلمی» (1)ومن الطبیعی أنّ من یحارب رسول اللّه صلی الله علیه و آله یهدر دمه، وعلیه فالذی یحارب الإمام علیه السلام یهدر دمه.

3 - تأریخ سب الإمام علی علیه السلام

قوله علیه السلام: «یأمرکم بسبِّی والبراءة منی» ، فنقول: إنّ معاویة أمر الناس بالعراق والشام وغیرهما بسبّ علیّ علیه السلام والبراءة منه.

وخطب بذلک علی منابر الإسلام، وصار ذلک سنة فی أیّام بنی أمیة إلی أنْ قام عمر بن عبدالعزیز رضی اللّه تعالی عنه فأزاله. وذکر شیخُنا أبوعثمان الجاحظ أنّ معاویة کان یقول فی آخر خطبة الجمعة: اللّهم إِنّ أباتراب ألْحَد فی دینک، وصدّ عن سبیلک فالعنه لعناً وبیلاً، وعذبه عذاباً ألیماً. وکتب بذلک إلی الآفاق، فکانت هذه الکلمات یُشار بها علی المنابر؛ إلی خلافة عمربن عبدالعزیز.

وذکر أبو عثمان أیضاً أنّ هشام بن عبدالملک لما حجّ خطب بالموسم، فقام إلیه إنسان، فقال: یا أمیرالمؤمنین، إن هذا یومٌ کانت الخلفاء تستحبّ فیه لعنَ أبی تراب، فقال: اکفف، فما لهذا جئنا.

وذکر المبرّد فی "الکامل" أنّ خالد بن عبداللّه القسری لَمّا کان أمیر العراق فی خلافة هشام، کان یلعن علیّاً علیه السلام علی المِنْبر، فیقول: اللهمّ الْعن علیّ بن أبی طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، صهر رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله علی ابنته، وأبالحسن والحسین! ثم یقبل علی الناس، فیقول هل کَنَّیت!

وروی أبو عثمان أیضاً أنّ قوماً من بنی أمیّة قالوا لمعاویة: یا أمیرالمؤمنین، إنّک قد بلغتَ ما أمّلت، فلو کففت عن لَعْن هذا الرجل! فقال: لا واللّه حتی یربوَ علیه الصغیر، ویهرم علیه الکبیر، ولا یذکر له ذاکرٌ فضلاً!

ص:413


1- 1) نهج البلاغة لابن أبی الحدید 18 / 24. [1]

قال محمد بن الحنفیة فی علی علیه السلام: کان یدَ اللّه علی أعداءاللّه، وصاعقةً من أمره أرسله علی الکافرین والجاحدین لحقّه، فقتلهم بکفرهم فشنئوه وأبغضوه، وأضمروا له الشّنف والحسد، وابن عمه صلی اللّه علیه وسلّم حیّ بعدُ لم یمت؛ فلما نقله اللّه إلی جواره، وأحبّ له ما عنده، أظهرتْ له رجال أحقادها، وشفَتْ أضغانها، فمنهم مَن ابتزّ حقه، ومنهم من ائتمر به لیقتله، ومنهم مَنْ شتمه وقذفه بالأباطیل؛ فإن یکن لذرّیته وناصری دعوته دولة تنشر عظامهم، وتحفِر علی أجسادهم؛ والأبدانُ منهم یومئذ بالیة، بعد أن تقتل الأحیاء منهم، وتذلّ رقَابهم، فیکون اللّه عزّ اسُمه قد عذَّبَهُم بأیدینا وأخزاهم؛ ونصرنا علیهم، وشَفَا صدورَنا منهم؛ إنّه واللّه ما یشتم علیاً إلّاکافر یُسِرّ شتم رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله ویخاف أن یبوحَ به، فیکنی بشتم علیّ علیه السلام عنه. ما إنّه قد تخطّت المنیةُ منکم مَن امتدّ عمره، وسمع قولَ رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله فیه: «لا یحبّک إلا مؤمن ولا یُبغضک إِلّا منافق، وسیعلم الذین ظلموا أی منقلب ینقلبون» .

4 - التقیة وسیلة دفاعیة

تطرق بعض شرّاح نهج البلاغة هنا إلی موضوع التقیة وشرعیتها، ولا بأس أن نتعرض إلیها هنا بصورة مختصرة ونوکل الخوض فی التفاصیل إلی محلها. فالتقیة بالمعنی اللغوی إجتناب الشیء بینما ذکروا لها عدة تعاریف إصطلاحیة، أهمها إخفاء العقیدة أو الدین خوف الضرر أو لمصلحة من المصالح ومنها حفظ الوحدة واجِتناب الاختلاف أمام الأعداء. ویستند هذا المعنی إلی القرآن الذی تحدث عن أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین کانوا قلة: «لا یَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِینَ وَمَنْ یَفْعَلْ ذ لِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیءٍ» ثم قال: «إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» (1)، فقد تحدثت الآیة صراحة عن التقیة بما لایبقی من مجال للشک فیها. أما قصة تقیة عمار ونطقه ببعض الکلمات ضد الإسلام والنبی صلی الله علیه و آله أمام المشرکین

ص:414


1- 1) سورة الاعمران / 28.

فهی مشهورة معروفة، فقد إضطر لتلک الکلمات، ثم أتی رسول اللّه صلی الله علیه و آله باکیاً خشیة فساد دینه وإیمانه، فهدأه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی أنّ الاکراه هو الذی دفعه إلی ذلک فلا ضرر علی دینه وأنّ اللّه أنزل بحقه قرآناً: «مَنْ کَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِیمانِهِ إِلّا مَنْ أُکْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمانِ» (1)«وَلکِنْ مَنْ شَرَحَ بِالکُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ» (2)النموزج الآخر للتقیة ما ورد فی سورة غافر بشأن مؤمن آل فرعون: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ یَقُولَ رَبِّیَ اللّهُ وَقَدْ جاءَکُمْ بِالبَیِّناتِ مِنْ رَبِّکُمْ» (3)فالقرآن یثنی علی هذا المؤمن ویستحسن کلامه ویصرح برضی اللّه بتقیته. کما تظافرت الروایات الإسلامیة التی أکدت علی أهمیة التقیة لتصفها بانّها تقی المؤمن مخاطر الأعداء وتحفظ دمه وأن التقی من الدین، ومن لا تقیة له لا دین له، والإیمان بلا تقیة کالجسد بلا رأس، وأنّها من أفضل الأعمال، ولا نری البحث یتسع للخوض فی التفاصیل، ومن أراد المزید فلیرجع إلی القاعدة السابعة من المجلد الأول لکتاب القواعد الفقهیة. أضف إلی ذلک فانّ فلسفة التقیة واضحة، وهی أنّ اظهار العقیدة الباطنیة أحیاناً قد یسبب بعض الأخطار علی النفس والعرض والمال دون أن تترتب علیه أیة فائدة، فالعقل یحکم بضرورة عدم إهدار القوی والطاقات عبثاً، ولابدّ من حفظها بواسطة التقیة واستثمارها فی المواقع المطلوبة. ولعل هذا هو المعنی المراد بوصفها بترس المؤمن أو جنة المؤمن. فالواقع هو أنّ التقیة لا تعنی الفرار من المسؤولیة، بل هی أشبه بالتکتیک الحربی عن طریق الاستتار وإعادة تنظیم القوة واللجوء إلیها فی الوقت المناسب.

ج ج

ص:415


1- 1) - أجمع مفسرون الفریقین أنّ هذه الآیة نزلت فی عمار، وصحیح أن عمار اجبر علی الکفر إلّاأنّه تظاهربأنّه تکلم من خلال الاعتقاد بذلک وأنّه رجع عن دین محمد لیترکوه ویحفظ دمه.
2- 2) سورة النحل / 106. [1]
3- 3) سورة غافر / 28. [2]

ص:416

الخطبة الثامنة و الخمسون

اشارة

(1)

ومن کلام له علیه السلام

کلم به الخوارج حین اعتزلوا الحکومة وتنادوا:

لا حکم إلّااللّه

نظرة إلی الخطبة

تفید عبارات هذه الخطبة أنّ الخوارج ذهبوا إلی أنّ الحکم للّه بعد أن فرضوا التحکیم علی الإمام علیه السلام ورجعوا عنه، وأن من ینکر ذلک الشعار قد خرج من الدین، ثم إندفعوا أبعد من ذلک لیتهموا علی علیه السلام بالخروج من الإسلام لقبوله التحکیم وعلیه أن یتوب. والحال أنّ التحکیم فرض علی الإمام علیه السلام، ولو فرضنا ان الإمام علیه السلام إقترح ذلک فاصل التحکیم لایخالف الإسلام، وانحرف فی صفین واستغل من قبل معاویة. علی کل حال فان الإمام علیه السلام یدعو علیهم ویذکرهم بسوء مقالتهم، ثم یخبر عن المستقبل المظلم للخوارج والذل الهوان الذی ینتظرهم.

ج ج

ص:417


1- 1) سند الخطبة: اورد بعض هذه الخطبة قبل السید الرضی (ره) إبن قتیبة فی کتاب الإمامة والسیاسة وابن الجوزی فی تذکرة الخواص والطبری فی المسترشد، کما نقل ابن أثیر فی کتاب النهایة عدة إحتمالات وردت بشأن بعض مفردات الخطبة وهذا یشیر أنّه حصل علیها من عدة نسخ (مصادر نهج البلاغة، 2 / 36) .

ص:418

«أَصابَکُمْ حاصِبٌ، وَلا بَقِیَ مِنْکُمْ آثِرٌ، أَبَعْدَ إِیمانِی بِاللّهِ وَجِهادِی مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلی الله علیه و آله أَشْهَدُ عَلَی نَفْسِی بِالْکُفْرِ! لَقَدْ «ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنا مِنَ الْمُهْتَدِینَ» فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَارْجِعُوا عَلَی أَثَرِ الْأَعْقَابِ، أَمَا إِنَّکُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِی ذُلًّا شامِلاً وَسَیْفاً قاطِعاً وَأَثَرَةً یَتَّخِذُها الظّالِمُونَ فِیکُمْ سُنَّةً» .

الشرح والتفسیر

فضاعة مظلومیة الإمام علیه السلام

کما ذکرنا أنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة حین رأی الخوارج التحکیم فی صفین ثم رجعوا عنه ورفعوا شعار «لا حکم إلّاللّه» وطالبوا الإمام علیه السلام بالتوبة لقبوله التحکیم لیلتحقوا به فیقاتلوا أهل الشام، فقال علیه السلام: «أصابکم حاصب، ولابقی منکم آثر، أبعد إیمانی باللّه وجهادی مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله أشهد علی نفسی بالکفر، لقد «ظللت إذا وما أنا من المهتدین» .

یالها من مصیبة أن یبتلی بهؤلاء الحمقی فرد مثل علی علیه السلام أول من آمن باللّه ورسوله صلی الله علیه و آله ووقف إلی جانبه فی جمیع الغزوات - ألا فی البعض التی استخلفه فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله - وثبت فی المواقع التی تنکص فیها الابطال لیسقی شجرة الإسلام والتوحید بلسانه وسیفه، فیطالبه اُولئک الحمقی بالاعتراف بالکفر والتوبة. ولعل تأریخ الإسلام لم یشهد مثل هذه الحادثة المروعة، ومن هنا نقول بأنّ مظلومیة الإمام علیه السلام کانت وما زالت تفوق من سواه. وکما صرح علیه السلام فی الخطبة السابقة: «فانّی ولدت علی الفطرة وسبقت إلی الإیمان والهجرة» ؛ الأمر الذی أکده علماء الفریقین وأنه لم یشرک باللّه طرفة عین أبداً أنّه خاض غمار الجهاد مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی کافة الغزوات سوی تبوک حین کلفه النبی صلی الله علیه و آله بحفظ المدینة، العبارة «أصابکم حاصب» وبالالتفات إلی أنّ المراد بالحاصب الریح الشدیدة التی تثیر الحصباء بحیث قد تدفن أحیاناً قافلة، تفید الدعاء علیهم فی أن یرسل اللّه علیهم العذاب السماوی، کما یمکن

ص:419

أن تکون کنایة عن المشاکل الاجتماعیة التی تعصف بحیاتهم والعبارة «ولا بقی منکم آثر» واستناد إلی أنّ المقصود بالأثر الشخص الذی یأثر الحدیث، أی یرویه، فکأنّه قال علیه السلام لابقی منکم مخبر وهلکتم بأجمعکم (طبعاً نقلت هذه المفردة بعدة صور ذات معان مختلفة سنعرض لها فی شرح کلام السید الرضی آخر الخطبة» . ثم تساءل الإمام علیه السلام باستغراب عن ذلک الطلب المشین وهو من روّی شجرة الإسلام بجهاده العظیم ومواقفه المشهودة وشده أزر رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فهو أول من آمن وأسلم وهاجر، فهل لمثل هذا الفرد أن یضل وینحرف عن السبیل. ثم أشار علیه السلام إلی موضوعین، الأول دعاؤه علیهم «فأبوا (1)شرمآب وارجعوا علی أثر الاعقاب» (2)فقد دعا علیهم فی العبارة الاولی سائلاً اللّه لهم الذلة والهوان فی الدنیا والآخرة، وفی العبارة الثانیة سأل اللّه أن یبتلهیم بما ابتلی به مشرکی الجاهلیة الذی کانوا علی غرار الخوارج یرون آیات اللّه ثم یجحدونها. وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ قوله: «ارجعوا. . .» أراد به توبوا، بینما تفید قرینة هذا القول انه استمرار للدعاء السابق. والثانی نبوءته بمستقبلهم «أما ارنکم ستلقون بعدی ذلا شاملا وسیفاً قاطعاً وأثرة یتخذها الظالمون فیکم سنة» جدیر بالذکر أنّ نبوء الإمام علیه السلام بحق الخوارج قد تحققت حیث ابیدوا فی مختلف الحروب وتجرعوا الذل والهوان. وقد أفرد ابن أبی الحیدد فصلا أسماه أخبار الخوارج وذکر رجالهم وحروبهم لیخوض فی تفاصیل أحداث زعمائهم وسنتطرق إلی ذلک فی الأبحاث القادمة.

قال السید الرضی (ره) شارحاً بعض مفردات الخطبة: قوله علیه السلام «ولا بقی منکم آبر» یروی علی ثلاثة أوجه: أحدها أن یکون کما ذکرناه: آبر بالراء، من قولهم للذی یأبر النخل - أی یصلحه - ویروی «آثر» وهو الذی یأثر الحدیث ویرویه أی یحکیه، وهو أصح الوجوه عندی، کأنّه قال: لا بقی منکم مخبراً، ویروی آبز - بالزای المعجمة - وهو الواثب. والهالک أیضاً یقال له «آبز» .

ج ج

اثرة اسم مصدر من مادة استئثار بمعنی الاستبداد.

ص:420


1- 1) «أوبوا» من مادة «أوب» علی وزن قوم بمعنی الرجوع، کما تطلق هذه المفردة علی السحاب والریاح بسبب الرجوع فیها.
2- 2) أعقاب جمع عقب بمعنی کعب الرجل، کما تطلق علی الأثر الذی یترکه علی الأرض، وهی هنا کنایة عن الأجیال السابقة.

الخطبة التاسعة والخمسون

اشارة

(1)

وقال علیه السلام

لما عزم علی حرب الخوارج، وقیل له: إنّ القوم عبروا جسر النهروان.

«مَصارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ وَاللّهِ لا یُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَلا یَهْلِکُ مِنْکُمْ عَشَرَةٌ» .

الشرح والتفسیر

هل من سبیل لعلم الغیب

لاشک ولا ریب أنّ الرسول الکریم صلی الله علیه و آله وائمة العصمه علیه السلام قد أخبروا کراراً عن الاُمور الغیبیة، وبعبارة اُخری لهم علم بالغیب، القرآن تحدث عن المسیح علیه السلام فی أنّ العلم بالغیب کان یمثل إحدی معجزاته فقال «وَأُنَبِّئُکُمْ بِما تَأْکُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ» (2)کما یختتم هذه الآیة بان ذلک من آیات اللّه وصدق دعوی نبوته.

وقد حفل نهج البلاغة ومنه هذا الکلام بالأخبار عن المغیبات. أمّا أنی للإمام علیه السلام بعلم الغیب؟ ما حدود علم المعصوم بالغیب؟ وما تفسیر الآیات التی حصرت علی الغیب باللّه؟ وکیف تفسر الروایات الواردة بشأن إثبات هذا العلم للمعصومین؟ وما إلی ذلک من أسئلة واستفسارات فقد أوکلنا الإجابة علیها فی شرح الخطبة 128.

ص:421


1- 1) سیأتی سند هذا الکلام ذیل الخطبة رقم 60 فهی تشیر إلی نفس الموضوع.
2- 2) سورة آل عمران / 49. [1]

ص:422

الخطبة الستون

اشارة

(1)

و قال علیه السلام

لما قتل الخوارج فقیل له: یا أمیرالمؤمنین هلک القوم بأجمعهم

«کَلاَّ وَاللّهِ، إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِی أَصْلابِ الرِّجالِ، وَقَراراتِ النِّساءِ، کُلَّما نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ حَتَّی یَکُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِینَ.»

الشرح والتفسیر

مصیر الخوارج

هذا الکلام إستمرار لما ورد فی الأبحاث السابقة بشأن الخوراج. وهنا أشار الإمام علیه السلام إلی بعض النبوءات بشأن الخوارج؛ الأمر الذی یمکن اعتباره من معاجزه علیه السلام فقد إستهل کلامه بالرد علی بعض أصحابه ممن قال له: یا أمیرالمؤمنین هلک القوم بأجمعهم فقال: «کلا واللّه، إنهم نطف فی أصلاب الرجال وقرارت (2)النساء» فحتی لو قتل هؤلاء، فهناک النطف التی

ص:423


1- 1) سند الخطبة: قال صاحب کتاب مصادر نهج البلاغة بعد أن جمع الخطبة 59 و60 بشأن هذا الکلام رواه المبرد فی الکامل (والمبرد من علماء القرن الثالث الهجری) ونقل بعضه البیهقی فی المحاسن والمساوئ والمسعودی فی مروج الذهب ثم مدح ابن أبی الحدید فی انه قال: هذا من الأخبار المشهورة القربیة من التواتر ومن معجزاته الغیبة علیه السلام. مصادر نهج البلاغة، 2 / 37. [1]
2- 2) «قرارات» من مادة «قرار» ، وقرارت النساء أرحامهن حیث تنعقد النطفة لمدة فی الرحم فتقر هناک، وقال القرآن «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِی قَرارٍ مَکِینٍ» ، سورة المؤمنون / 13. [2]

ستلد فی المستقبل وتقتفی آثار الخوارج، وهذا ما حصل بالفعل حیث ظهر مثل هؤلاء الأفراد بعد سنوات، بل قرون لینتهجوا ذات السبیل الذی سلکه أوائلهم. أضف إلی ذلک وکما أشیر سابقا فقد نجی تسعة أفراد من أصحاب النهروان وفروا إلی مختلف المناطق لیرمموا هذه المدرسة الفاسدة ویعیدوا بنائها ممن جانب آخر فاننا نعلم بأنّ من حضر النهروان لم یکونوا جمیع الخوارج، بل الخوارج. ثم اماط اللثام عن تبوءة اُخری فقال علیه السلام: «کلما نجم (1)منهم قرن قطع» فالعبارة إشارة إلی وحشیة الخوارج من جهة وأنّهم کالحیوان الذی له قرن لاذی الآخرین، ومن جهة اُخری یشیر إلی الانتکاسات المتتالیة والهزائم المتتابعة التی یمنی بها الخوارج طیلة حیاتهم المقیتة؛ الأمر الذی تحقق تأریخیاً وسنتعرض له فی البحث القادم. ثم یختتم الإمام علیه السلام کلامه قائلاً: «حتی یکون آخرهم لصوصا سلابین» وهذا هو الأمر الآخر الذی ثبت تحققه تأریخیاً، حیث تعرض أرباب التأریخ إلی عدد من مشهوری الخوارج ممن تحولوا إلی لصوص خطرین، وسنعرض لهذا الأمر بالتفصیل لاحقاً.

تأمّلات

1 - الخوارج ظاهرة لافرقة

یستفاد من کلام الإمام علیه السلام أنّ الخوارج لم یکونوا فرقة معینة، یقدر ما کان یراهم الإمام علیه السلام ظاهرة حیة طیلة التأریخ الإسلامی، حتی أنّ القرائن تفید أن هذه الظاهرة کانت علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فقد أورد المفسر الجلیل المرحوم الطبرسی عن أبی سعید الخدری فی ذیل الآیة «وَمِنْهُمْ مَنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقاتِ. . .» (2)أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین قسم غنائم قبیلة هوازن علی المسلمین یوم حنین قام إلیه حرقوص بن زهیر وقال: اعدل یا محمد! فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: فمن ذا یعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر: دعنی أضرب عنقه یا رسول اللّه، فقال صلی الله علیه و آله: «دعه فان له أصحابا یحقر أحدکم صلاته مع صلاتهم وصیامه مع صیامهم یمرقون من الدین کما یمرق السهم من الرمیة» وأضاف المرحوم الطبرسی وجاء فی حدیث آخر أنّ النبی صلی الله علیه و آله قال:

ص:424


1- 1) «نجم» من مادة «نجم» علی وزن حجم بمعنی الطلوع، کما یطلق علی کل ظهور وطلوع مفاجیء.
2- 2) سورة التوبة / 58. [1]

«فاذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» فترلت الآیة المذکورة: «وَمِنْهُمْ مَنْ یَلْمِزُکَ فِی الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ یُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ یَسْخَطُونَ» . فالواقع أنّ هذه الکلمات تفید إمتداد الجذور الفکریة للخوارج إلی عصر النبی صلی الله علیه و آله وأنّهم لم یکونوا یتورعون حتی عن مجابهة النبی صلی الله علیه و آله إذا تعرضت مصالحهم للخطر. ونقل ابن أبی الحدید عن مسند أحمد بن حنبل أنّ عائشة سألت مسروق: هل عندک علم من المخدج (أحد زعماء الخوارج) ؟ فقلت: نعم، قتله علی بن أبی طالب علی نهر قالت عائشة: إبغنی علی ذلک بینة. فأقمت رجالاً شهدوا عندها بذلک. قال فقلت لها: سألتک بصاحب القبر، ما الذی سمعت من رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیهم؟ فقالت: نعم سمعته یقول: «إنّهم شر الخلق والخلیقة یقتلهم خیر الخلق والخلیقة وأقربهم عنداللّه وسیلة» (1). هذا ویمکن ایجاز ممیزات الخوارج فیمایلی: إنّهم طائفة تعنی کثیراً بظواهر العبادات وحتی المستحبات والمکروهات البسیطة وهذا ما جعلهم یعیشون الغرور ویشعرون بالعجب، وبالمقابل کانوا أفراد جاهلین متعصبین خارجین عن حدود الادب والخلق، ولا یتورعون عن أقذر الأسالیب من أجل تحقیق مآربهم، وأفضل نموذج علی ذلک سوء خلق «ذو الخویصرة» (حرقوص) وفضاضته تجاه النبی صلی الله علیه و آله. صحیح أنّ الخوارج ظهروا فی صفین بعد التحکیم إلّاأنّ هذا لایعنی عدم وجود إمتداداتهم الفکریة لما قبل عصر الإمام علیه السلام ومازلنا إلی الیوم نلمس ثقافتهم وأفکارهم المنحطة لدی بعض طبقات وفئات مختلف المجتمعات البشریة، ولعل أغلب الوهابیین ینتمون إلی هذه الزمرة، لأنّهم یتصفون بصفاتهم. کما نری فی أوساطنا بعض الأفراد الشدیدی الالتزام بقشور الدین بینما یرون إنحراف کبار علماء الدین عن الصراط المستقیم ویسعون جاهدین لاثارة البلابل والفتن. ولایبدو القتال علاجاً لمرض هذه الفئة الضلالة، بل علاجها یکمن فی رفع المستوی الثقامی للاُمّة وانفتاحها علی المسائل الدینیة والعقائدیة؛ الأمر الذی صرح به الإمام علیه السلام فی الخطبة القادمة. وقد أشار الإمام علیه السلام فی الخطبة السادسة والثلاثین إلی مدی جهل هؤلاء الأفراد فقال «وأنتم معاشر أخفاء الهام، سفهاء الاحلام ولم آت - لا أبالکم - بجرا ولا أردت

ص:425


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 267. [1]

لکم ضراً» . وکفی هذه الفرقة ضلالة وانحرافاً وفضاضة ما فعلته بصحابی النبی صلی الله علیه و آله عبداللّه بن الخباب المعروف بورعه وتقواه وزوجته الحاملة حیث قتلتها بتلک الطریقة البشعة وبقرت بطن زوجته لأنّهما لم یتنکراً لعلی علیه السلام بینما کانت تستشکل قتل الیهودی، بل کانت لاتری جواز قتل الخنزیر. بل کانوا یشکلون علی أحدهم إذا تناول تمرة مهملة تحت شجرة دون إذن صاحبها، بینما لایتورعون عن سفک دماء کبار صحابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأمیرالمؤمنین علیه السلام. کان هنالک تناقضاً واضحاً بین ظاهرهم وباطنهم وأقوالهم وأفعالهم، حتی إمتد ذلک التناقض إلی عقائدهم الفقیهة والکلامیة، فکانوا یرون وجوب قتل مرتکب الکبیرة، بینما یعتقدون بعدم الحاجة إلی الحاکم رغم الفوضی والهرج والمرج الذی یسود المجتمع. وتفید القرائن أنّهم کانوا مفرطین فی المسائل الجنسیة وغارقین فی الشهوات، ولعل هذا ما جعلهم یجوزون العقد علی تسع نساء، ولا یرون الرجم عقوبة لمن زنا وهو محصن. ومن الطبیعی أن تتفرع هذه الفرقة عدة فروع بفعل ذلک الجهل والتعصب والحمق، ومن هنا لم تمض علیها مدة حتی انقسمت فرقاً لکل منها زعیم من قبیل الازارقة والنجدات والصفریة والعجاردة والثعالبة وما تشابه ذلک. لعلنا نلمس هذه الفرقة الیوم فی الوهابیة التی تعیش التمسک بظاهر العبادات وتتحرج فی المکروهات والمباحات وتؤدی المستحبات، بینما تکفر أغلب المسلمین من السنة والشیعة وتبیح دمائهم، ورغم ضحالتهم الفکریة وجمودهم إلّاأنّهم یرون أنفسهم أفضل من غیرهم، فهم کالخوارج یرون أنفسهم الحق المطلق وما سواهم باطلاً.

2 - الخوارج لصوصا سلابین

یشهد التأریخ بتحقق ما أخبر به الإمام علیه السلام عن الخوارج من أنّ آخرهم لصوصاً سلابین. فمن بین الأفراد الذین ذکرهم ابن أبی الحدید الذی آل أمرهم إلی السرقة والسلب: الولید بن طریق الشیبانی علی عهد هارون الرشید. فبعث له هارون بیزید بن مزید هو من بنی شیبان فقتله وأتاه برأسه وابن عمرو الخثعمی علی عهد المتوکل العباسی الذی عرف بقطعه للطرق، فبعث له بأبی سعید محمد بن یوسف الطائی، إلّاأنّه هرب بینما قتل جمع کثیر من صحبه وأسر آخرون. ثم ظهرت جماعة منهم فی منطقة کرمان وعمان فکانوا مفسدین فی الأرض ومحاربین،

ص:426

أما أسماؤهم فقد أحصاها أبو اسحاق الصابی فی کتاب التاجی. (1)

تم المجلد الثانی لشرح نهج البلاغة

لقد إنتهی المجلد الثانی من الشرح باختتام الخطبة الستین، ولا یسعنی هنا إلّاأن ابتهل إلی اللّه بفائق الشکر لما وفقنی من القیام بهذا العمل المتواضع سائلاً إیاه الاخذ بیدی إلی إتمام هذا العلم، کما أسأله أن یوفقنا لأن نعیش هذه الکلمات علی مستوی القلب والعمل فتقودنا إلی سعادة الدنیا والآخرة. وما توفیقی إلّاباللّه علیه توکلت وإلیه أنیب، وآخر دعوانا أن الحمدللّه رب العالمین.

السابع من صفر عام 1419

الولادة المیمونة للإمام الکاظم علیه السلام

ص:427


1- 1)شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 5 / 73 - 76. [1]

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.